5
انستا : aahkk_7
***
أطبَقت غريس شَفتيها بضيق، كيف لا، وقد كان “العشاءُ العائليّ” خالٍ من مودّة الأُسرة، حتى مآدب العمل لم تكن لتبعثَ بهذا البرود المتبلّد
والأسوأ من كلّ ذلك، أنّها مجبرةٌ على الجلوس وسط أُناسٍ لم يزُر أحدٌ منهم غرفتَها قط، تجهلُ حتى مكنون قلوبهم
كالغُرباءِ لها
راحت تدفع الطعام إلى فمها بارتباك، لا تدري أتهتدي به إلى فمها أم إلى أنفها.
قالت امرأة تجلس قُبالتها، بابتسامة واسعة:
“على ذكر وجودكِ، يا دينيسيا… أظن أنّ الكونت فييغلين كان في غاية السرور عندما سمع باستعادتِكِ لعافيتك.”
كانت تلك المرأة البارونة بلانشيت، التي بكت يوم استيقاظ دينيسيا من غيبوبتها.
“عذرًا؟ ولماذا؟”
“أوه، أنسيتِ؟”
هتفتِ البارونةُ باستخفافٍ لأمرٍ لا قيمةَ له في نظرها، أو هذا ما أوحت به لدينيسيا ولعلّه كذلك
“كنتِ مرشّحةً له كعروس…لتدخلي بيته ككونتيسه”
ماذا!
“ولكن… صحتي ضيعفة…”
“وهو يعلم بذلك، وقد أبدى رغم هذا استعداده للزّواجِ منكِ، ينبغي أن تكوني ممتنّةً له”
بحسبِ ما تدري غريس عنه، فقد تجاوز ذلك الرّجل عامه الخمسين بالفعل منذ خمس سنوات، وحسبَ ذاكرة دينيسيا التي ظلّت قابعةً بين جدران غرفتها لم يختلف الأمر
لكن مع ذلك…لا أستطيع الحُكم بناءً على ذكريات غيري فقط…
“هل…للكونتِ ابن…؟”
” يا إلهي ما بكِ يا دينيسيا؟ بالطبع ليس له أولاد، لطالما عاش وحيدًا “
وبّختها البارونة ببرود على نيّةٍ لا يمكنُ المجادلةُ فيها مهما حدث
أكملت:” ولهذا تحديدًا يمكنكِ أن تصبحي زوجةً له! أليس رائعًا أن يُبدي استعدادهُ لمساعدةِ فتاةٍ مثلكِ، بكلّ عيوبكِ ونقائصك؟”
حَملقت غريس فيها مذهولة…! يا لفظاعةِ ما تقوله هذه المرأة!؟ بينما ظلّ وجه البارونة ساكنًا وهادئًا،
ليس وكأنها ألقت بقنبلةٍ بعد نزعها للفتيل، كلا أبدًا!
…كأنها لم تكن امرأةً وأمًّا أيضًا
كان ذلك تصريحًا قاسيًّا خاليًا من أيّ إحساسٍ بالذّنب إزاء ابنتها المريضة، للموافقةٍ بكلّ مهزلةٍ وتخلٍّ بارد بإلقاء فتاةٍ يافعةٍ بكلّ بساطة إلى أحضان رجلٍ مُسِن
عندها انطفأ ما تبقّى من شهيتها الضّعيفة.
لم تدري كيف انقضى العشاء، وحتى بعدما عادت لغُرفتها، كانت عاجزةً عن استعادةِ تماسُكِها
الأمور تُنذِر بالسوء
إن ظلّت تجري أمورها بهذا الحال المتهوّر، قد تجدُ نفسها في ساعةِ بغتةٍ بين أحضانِ عجوزٍ شهواني، تتعذّب وتموتُ بين يديه قبل أن تردّ الجميلَ لزوجها
وقتها كان محدودًا في الأساس، ولا ينبغي عليها تبديده بتهوّر.
شدّدت قبضتها بعزم
…عليّ العودةُ لزوجي.
