كانت رائحة الدماء لا تزال عالقة في أزقّة إلڤارين، كأنها لعنة أبدية تأبى الرحيل… سبعة عشر عامًا مضت على تلك الحرب، ومع ذلك ظل عبق الموت يطارد كل نفس أتنفّسه.
الجدران الباردة، الأرضيات المتشققة، وحتى الرياح التي تعبر ممرات القصر… جميعها تهمس بذِكرى الماضي: دماء أُريقت، وعود تحطّمت، عيون فقدت بريقها ولم تعد تعرف سوى العتمة.
أنا أوفيليا… أميرة مملكة لم تعد موجودة، أو ربما هي موجودة بالكاد كظلّ لما كانت عليه، ممزقة ما بين أطلالٍ وحكايات.
ابنة لملكٍ وقف عاجزًا أمام سيوف الأعداء، ولم يستطع إنقاذ شعبه من مصيرٍ أسود.
لكنّي… ما زلت على قيد الحياة.
وهنا تكمن اللعنة الكبرى… أن أبقى على قيد الحياة وسط كل هذا الخراب. كنت أظن أن النجاة نعمة، لكنني أدركت متأخرة أنها العقوبة الأشد قسوة.
لم أكن أعرف أن ما سيأتي لاحقًا سيجعلني أتمنى الموت أكثر من أي شيء آخر.
وبينما كنت غارقة في دوامة أفكاري، أتأمل الجدران التي شهدت على كل شيء، انقطع شرودي بصوت طرقٍ متردّد على الباب. تردّد خفيف، لكنه كان كافيًا ليعيدني من قاع ذاكرتي.
“سموّ الأميرة… هل لي أن أدخل؟”
كان ذلك صوت وصيفتي مارتينا. صوتها المرتجف حمل قلقًا لم تستطع إخفاءه.
تنفست ببطء، محاوِلة أن أجمع شتات نفسي المبعثر، قبل أن أجيب:
“تفضّلي يا مارتينا.”
فتحت الباب بخطواتٍ حذرة، وعيناها تفضحان ما في قلبها من اضطراب. وقفت أمامي، يديها متشابكتان كأنها تبحث عن ثباتٍ ضائع.
“سموّ الأميرة… لقد وصل رُسُل إمبراطورية درافينور، وعلى رأسهم الأمير فريدريك. جلالة الإمبراطور يطلب حضوركِ فورًا في قاعة العرش.”
توقّف كل شيء حولي، وكأن الزمن قد تجمّد.
“ماذا قلتِ؟… فريدريك؟”
ذلك الاسم وحده كان كفيلًا بأن يفتح جرحًا لم يلتئم منذ سنين. شعرت بصدري يضيق، وذكرياته تنهال فوقي كطوفانٍ لا يُقاوَم.
فريدريك… صديقي الذي أقسم أن يكون درعي، حبي الذي اعتقدت أنه قدري الأبدي.
كنت أراه يومًا كل عالمي… لكنه اختفى في غبار الحرب، كما اختفيت أنا في ظلال الخيانة.
الزمن غيّره… كما غيّرني.
“لكن… مارتينا، لماذا يطلبني أبي؟ أنا لا علاقة لي بهذا الأمر!”
ارتجفت كما لو كانت تخفي شيئًا لا ترغب في البوح به، وعيناها تتململان بين الصراحة والتحفظ.
“لا أعلم، سموّ الأميرة… لقد طلب حضورك فقط.”
أومأت بصمت، وأنا أشعر بخفقان قلبي يتسارع.
“حسنًا… قادمة.”
خطوت نحو قاعة العرش، وكل خطوة كانت أثقل من السابقة.
دخلت الغرفة، وكان الخدم يرمقونني بقلق، وتهامسهم يملأ الأجواء بغموض لا أعرف له تفسيرًا.
شعرت بانقباض في صدري، وكأن الجدران تتقلص حولي.
هناك، جلست فريدريك على كرسي، ووالديّ على كرسي العرش، صامتين وثقيلين كالجبل.
لم أستطع النظر إلى فريدريك مباشرة… لم أستطع تمييز ملامحه جيدًا، وكأن شيئًا ما يمنع عينيّ من التقاءه.
