كنتُ أظن أن الليل سيمنحني شيئًا من السلام، لكنه كان أثقل من الصباحات الموحلة بالحزن. الظلام في قصر درافينور لم يكن سوى مرآةٍ أخرى لقلبي… موحش، بارد، محاصر.
كنتُ جالسة على مقعدٍ قرب النافذة، أراقب الأضواء البعيدة للمشاعل التي تلمع عند أسوار القصر، حين تسلّلت سيلينا إلى الغرفة، بصمتها المعتاد، لكنها هذه المرة بدت مترددة، كأنها تحمل خبرًا أثقل من خطواتها.
همست:
“سمو الأميرة… سمعتُ شيئًا في السوق اليوم.”
التفتُ إليها ببطء، وفي داخلي شعور بالرهبة، كأن أي خبرٍ قد يكون خيطًا جديدًا يقودني إلى الحقيقة… أو يقودني إلى هاوية أعمق.
“تحدثي يا سيلينا.”
اقتربت وجلست قبالتي، ملامحها مضطربة، لكنها تحاول أن تبدو هادئة.
“الناس يتحدثون عن مستشارٍ في البلاط… غرايسون. يقولون إنه كثير الحركة في الخفاء، يلتقي برجالٍ من خارج القصر، ويعود دائمًا وفي يده أوراق أو صناديق صغيرة. بعضهم يقول إنه يعمل لصالح الإمبراطور، وبعضهم يعتقد أنه ينسج خيوطًا تخصك أنتِ.”
تجمد قلبي لحظة. اسم جديد يطفو فوق سطح بحر الأسرار.
“غرايسون…” كررتُ ببطء، وكأنني أختبر وقع الاسم على لساني.
منذ أن بدأتُ البحث عن القلادة والسم، كنت أعلم أن الطريق سيقودني إلى شخص من داخل البلاط. أوريان أخبرني أن الخائن قريب… أقرب مما أتخيل. فهل يكون هذا الغامض هو الذي نسج كل تلك الخيانة؟ أم أنه مجرد ظل آخر من ظلال البلاط العفنة؟
لمحت القلق في عيني سيلينا، فوضعت يدي على يدها.
“علينا أن نقترب منه. لا يمكن أن نكتفي بالهمسات. لكن… يجب أن نكون حذرتين.
في اليوم التالي، كان القصر يعج بالضيوف. مأدبة صغيرة أقامها الإمبراطور لاستقبال بعض التجار النبلاء. فرصة مناسبة لرؤية الوجوه التي تختفي عادة خلف الجدران.
ارتديت ثوبًا بسيطًا بلونٍ قاتم، لا يلفت النظر، وجلست في زاوية القاعة، محاطة ببعض السيدات اللاتي تبادلن أحاديث مملة عن الأزياء والذهب. بينما كنت أساير أحاديثهن بابتسامة باردة، وقع بصري عليه.
غرايسون.
كان يقف قرب أحد الأعمدة الرخامية، طويل القامة، ذو ملامح هادئة وابتسامة باهتة لا تكشف شيئًا. عيناه رماديتان، فيهما غموض لا يمكن الإمساك به، كأنه يراك دون أن تراه فعلًا.
شعرت بقشعريرة تسري في جسدي.
(هل يمكن أن يكون هذا الرجل قد أمسك بالقلادة بيديه؟ هل يمكن أن يكون هو من حرّك الخيوط التي مزقت حياتي؟)
لم أنتبه أنني كنت أحدّق به طويلًا حتى التفت فجأة، ونظر إلي مباشرة. التقت أعيننا للحظة قصيرة، لكنها بدت وكأنها دهور. لم يبتسم، لم يشيح بوجهه… فقط حدّق بي كأنه يقرأ ما في أعماقي.
سارعت بخفض بصري، أحاول أن أبدو منشغلة بالحديث، لكن قلبي كان يخفق بعنف.
بعد قليل، اقتربت منا إحدى السيدات النبيلات وهمست لي:
“غريب أمر هذا الرجل… هادئ دومًا، لا يضحك ولا يغضب. يقولون إنه أقرب الناس لآذان الإمبراطور، وإنه يعرف أسرار كل بيت في المملكة.”
(يعرف الأسرار…؟) تساءلت في داخلي، ثم قررت أن أجازف.
حين انتهت المأدبة، خرجتُ إلى الشرفة لأتنفس قليلًا. كان القمر نصف مكتمل، يضيء السماء بخجل. وفجأة سمعت صوت خطواتٍ خلفي. التفتُّ… كان غرايسون.
اقترب بخطوات ثابتة، ثم انحنى قليلًا باحترام:
“سمو الأميرة.”
صوته كان هادئًا، عميقًا، لا يحمل عداءً صريحًا ولا ودًّا صافيًا. مجرد نبرة متزنة كأنها محسوبة.
حاولت أن أبدو ثابتة:
“أيها المستشار… لم أرك كثيرًا من قبل.”
