3
انستا : aahkk_7
***
ومنذ ذلك الحين مضت ثلاثة أشهرٍ كالنسيم الدّاني من اعصارٍ هائج…
بات ربيعُ غريس يبلو بُلوَّ الصّيف، وفؤادُ دينيسيا كان قد بُلِيَ بُلوَةَ شّتاء.
مع حرٍّ جافٍّ يعصفُ بالسّحاب، وأمطارِ عرقٍ باردة تُحاول، علّها تخفّفُ وطأة براثن الشّتاء عن ظَهرِ جِلدها…
استندت دينيسيا مُتكوّرةً بساقيها على شفا الماء، وآثرت أن تُحملِق بالجسدِ الزّاحف أدنى وجه البِركة، والذي كان يُحاول جُلّ جُهده…
تستغيث، وتتوسّل …علّ ظَهرَ البِركة يرحم ضعفها وقلّة حيلتها…
تمدُّ عنُقَ ذراعها راجِيَةً ألا يُذبِل طِيبُ حياتها؛ فهي أُم ونفسٌ عزيزة، تتوقُ لطِفلها، لزوجها، لنفسها…
شفا البِركةِ الذي كان أشبه بالتّلفاز لروح دينيسيا، بدا كأنه يرمقها بنظراتِ الوداع الأخير…
ثم قامَ ومدّ ذراعه لغريس المتضرّعة، ورفعها لأعلى السّطح…
ومع وقعِ خطواتِ دينيسيا التي دُسّت أسفل جسد غريس، كانت تلك الرّوح المكتئبة قد فارقت المشهد للأبد.
ولكلّ طريقٍ نهاية…
***
أمل: هاد مجرّد تصوير لحالة غريس، وقت صابتها الحُمّى وضلت ثلاث شهور بفراشها قاعدة بتحاول تتوافق روحها مع جسم دينيسيا الي المفروض ماتت.
****
حالما أنقشعت الغَبشةُ عن عيون غريس، واستعادت وعيها، ألقت نظرً فاحصةً على ما أقحمت فيه نفسها…
” إذن، أنا الآن دِينيسيا بلانشيت “
كان ما مرّت به، أقرب لخيالٍ بحتٍ منه من الواقع…إلا أنه واقعٌ حقيقي…حقيقي لكن غريب، ومريب.
شعرٌ كستنائيٌّ كتّانيّ كالنُّحاسِ المُصفَرّ، وعيونٌ بلونِ الخوخ النّاضج، ملامحُ أكيلارد آثرت ضَحلها على ملامح غريس، لم يبقى منها أيضًا أثر…
وجهٌ جديد، وصفحاتٌ ملطّخة بألوانٍ مَحبورةٍ بالتّيه، تكاد تعرفُ فيها نفسها، ولا تكاد. . .
**
أمل/ يعني الألوان مهي واضحه ومشوشه، مستقبل مجهول بمعنى ثاني
**
〔لقد انقضت خمسُ سنواتٍ منذ موتي〕
ذِهنُها عارمٌ بالفوضى، الرّجلُ الذي رأته لم يكن حُلمًا تتوق إليه، بل واقعًا لا يُصدّق، كلماته ووعده لم تكن وسواسًا ولا وهمًا…
بلى، لقد كانت واقعًا. . .
“بلانشيت…بلانشيت..”
راحت تتمتم غريس وتكرر، وتنطق بلسان دينيسيا… منذُ الآن صارت دينيسيا…
وتربتُ على ركبتيها بشرود ضائع.
بعد قضاءِ ثلاثة أشهر في جسد دينيسيا أدركت بأن بلانشيت تقبعُ في فوّهة الفقر،
وكانت تتردد في صدى ذكرياتها أساليب الأطباء المُغيظة؛ لتعاملهم معها بفظاظة، تلك الذكرياتُ المُوجِعة كانت منقوشةً في عقل دينيسيا وتتردد في رَحبِ اللاوعي لغريس كأنها ما عاشت تلك الأحداث.
الكلّ كان موقِنًا أن حياةَ دينيسيا كانت على الحافّة، وأن موتها وشيك، لولا روح غريس التي تجسّدت فيه لما كان جسدها يتحرّك الآن.
دينيسيا بلانشيت، ابنة البارون بلانشيت
كان جسدها جسدَ جاريةٍ بائسة، وُلِد محدودًا وضعيفًا، هشًّا، يقاوم نزلات البرد والآلام والحمّى القاسية باستمرار.
لحظات العافية الكاملة في حياتها قليلة جدًا، تُعدّ على أصابع اليد الواحدة. وحتى الآن، مع كل شهقةٍ وزفير، كان في أنفاسها أثر من دفءٍ محموم، يَحولُ بينها وبين العافية.
” هّاااااهـ…”
تردد زفيرها أرجاءَ الغرفة، وزداد الأمر صعوبة حالما حاولت أن تبوح بسرّها كغريس هابروفيلد؛ إلا أنه في كلّ مُحاولةِ بَوح كان يَنعَقِدُ لسانُها ويأبى الكلام.
