الفصل 68: سأوقظك بقبلتي
تصلب ثيرديو وكأنه تلقى ضربةً قاسية. لقد أخبرته أنني لا أريده أن يلطخ يديه بالدماء لأنني أهتم لأمره. لم يكن معتادًا على سماع كلماتٍ حانيةٍ كهذه، ويبدو أنها جعلته يشعر بعدم الارتياح.
قالت غلوريا إن ثيرديو للأسف لا يعرف كيف يحب نفسه أو الآخرين. ذلك الذي لا يعرف كيف يحب نفسه، وجدَ اهتمام الآخرين به غريبًا وغير مألوف.
أكملت حديثي: “وأنا بالفعل أستفيد منك بما يكفي. ألم تنسَ ذلك بعد؟”
”ماذا؟”
”يجب أن تحميني كي لا أموت. عقدنا. أنا شخص مخيف يستدرج الدوق الأكبر الوحيد في الإمبراطورية ليكون درعي.”
”هذه خدعة.”
قبض ثيرديو يده.
”هذا مجرد عقد بيننا. لم يكن التزامًا من قبلي.”
”لكنها حقيقة أنني أستفيد منك، أليس كذلك؟”
”يديَ ملطختان بالدماء مراتٍ لا تحصى. قتل بضعة أشخاص آخرين لن يغير شيئًا.” ثبت ثيرديو موقفه بحزم. وبالتحديد، بدا وكأنه يحاول إثبات قيمته. “أنا فقط—”
”ثيو، ليس عليك أن تفعل شيئًا لتكون ذا قيمة. ولا أن تقتل أحدًا لتجد معنى لحياتك.” أدركت على الفور أنه لا يحب القتل. رغم شراسته في كل حرب وساحة قتال، فإن المفارقة أن ثيرديو لم يكن يحب الحرب. لكنه كان يحاول أن يستنفد قيمته بالمشاركة فيها والفوز
كان من المستحيل أن يحب أو يُحَب لأنه كان دائمًا يسرع إلى الاستنتاجات ويقول: “لا أحد يمكنه أن يحبني كما أنا.”
”ثيو؟” لكن في الحقيقة لم يكن هناك أي حاجة لأن يفعل شيئًا. “إذا كنت تشعر أنك لا تحب نفسك لأنك لا تفعل أي شيء أو لأنك لا تعرف ماذا تفعل…”
كما لم تكن هناك حاجة لأن تصبح مفيدًا للآخرين. رغم أن ذلك قد يبدو غير لائق، إلا أننا نعيش كل يوم هكذا. هو لم يكن يعلم أن مجرد وجوده وحياته كافيان لأن يجعلان شخصًا ما سعيدًا وممتنًا.
”إذا شعرت بهذه الطريقة؟”
”تذكر واسأل نفسك: هل أنا آكل جيدًا، هل أرتاح جيدًا، وهل أنا سعيد؟”
”ماذا؟”
”لقد حمتني مرة أخرى اليوم. تحت حمايتك، أنا بأمان. يمكنني أن آكل جيدًا، أن أرتاح جيدًا، وأن أكون سعيدًا.”
برزت عروق يده.
”عندما تستطيع أن تنظر إليّ في العينين، سأشكرك.” حتى لو بدت حياتك بلا معنى. “ثيو.” حتى لو لم يكن ذلك شيئًا عظيمًا أو مميزًا. “لقد نجوتُ يومًا آخر بفضلك. شكرًا لك.” سأكون ممتنة لأنك على قيد الحياة.
ساد الصمت داخل العربة. بدا ثيرديو مشتتًا كما لو كان قد تلقى توبيخًا. هبت نسمة باردة من نافذة العربة.
”الجو جميل جدًا.” التفتُ نحو النافذة لأشعر بالانتعاش، لكن فجأة بدأت السماء تميل إلى الظلمة ولم تعد هناك نسمة دافئة. “كان الجو جميلًا، لكنه لم يعد كذلك الآن.”
”أنتِ حقًا…” هز ثيرديو رأسه وابتسم.
رغم أن السماء كانت مظلمة، شعرت وكأن الشمس تشرق علينا في تلك اللحظة. رأيت ضوءًا يلمع خلف ثيرديو. لكن عندما فركت عيني، اختفى الضوء بسرعة. لا بد أنني أصبحت مجنونة.