ابتسم ابتسامة صغيرة بالكاد تُرى:
“أنا رجل الظلال، يا مولاتي. نظهر فقط حين تدعو الحاجة.”
كلماته أرسلت قشعريرة أخرى في جسدي. رجل الظلال… يا لها من عبارة مرعبة.
قلتُ وأنا أحاول جس نبضه:
“إذا كنتَ رجل الظلال، فلا بد أنك ترى ما لا يراه غيرك.”
حدّق بي مطولًا، ثم قال بنبرة خافتة:
“وأنتِ… ترين ما لا يريد الآخرون أن تريه.”
شعرت أن قلبي سقط في هاوية. هل يقصد القلادة؟ هل يعلم أنني أبحث عن الحقيقة؟
سكتُ للحظة، ثم سألته بجرأة مترددة:
“وهل ما أراه… حقيقة؟”
ارتسمت على شفتيه ابتسامة غامضة، ثم قال:
“الحقيقة يا مولاتي… وجهان لعملة واحدة. أحيانًا نختار الوجه الذي يريحنا، وأحيانًا يُفرض علينا الوجه الآخر.”
ثم انحنى قليلًا، واستأذن بالانصراف. تركني معلقة بين الرعب والفضول.
عندما عدت إلى غرفتي، كانت سيلينا تنتظرني، وجهها يفيض بالقلق.
“أوفيليا! لقد غادرتِ طويلًا، أين كنتِ؟”
جلستُ على السرير، وأخذت نفسًا عميقًا.
“التقيت به… غرايسون.”
شهقت سيلينا: “وماذا قال؟”
أخبرتها بما حدث، بكل كلمة، بكل نظرة. بقيت صامتة للحظة، ثم قالت:
“يا مولاتي، هذا الرجل لا يبدو عاديًا. كلامه غامض وكأنه يلمّح لشيء… لكنه لا يكشف. يجب أن نحذر.”
وضعت يدي على رأسي، أحاول أن أرتب أفكاري.
“أشعر أنه يعرف… يعرف شيئًا عن القلادة، عن السم، عن كل ما حدث. لكن لماذا لا يقول؟ ولماذا يقترب مني هكذا؟”
سكتنا قليلًا، ثم همست سيلينا:
“ربما يريدك أن تبحثي بنفسك… وربما هو من يريد تضليلك.”
رفعت عيني إليها، وفي داخلي يقين بدأ يتشكل.
(غرايسون… ليس شخصًا عابرًا. هو خيط آخر في هذه المتاهة. وربما يكون الطريق إلى الحقيقة… أو إلى الهلاك.)
الليل في قصر دراڤينور لم يكن يشبه أي ليل آخر عرفته. كان صامتًا حدّ الاختناق، صمتًا يضرب في أعماقي، يذكّرني بأنني لستُ إلا غريبة في جدران حجرية لا ترحّب بي. حتى النجوم خارج النوافذ العالية بدت كأنها تراقبني ببرود، لا تضيء لي طريقًا ولا تمنحني عزاءً.
كنتُ أقف أمام النافذة، أراقب الظلال تمتد على الممرات، حين دخلت سيلينا بخطوات خفيفة. عيناها تلمعان باندفاع، وشفتيها ترتجفان كمن يحمل خبرًا لا يحتمل التأجيل.
قالت وهي تقترب:
“لقد تأكدت. غرايسون سيغادر جناحه الليلة.”
اسم غرايسون وحده كان كافيًا لإشعال قلقي. الرجل غامض إلى حدٍ يثير الريبة، يظهر كظلّ خلف فريدريك في معظم المجالس، لا يتحدث إلا عند الضرورة، لكنه يعرف الكثير. وأكثر ما يقلقني أنّه يبدو دائمًا وكأنه يراقبني، كأن عينيه تبحثان عن شقوق في درعي لأكشف سرّي دون قصد.
أجبتها بصوت خافت، لكن داخلي كان يغلي:
“إذن… الليلة سنتبعه. لا مجال للتراجع.”
خرجنا من جناحي متخفيتين بردائين داكنين، وقلوبنا تدق كما لو كنا نقتحم حربًا. كان الممر هادئًا إلى حدٍ يثير أعصابي، لا حراس، لا أصوات. فقط أقدامنا الحذرة ووشوشات أنفاسنا.
وصلنا قرب الجناح الذي يقيم فيه غرايسون. ضوء خافت كان يتسرّب من أسفل الباب، وكأن شمعة ما لا تزال مشتعلة. انتظرنا دقائق بدت كأنها دهور. ثم سمعنا خشخشة المعدن، وصوت خطوات ثابتة.
خرج غرايسون. قامته الطويلة جعلت الظلال تمتد على الجدار مثل وحشٍ يزحف. لم يلتفت يمينًا أو يسارًا، بل سار مباشرة نحو الممر الشرقي. تبعناه بحذر، نختبئ خلف الأعمدة ونحاول أن نحفظ أنفاسنا.