ولحسنِ حظّها، لا يكترثٌ أحدٌ لتفاصيل حياتها اليومية، تظلُّ حبيسة غرفتها بلا أيّ رقابة، بعيدةً عن الأعين، بعيدةً عن القلوب وهكذا انقضت أيامها…
أطرقت رأسها إلى ثيابها وتمتمت بِحِيرة: ” لن أموت مُرتَديةً هذه الثياب صحيح؟”
كانت القطعُ السّمِيكة التي انتزعتها من خزانة الغرفة قد غمرت جسدها النحيل حتى بدا أشبه بدمية ثلج سمينة، لكن لا خيار آخر… فالنّجاة على أرضٍ قارسة قادرةٍ على انتزاع الحياة لا تكون إلا بالاختباء تحت طبقات كثيفة.
جمعت ما استطاعت إليه سبيلًا من نقود وحُليّ، وأودعتها حَقيبةً صغيرة،
ارتدت قُبّعةً عريضة حجبت وجهها تمامًا، وغادرت.
الممر خالٍ وصامت…
الخدم، المُثقَلون بِضِيق العيش، لم يَلحظوا خطواتها المترددة. . .
وبخُطًى بطيئة خرجت دينيسيا من الدار؛ إلى أمام عربةٍ كانت بانتظارها، غير أنّ سارة اعترضت طريقها.
“عربة؟ أتنوين السفر؟”
“أ… لا… إنما أردتُ إرسال شيء.”
“ولمَ لا تدعين أحد الرّسل يقوم بذلك؟”
“الأمر… مهم.”
لحسن حظّها، انطلتْ حُجّتها المُرتبكة،
ربما بِفضل الأُلفَة القَديمة بينهما.
هَمَست للسّائق بالوِجهة، وصَعَدت إلى العربة.
ما إن تحركتْ حتى اهتزّ جَسَدُها جانبًا، وأخذت تتلفّتُ حولها بقلق.
كانت الرّحلة وَعرَة وغير مُريحة، لكنّها اختارتْ أرخص عربة، ولم يكن ثَمّة بديل.
…إن لم ألجأ إلى بَوابات الانتقال؛ فسوف أقضي أيامًا في الطريق…
خارج حُدودِ المَدينة، انتصبت دوائر سحرية تختصر المسافات، كانت متاحة للجميع، لكن ثمنها فادح، وكانت غريس قد جمعت كل مدخرات دينيسيا التي بالكاد تكفي لرحلة واحدة.
حسنًا… يكفيني أني تمكنت من تأمين بقدرِ ما أحتاجُ إليه للآن، زَفَرَت بعُمق وأسنَدَت جَبينها إلى زجاج النافذة.
العربة تركت وراءها صخب الأحياء، واتجهت نحو أسوار المدينة.
وحين بلغت دائرة الانتقال، أضاءت النّواة السّحرية بِوَهَجٍ خَاطفً للأَنظار، وتشوّه المشهد أمامها…
أشجار باسقةٌ عارية الفروع،
عشب رمادي ذابل…
ثم انقضّ عليها برد قارس حتى شهقت. المشهد مألوف، لكنّه أحيَا في قلبها شوقًا مغموسًا بالألم.
وها هو المكان، أومأت لنفسها بتصميم.
تَعالتِ الأبراجُ الشّاهقة والأسوار الحَصينة في الأفق. كان المنظر لأولِ وهلةٍ مهيبًا موحشًا، غير أنّ الداخل بدا أكثر دفئًا وبهاءً مما توقّعتْ…
” ها؟ “
اتَسعت عيناها بدهشةٍ حين وَطِئت أراضي آلَ هابروفيلد.
المعالم لم تتغير، غير أنّ الشّوارع التي كانت يومًا تَضجُّ بالحَياة والدّفء اختفتْ، وحلّ مكانها فراغٌ موحِش يُخيّم على الأزقة المُقفرة.
” لقد وصلنا. “
تَوقّفتِ العَرَبة؛ فانتَفَضَ قلبها قلقًا.
سلّمت السائق ما تبقى من نقودها، وأخذت تدور بعينيها في حيرة.
ارتطم وقع السوط في ظهر الحصان؛ فتَردَّدَ صَداه في الفَراغِ كأنه أنين طويل.
الآن لم يعد معها ما يكفي لتعود.
رفعت بصرها إلى القلعة الشامخة أمامها. مألوفةٌ في شكلها، لكنّها اليوم أثارت في صدرها مزيجًا مربكًا من الحَنِين والرّهبة.
***
انستا : aahkk_7
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 5"