تنهدت بعدم تصديق ووجهت نظري نحو النافذة. كانت العربة قد غادرت أخيرًا المنحدر الشديد وبدأت تدخل الساحة المؤدية إلى مقر الكونت. بينما كانت العربة تعبر الساحة، ظهر أمامي سرابٌ ضبابي.
هاه؟ بدا كظل أو شيء من حلم. أو ربما شبح. على أي حال، لم يبدُ حقيقيًا. ما هذا؟
كان السراب لامرأة مقيدة إلى شجرة كبيرة في وسط الساحة. وكان هناك أناسٌ حولها. بدت المرأة المقيدة في حالة سيئة، حيث حجبت شعرها الأشعث وجهها. بدا الناس غاضبين منها وكانوا في حالة هياج.
فجأة، بدأ قلبي ينبض بسرعة. شعرت بحرارة في جسدي كما حدث البارحة عندما شربت الخمر القوية. هل ما زال هناك كحولٌ باقٍ في جسدي من الأمس؟ لكن هذا لم يكن منطقيًا على الإطلاق. كما بدا أنني الوحيد الذي يستطيع رؤيته. بينما لم يبدُ أن المارة الآخرين يلاحظون شيئًا.
ألا يستطيع ثيو رؤيته؟ نظرت إلى ثيرديو الذي كان أيضًا يحدق خارج النافذة ليهدئ من حرارته. كان ينظر بوضوح إلى الأمام، لكن لم تظهر عليه أي ردة فعل.
”موتي! أيها الساحرة! موتي!” عَصَفَت صيحاتهم الصاخبة في رأسي. كانت أصواتهم عدائية كما لو كانوا يحاولون طرد دخيل.
”آه!” نشأ صداعٌ حاد من الصرخات التي صدحت في أعماق رأسي. لم تكن الأصوات قادمة من أذني. تبعت الألمَ آلامٌ مروعة، وبالكاد استطعت فتح عينيَّ بشكل صحيح. لكني ضغطت على صدغيَّ وصرعت لمتابعة المشهد، متألمة. لم أعرف السبب، لكني استمررت في المشاهدة. شعرت كما لو أنني مضطرة لذلك. وكأنني غُسِلت دماغي، التفت عيناي نحو السراب.
سرعان ما حركت المرأة المقيدة شفتيها الملطختين بالدماء. “أنا لست ساحرة!” صدح صوتها في رأسي.
لا بد أن صرخات الناس التي سمعتها سابقًا كانت جزءًا من السراب أيضًا.
كانت المرأة تبكي. ارتجف صوتها المليء بالدموع. بدت في كربٍ شديد لدرجة أن قلبي انجذب إليها، رغم أني لا أعرف شيئًا عن الموقف. “أنا، أنا لم ألعن أحدًا!” صدحت صرخاتها المليئة بالمرارة في الأرجاء. وعندما فعلت ذلك، ازداد صداعي سوءًا.
”آه…”
”ماذا يحدث؟” ثيرديو الذي كان يجلس مقابلتي أدرك أني أعاني، فتحرك بسرعة إلى جانبي، لكنني بالكاد استطعت سماعه. كانت صرخاتهم أعلى من صوته.
عادت الأصوات الغاضبة لتتردد مرة أخرى.
_يجب أن نقتلها! يجب أن نقتل الساحرة!_
_أحرقوها! احرقوها!_
_آه…_ لماذا يستمرون في الصراخ؟ لماذا لا يتحدثون بهدوء؟
”بيريشاتي.”
”آه… إنه صاخب جدًا. ارحلوا من فضلكم،” همست بهدوء.
نظر ثيرديو إليّ مصدومًا. بدا وكأنه ظن أنني أتحدث إليه، لكنني لم أستطع توضيح الأمر—لأن الصور الضبابية بدأت تتحرك.
بعد الصرخات العالية، تقدمت امرأة من الحشد، تحمل شعلة مشتعلة في يدها. وقبل أن أتمكن من تخمين ما تفعله، ألقت الشعلة في كومة القش عند قدمي المرأة المقيدة.
_وووش!_ اشتعلت النيران في القش. شعرت بنفس الفوضى التي انتابتني خلال حادث الحريق. شعرت بالغثيان، رغم أنني أعلم أن لا شيء من هذا حقيقي.
_آآه!_ كانت تصرخ من أجل حياتها.
مصدومةً من الوضوح الصارخ للمشهد، مددت يديّ كما لو أنني على وشك القفز من نافذة العربة وصرخت بأعلى صوتي: “لا!”
”بيريشاتي!”