كان يتوقف أحيانًا، كمن يتأكد أن لا أحد خلفه، ثم يتابع. قلبي كاد يقفز من صدري في كل مرة يلتفت فيها قليلًا. لكن عيناه لم تلتقطانا. أو هكذا ظننت.
قادنا إلى قاعة مهجورة في طرف القصر. لم تدخلها قدماي منذ وصولي. كانت باردة، مغطاة بالغبار، وكأنها نُسيت عمدًا. دخل غرايسون وأغلق الباب خلفه. تبادلنا أنا وسيلينا نظرات قلقة، ثم اقتربنا ببطء لنسترق السمع.
لم يكن هناك سوى همسات متقطعة. كلمات لم أستطع تمييزها، لكني كنت واثقة أنه يتحدث مع أحد. كيف؟ لم يدخل أحد غيره. ربما عبر ممر سري، أو ربما… لم أرد إكمال الفكرة.
بعد دقائق طويلة، خرج وهو يحمل صندوقًا صغيرًا. لم أستطع رؤية ما بداخله، لكنه أخفاه تحت ردائه بعناية. سار بخطوات أسرع هذه المرة، وكأن لديه موعدًا لا يحتمل التأجيل.
همستُ لسيلينا:
“علينا أن نعرف إلى أين سيذهب بهذا.”
هزّت رأسها، وتابعت السير خلفه.
لكنه لم يقدنا إلى أي مكان يكشف شيئًا. توقف عند جناحه من جديد، دخل، وأغلق الباب. انتهى كل شيء كما بدأ… غموض.
عدنا إلى غرفتي ونحن نكاد نختنق من التساؤلات. قلت وأنا أخلع الرداء:
“كأنه أراد أن يتركنا في حيرة، كأنّه يعرف أننا نتبعه.”
سيلينا لم تجب، لكنها عضّت شفتها بتوتر.
مرت أيام ونحن نراقب حركاته نهارًا وليلاً، لكن دون نتيجة واضحة. حتى جاء المساء الذي غادر فيه القصر بلباس مدني بسيط، متخفيًا كأنه لا يريد أن يُعرف. هنا، شعرت أن الفرصة جاءت.
خرجنا خلفه إلى أزقة العاصمة. الهواء البارد يلسع وجهي، والمدينة لا تنام، لكن في الظلال هناك دائمًا أسرار.
غرايسون كان يسير بخطوات محسوبة، لا سريعة ولا بطيئة، وكأنه يعرف أن التسرع يثير الانتباه. عبر السوق المغلق، مرّ بجانب مخازن قديمة، ثم دخل إلى زقاق ضيق حيث لا تصل أضواء المصابيح.
هناك… رأيناه يقف مع رجلين. وجوههما مخفية بالعباءات، لكن لغة الجسد كانت واضحة: حديث سريع، متوتر. رأيناه يسلّم أحدهما شيئًا صغيرًا – ربما رسالة، أو مفتاح، أو قطعة معدنية. لم أستطع التمييز.
اقتربتُ أكثر، ألهث من الخوف. كانت سيلينا خلفي، تضغط على يدي كتحذير. همستُ لها:
“علينا أن نعرف ما يعطيه.”
لكن قبل أن أخطو خطوة أخرى، التفت غرايسون فجأة. عينيه الرماديتين التقتا بعيني من بين الظلال. لم يقل شيئًا، لم يبدُ متفاجئًا حتى. فقط ابتسامة صغيرة ظهرت على شفتيه، ابتسامة باردة جعلت الدم يتجمد في عروقي.
ثم استدار وكأن شيئًا لم يكن، أنهى حديثه، وغادر بهدوء.
هل رآني فعلًا؟ هل كان يعرف طوال الوقت أننا نتبعه؟
تلك الليلة لم أنم. ظلّ وجهه يطاردني. ابتسامته تلك لم تفارقني، كأنها تقول: أعرف ما تفعلين يا أوفيليا. وأنتِ لا تعرفين شيئًا عني.
جلست عند مكتبي، القلم يرتجف في يدي وأنا أكتب ملاحظاتي:
غرايسون لديه صلات خارج القصر.
يتعامل مع أشخاص مجهولين في الخفاء.
يحتفظ بأشياء مخفية في جناحه.
يعرف – أو يظن – أننا نراقبه.
لكن ما هو دوره الحقيقي؟ خائن؟ جاسوس؟ أم مجرد أداة في لعبة أكبر؟
كل الأدلة بدت تشير إليه، ومع ذلك… كان هناك شيء ناقص. كل خطوة يخطوها تجعلني أعود إلى نفس الشعور: أن الخيط لا ينتهي عنده. أن الظل الحقيقي يختبئ خلفه.
وفجأة، وجدت نفسي أفكر في مارتينا. خادمتي القديمة، القريبة إلى قلبي. غريبة عن هذه الجدران الآن. بعيدة، لكن… أيمكن أن تكون هي الرابط الخفي الذي يجمع كل هذه الخيوط؟
لا أملك إجابة. لكنني أعرف شيئًا واحدًا: اللعبة بدأت تصبح أخطر.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 10"