اقتربت من والدي وجلست بجواره، أحاول أن أتمالك نفسي.
“حسنًا… فليكمل رُسُل إمبراطورية درافينور كلامهم.”
سمعت صوت فريدريك يتحدث، هادئًا لكن ثقيلًا، يملأ الغرفة بوجوده:
“حسنًا… بما أن مملكة إلڤارين قد خسرت الحرب، فمن المفترض أن نستولي عليها بالكامل.
ولكن، من باب الرحمة… سنعفي عنها مقابل شيء واحد… ألا وهو تحالف عن طريق زواجي أنا والأميرة أوفيليا.”
تجمّدت الكلمات في حلقي، كأن الهواء قد انقطع فجأة عن صدري. رمشت مرارًا محاوِلة استيعاب ما سمعته للتو… زواج؟!
من فريدريك؟ بعد كل هذه السنوات، وبعد كل ما حدث؟
ارتجفت يداي فوق ثوبي، حاولت إخفاء ارتعاشهما بقبض أصابعي، لكن قلبي كان يفضحني بخفقاته العاصفة.
نظرت إلى والديّ، أتوسّل منهما بعينيّ أن ينفيا ما سمعت، أن يقول أحدهما إن الأمر مجرّد سوء فهم. لكن والدي كان متصلب الملامح، صامتًا كما لو أن الصمت هو الجواب الوحيد. أما أمي فقد خفّضت بصرها، متجنّبة لقائي.
“هذا… هذا غير ممكن!” خرج صوتي متحشرجًا، مزيجًا من الغضب والخذلان.
التفتُّ نحو فريدريك أخيرًا… وعندها فقط اصطدمت عيناي بعينيه.
تغيّر… نعم، تغيّر. لم يعد ذلك الفتى الذي كان يضحك معي بين حدائق القصر، ولا الذي أقسم ذات يوم أن يحميني ما دام حيًّا. الآن عينيه كالجليد، تحملان قوةً وشيئًا آخر… مرارة؟ سخرية؟ لا أعلم.
“زواج؟” همست من جديد، هذه المرة بنبرة حادة، “أتظنّ أن مملكتي، وشعبي، وأنا… يمكن أن نُباع بهذا الشكل؟!”
ارتفع همس الخدم في القاعة، وكأنهم شهود على فضيحةٍ لا تُغتفر.
لكن فريدريك لم يتحرك. بقي جالسًا، ظهره مستقيم، يده تستند على ذراع الكرسي، وكأنه هو الحاكم هنا لا أبي.
ابتسم بخفة، ابتسامة لم ألمحها من قبل، وقال بصوت هادئ كالسيف:
“لا، يا أوفيليا. لم أقل إنكِ تُباعين… بل قلت إنكِ تنقذين مملكتكِ. الفارق بسيط، لكنه جوهري.”
غصت الدموع في عيني، لكنني رفضت أن أسمح لها بالانحدار أمامه.
صرخت، وقد خانني صوتي بالارتعاش:
“تنقذها؟! أنت من دمّرها، أنت من تركها تحترق! كيف تجرؤ أن تضع نفسك الآن في صورة المنقذ؟!”
ساد القاعة صمت قاتل، حتى أبي وأمي لم ينبسا ببنت شفة.
أما فريدريك… فقد انحنى قليلًا إلى الأمام، نظرته تثقبني كأنها تخترق قلبي، ثم قال:
“بل أنقذتها… من خيانةٍ لم يتوقّعها أحد.”
تراجعت خطوتين، شعرت بالأرض تهتز تحت قدمي.
تلك الكلمة… خيانة.
عاد الماضي يصفعني بقوة، والجرح الذي حاولت أن أنساه ينفتح من جديد.
رفع فريدريك يده قليلًا، وكأن القاعة بأسرها ملك له، وصوته ارتفع ببرود:
“لقد سرقتم شظية التنين، أو بالأحرى، حاولتم. وها أنتم اليوم، بعد سبعة عشر عامًا، تقفون أمامي وكأن شيئًا لم يحدث. لكنني لم أنسَ… ولن أنسى أبدًا.”