والآن قد أصبحت دينيسيا كاملة!
ورغمَ غرابة المَوقِفِ وعَدمِ واقِعيّته؛ إلا أن ذلك لم يمنع غريس من إبداء فرحتها المَكبوته، التي سَرت كقشعَريرَةٍ إثر خفقانٍ مُضطّربٍ إلى ابتسامةٍ رُسمَت على شَفتيها…
“أنا حيّة!…لقد عدتُ حيّة!”
غمرَتها فرحةٌ طال انتظارها،
أخيرًا!
أخيرًا ستقوَى على ردّ الجميل لمَحبوبها! زوجها الحبيب، ووالدِ طِفلها العزيز!
رغم أنها كانت تشعُر بالأسى على ذوي السّعادة الذين كانوا يتوقون لعزيزتهم دينيسيا؛ إثر عودتها للحياة مؤقتًا، إلا أن فرحتها لمحبوبها وابنها لا تكاد تسَعُ ذلك الأسى.
لا يَهم كم مضى من الزمان حتى عادت، الأهم أنها فتحت عينيها على مرأًى جديد، وإن انقضت خمسُ سنوات؛ فلا بأس.
تُرى كيف حال ديتريش؟
هل كَبُرَ طِفلي بسلام؟
وأهل القصر؟ الخدمُ والوصيفاتُ الذين كانوا بِقُربي وإلى جانبي، ما الذي جرى لهم يا تُرى؟
لهفتُها وفرحتُها تُضخُّ في كلِّ عرقٍ كالعناقيدِ الحلوة على الكرمةِ صيفًا.
لكن أول ما ينبغي عليها فعله هو معرفةُ حالِ ديتريش؛ فَتَلفّتتْ للخادمةِ التي تُمشّط شعرها وسألتها: ” كيف حالُ أراضي هابروفيلد؟”
توقّفت الفِرشاةُ الخشبيّة فجأة
“لـ لماذا تسألين عنهم فجأة…؟” أجابت الخادمةُ بارتباك
“هاه؟”
تلعثمتَ غريس مُتفاجئةً من الحَذرِ الواضحِ في نبرةِ الخادمة
” آاه…فقط…الأمر هو…لقد قضيتُ وقتًا طويلًا في الفِراش؛ فساورني الفُضول عمّا حدث للحرب…”
كانت تبريرات دينيسيا المُتعثّرة كافيةً لجَعلِ الخادِمةِ تُخفِضُ من حذرِها قليلًا؛ إلا أنّ القلقَ لم يُبارِح وجهها
“تلك الأراضي…الجميعُ يتجنّبون الحَدِيث عنها أو ذِكرها…”
“ماذا!؟ لماذا!؟”
هل اندلعت حربٌ جديدة؟
محالٌ أن يكون ديتريش قد خسر بينما كان النّصر حليفه؛ إذن ليس هنالك تفسيرٌ سوى وقوعُ حربٍ أخرى…!!
لاحظت الخادمةُ اضطرابَ وتعجُّبَ دينيسّا؛ فزمّت شفتيها وانحنت هامسةً:
“هنالك أسبابٌ كثيرة،ولكن…أصدقُ ما قيل من الشّائعات بأن الماركيز هابروفيلد قد فقد عقله بعد وفاة زوجته؛ إذ أنكَر موتها، وأجّل دفنها، وتشبّث بتابوتها إلى يومنا هذا…”
مـ… ما الذي يعنيه هذا…؟
لاحت تَهاويل الصّدمة على وجهها، وانفرج فاهُها مذهولةٍ غير مُصدّقة …
〔ولكن، ألم نكن بعيدين إلى ذلك الحد…؟〕
ارتجّت مشاعرُ غريس لِوَلهة…
كان الأمر أشبه بإشاعة مشوّهة نسجتها ألسنة الحاسدين.
فَمَهمَا يكن، لم يكن معقولًا أن يُبدِّدَ ديتريش —الذي يقدّس الكفاءة والوقت— خمس سنوات كاملة عليها.
“إنّه الحق، آنستي! سمعت أنه لم يذق طعامًا ولا غفا جفنًا، بل ظلّ مُلازمًا للتابوتِ ليلًا ونهارًا.
لما كلّ هذا التعلُّقِ حقًّا؟ كأنّه يخشى أن يأتيَ من قد يسرق جُثمانَها.”
” أحقًا…؟”
” وما ذلك بأسوأ ما وقع.
فحتى بعدما وُوري القبر بالتراب، لم يستسلم… لا،
لم يكن الأمر مجرّد فضيحة،
بل ظل يؤكد أنّ زوجته ستعود يومًا، مما زاد قلوب رجاله رهقًا واضطرابًا.”
***
انستا : aahkk_7
التعليقات لهذا الفصل " 3"