ظننت أنني شممت نفس الرائحة النفاذة من حادث الحريق. انغلقت حلقي وأصبح التنفس صعبًا. في اللحظة التي هممت فيها بخدش حنجرتي بأظافري، التفتت المرأة التي ألقت الشعلة نحوي. نظرت الشخصية الضبابية مباشرة إليّ داخل العربة. عندما التقت نظراتنا، ضحكت المرأة بنشيج ونظرت إليّ. كانت تعرف شيئًا ما.
”آآه!”
لقد كانت دودوليا.
عندما أدركت من هي الشخصية الرئيسية في السراب، انتابتني صدمة. ارتخت ساقاي. هزني ثيرديو وصاح، لكنني لم أستطع الالتفات إليه.
_كيكيكي!_ ضحكت صورة دودوليا عليّ كما لو كانت تراني حقًا. جعلني ضحكها أرتجف بأكملي.
”آه!”
كان ضحكًا مرعبًا جعل كل شعري يقف. حاولت أن أغطي أذني، لكن دون جدوى.
توقفت صورة دودوليا عن الضحك. ثم أشارت ببطء إلى المرأة المقيدة.
اتبعتُ بنظري يدها إلى المرأة. استطعت أن أرى بوضوح من كانت تحترق، مربوطة إلى الشجرة.
لقد كنت أنا.
”آآآه!” بينما رأيت نفسي محاطة باللهب وتتلوى من الألم، شعرت بحرارة جسدي كما لو كنت أنا من تحترق.
كان هذا مختلفًا عن حادث الحريق. اشتعلت بشرتي كما لو أنني احترقت فعلًا. تبعت ذلك آلامٌ مبرحة لا يمكن تحملها. فزعتُ، فصرخت وركلت كما لو كنت أعاني من نوبة.
”بيريشاتي!” أمسك بي ثيرديو. عندما أدرك أنني أنظر خارج نافذة العربة، أغلق الستائر بسرعة.
”أنا-أنا أحترق! احتراق! الجو حار! أنقذوني!”
”بيريشاتي! استفيقي. انظري إليّ!” ثبّت ثيرديو جسدي المتهيج بقوة. ثم أمسك خديّ بيديه وجعلني أواجهه.
حالما شعرت بدفئه على بشرتي، عدت إلى الواقع. كنت ما زلت في العربة ولم أكن محترقة. حينها أدركت أنني لم أكن أشعر بالحرارة كما لو كنت أحترق، بل شعرت ببرد قارس كما لو أني غُمرت في ماء مثلج. ارتجف جسدي كله.
سمعت الضحكات. كانت تحاول إغرائي للنظر خارج النافذة مرة أخرى. كما لو كنت مسكونة، حاولت أن ألتفت.
أمسك ثيرديو وجهي بقوة ومنعني من الالتفات. “بيريشاتي!”
رأيت عينيه الحمراوين تحت حاجبيه العابسين.
”إلى أين تنظرين؟ انظري إليّ!” كان يصرخ بصوت عالٍ، لكنني لم أستطع فهم كلماته على الإطلاق. الضحكات الغريبة التي تدوي في رأسي كانت تمنعني من استيعاب أي شيء.
اخترقني الصداع الحاد كالسكين. كان يريدني أن أتوقف عن التفكير. لكنني كنت خائفة من أنني إذا توقفت عن التفكير الآن، قد أفقد عقلي تمامًا.
”تبًا، بيريشاتي! استفيقي!”
ارتجف جسدي بعنف مرة أخرى. أغلقت عينيّ، لا أريد التفكير في أي شيء.
”اللعنة!”
اختفى الدفء عن وجهي.
أمسكت يد كبيرة مؤخرة رأسي. مررت خلال شعبي وسحبت بقوة. دغدغت رائحة مألوفة أنفي، ثم لمس شيء دافئ وناعم شفتي.
فتحت عينيّ ورأيت عينيه الحمراوين تحدقان بي. عندما رأيت نظراته الحادة الشديدة، انعقد حلقي. اللمسة الدافئة على شفتيَّ هدأت الفوضى بداخلي. عاد النور إلى عينيّ الفارغتين. استطعت رؤية الألوان تعود حول ثيرديو. لم أعد أسمع الضحكات في رأسي.
كما لو كنت أتشبث بهذه الراحة، أمسكت بكمه، واختلط أنفاسنا الحار. لف ذراعه الأخرى حول خصري وجذبني إلى أحضانه.
التعليقات لهذا الفصل "الفصل:68"