همهمات خافتة بدأت تنتشر بين الحاضرين. وجوه الخدم، والمستشارين، وحتى بعض الضيوف الذين لم تُدعَ أصلاً، كلها متوترة. كلهم كانوا يعرفون ما يقصده، وما كانوا يخشونه.
شعرت برعشة تجتاح جسدي. قلبي ينبض بعنف، وكأن كل ذكرى مؤلمة قد عادت دفعة واحدة.
همست لنفسي بصوت يكاد لا يُسمع:
لا… هذا خاطئ. لم نسرق شيئًا… لم نكن… كيف يمكنه أن يلومنا على شيء لم نفعل؟
اقتربت يداي من وجهي، احاول كبح الدموع، بينما عقلي يتقاذه ذكريات الليل الذي سقط فيه الظلام على إلڤارين.
كنت اتذكر كيف حاول والدي حماية المملكة، كيف ضاعت كل الخطط، وكيف اختفت شظية التنين في الفوضى… لكن لم يكن لأحد من عائلتي علاقة بسرقتها.
فريدريك استمر بصوته البارد، كما لو كان يقطع الليل بسيف من جليد:
“أوفيليا… أنت تعرفين الحقيقة. لقد كنتِ دائمًا جزءًا من هذا السر… أو على الأقل، كنتِ شاهدة عليه.”
تراجعت خطوة، شعرت وكأن الأرض قد ابتلعتني.
“أنا… أنا لم أكن… لم نكن نحن!” صرخت، صوتي يرتعش بين الغضب والألم، “كيف تجرؤ أن تتهمنا بعد كل ما عانيناه؟! بعد أن فقدنا مملكتنا، بعد أن… بعد أن فقدنا كل شيء!”
أمسكت بمارتينا التي وقفت خلفي، وكأنها آخر قطعة أمان، بينما دموعي أخفت بقايا قوتي.
لكن فريدريك لم يتراجع، عينيه لم تتركنني، نظراته تحرق كما لو كانت حقيقية أكثر من أي نار.
“لقد كنتِ دائمًا رمزًا للغموض يا أوفيليا. لم أعرف أبدًا إن كنتِ ضحية أم متواطئة. لكن الحقائق… الحقائق لا تُنسى.”
همهمات في القاعة تعالت أكثر، تتنقل من أحد إلى آخر، كالرياح العاصفة.
أصوات صغيرة تقول: “لقد سرقوها…”
وأخرى تهمس: “لكن كيف؟ لقد كان مستحيلًا…”
شعرت بأن قلبي سينفجر، وعقلي يتصارع بين الصدمة والغضب والمرارة.
همست لنفسي مرة أخرى، أقوى هذه المرة:
أنا لم أخن شعبي، ولم أخن مملكتي… هذا غير عادل… هذا ظلم!…
نظرت إلى فريدريك، وعيوني تحرقه بلا دموع، لكن الكلمات خرجت من فمي كطلقات:
“تظنّ أنك تعرف كل شيء عن الماضي؟! لقد اخترت أن تتذكر ما يخدمك فقط! لكننا لم نفعل شيئًا… لم نسرق شيئًا… لم نكن نحن!”
القاعات صمتت فجأة، كأن العالم كله توقف ليستمع.
فريدريك ابتسم ابتسامة حزينة، يمزج بين القسوة والحنين، وقال:
“قد يكون ما تقولينه صحيحًا… وربما ما فعله الآخرون هو ما جعلني أراكِ بمثل هذا الشكل. لكنني لن أسمح لنسيان الماضي أن يمحو العدالة… مهما كانت القلوب معذورة.”
شعرت بالصدمة تتعمق، وغصة مؤلمة تتسلق حلقي. كل جزء من جسدي يصرخ: كيف يمكن لمن أحببته أن يلومني هكذا؟ بعد كل شيء؟
تجمّد كل شيء حولي. لم يعد هناك صوْت سوى خفقان قلبي، وهدير أفكاري التي كانت تتصارع في داخلي. القاعة صمتت، وهمهمات الحاضرين توقفت فجأة، وكأن الزمن نفسه قد حبس أنفاسه.
فريدريك لم يتحرك. جلس هناك، ظهره مستقيم، صوته هذه المرة أقل قسوة، لكنه يحمل ثقلًا لا يُحتمل:
“أنا لست هنا لأفتح صفحات الماضي… لا فائدة من ذلك.” قال بصوت هادئ، متأنٍ كمن يرمي حجرًا في بحيرة ساكنة، “لقد جئت فقط لأعرض هذه الصفقة.”
تلك الكلمات كانت كالبرق، تقطع الصمت، لكنها في الوقت نفسه تزيد من شعوري بالعجز. لقد وضع كل شيء أمامي: الخيار، القرار، المملكة، حياتي… وكلها معلقة على كفّي.
أعاد النظر إليّ، عيناه تتساءلان بلا كلمات:
“فهل… هل أنتِ موافقة؟”
صمت. طويل… يلتصق بالقاعة، بالوالدين، بمارتينا، بكل من حولنا. شعرت بأن الوقت توقف، لكن داخلي كان يشتعل كبركان محتدم.
أغلقت عينيّ، أحاول أن أسمع صوتي الداخلي وسط كل الضوضاء: ماذا أفعل؟ هل أوافق؟ هل أبيع حياتي من أجل المملكة؟ أم أرفض وأخسر كل شيء؟
مارتينا وقفت خلفي، يدها الممسكة بخفتي كانت ترتجف، وعيناها تقولان ما لا تستطيع شفتاها النطق به: يا سمو الأميرة، لا تسمحي لهم أن يسيطروا عليك… لكنها كانت خائفة أيضًا، خائفة من أن الخطر أكبر من أي قرار يمكن أن أتخذه.
والداي جلستا صامتين، صمتهما ثقيل، لكنني شعرت بمشاعر مختلطة: خوف، قلق، ربما بعض الرضا الخفي لأنني سأكون قادرة على حماية المملكة، رغم الألم الذي سيخلفه ذلك.
همهمات الحاضرين عادت تدريجيًا، خافتة، نصفها تعاطف، نصفها نقد وسخرية. نظرات تتنقل بين فريدريك وأنا، بين القبول والرفض، بين الرضا والسخرية.
جلست هناك، قلبي يختنق، عقلي يصرخ، وكل شيء بدا وكأنه يسحبني في اتجاهين متعاكسين:
إذا وافقت… سأظل على قيد الحياة، سأحمي شعبي… لكن فريدريك… كل شيء سيبقى ثقيلًا بيننا…
إذا رفضت… سأظل صادقة مع نفسي… لكن المملكة ستسقط، والناس سيعانون… وسأحمل الذنب إلى الأبد…
ساعات مرت في داخلي، على الرغم من أن الوقت في الواقع كان مجرد لحظات. صراع داخلي طويل، كل فكرة تأتي مصحوبة بموجة من الألم والندم والحنين. كل ذكرى عن فريدريك كانت تزداد مرارة.
وأخيرًا، عندها، تحت ثقل الواقع، تحت صدمة مارتينا ونظرة والديّ، وسط همهمات القاعة، رفعت رأسي ببطء، صوتي يخرج خافتًا في البداية، لكنه صار أقوى شيئًا فشيئًا:
“حسنًا… سأوافق.”
الهدوء عاد إلى القاعة فجأة، كما لو أن كل الهواء المعلق قد تم تحريره.
لكن داخلي؟ لم يكن هناك هدوء. الصدمة، الندم، الحيرة، كل ذلك كان يلتف حول قلبي مثل حبال مشدودة.
فريدريك نظر إليّ، عيناه تحملان شيئًا جديدًا… رضًا باردًا، لكن مع لمحة سخرية، وكأنها تقول: كنت أعلم أنك ستوافقين في النهاية…
مارتينا تنفست الصعداء، والديّ أومأا برأسهما بصمت، والخدم والضيوف يعودون تدريجيًا إلى حركتهم، لكن كل شيء بدا مختلفًا، كل شيء أصبح مشحونًا بما حدث للتو.
أنا جلست هناك، أراقب كل شيء، وأشعر بأنني دخلت فصلًا جديدًا في حياتي، فصلًا لا عودة منه، ومع ذلك، لم أستطع إلا أن أفكر في فريدريك… وفي كل ما سيأتي بعد ذلك.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 1"