2
انستا : aahkk_7
****
تجمّدت غريس عند سماع ذلك السؤال الواضح.
أليس من طبيعة البشر أن يتوقوا إلى الحياة؟
تعتريها رغبةٌ دفينة… في أن تحيا قليلًا بعد.
رغبةٌ توّاقه أن تضمّ صغيرها العزيز الذي ناضلت من أجل ولادته إلى صدرها.
ومن بين كلّ الرغبات التي ازدحمت في صدرها، لم يكن يدور في خُلدها إلا شخصٌ واحد.
“زوجي… ديتريش.”
رفعت غريس عينيها سريعًا إلى الغريب أمامها، ثم أومأت أخيرًا برأسها.
لقد كانت تشتاق لرؤية زوجها.
تمنّت لو تُرسل له رسالة عاجلة، ترجوه أن يعود إلى القصر حالًا.
يُقال إن الإنسان لا يدرك قيمة ما بين يديه إلا حين يوشك على فقده.
وقد أحسّت غريس بندمٍ مرير… ندمٍ على مشاعر لم تعِها إلا بعد فوات الأوان.
كانت تُثقل كاهلها مشاعر متشابكة من الألم والذنب.
هي من طلبت من ديتريش عقدًا للزواج من أجل إنقاذ العائلتين.
“سأمنح عائلة هابروفِليد وريثًا شرعيًّا، وفي المقابل… ساعد عائلتنا، ولن أطلب شيئًا بعد ذلك.”
“أنا وهو… تلاقت أهدافنا.”
وقد نفّذ ديتريش ما تم الاتفاق عليه بالفعل، وزوّد آل أكيلّارد بالدّعم حين تزوجها وفقًا للعقد.
وبفضل الدعم الكامل من آل هابروفِيلد، نجَت عائلتها من حافة السقوط.
كان على عائلتها أن تبقى.
هذا هو جوهر العقد الذي عقدته غريس.
ولذا، كانت تظن أن ديتريش لن يقدّم يد العون لهم بعد أن زال عنهم شبح الأزمة.
لم تكن تنوي أن تَشُدّه نحوها بذكرياتِ عائلتها، أو تطلب منه ما يتجاوز الاتفاق.
لقد اعتبرت إنقاذهم كافيًا.
ولذا، لم تذكر عائلتها قط… ولم يفعل هو ذلك أيضًا.
لكن، لو لم تكتشف صدفةً أن زوجها لا يزال يدعم آل أكيلّارد سرًّا…
لكانت ظنّت حتى اللحظة الأخيرة أنه لم يعُد يكترث لأمرهم.
حين علِمَت بالدّعم المَالي والمَعنوي الذي ظلّ يقدّمه لهم،
كان قد مضى بالفعل إلى ساحة القتال.
كم كانت ممتنّة حينها… وكم لامس ذلك أعماق قلبها.
عاهدت نفسها أن تَهبه مشاعرها الصادقة حين يعود.
— “أريد… أن أعيش… أن أراه… ديتريش… مرةً واحدة فقط…”
تنفّست غريس بعمق، وعضّت شفتها.
ومن عينيها الشبيهة بلون التُّرنشَان سالت دموعٌ كحبات المطر… ثقيلة، وصامتة.
لقد أنجبت الطفل، كما اقتضى العقد.
لكن حين كانت تسترجع ما منحها إيّاه ديتريش…
بدأت ترى جهودها مُفرَغة باللاشيء أمام عطائه.
— “حتى لو لم يتبقَّ من الوقت سوى القليل؟”
سألها الرجل ذو الرداء الأسود بإصرار.
— “وماذا لو لم يعرفكِ؟ لو لم تتمكني من إخباره بالحقيقة؟”
أيّ فرقٍ يصنعه ذلك؟
غريس، التي كانت تلهث محاولةً استجماع أنفاسها،
استطاعت أخيرًا أن تنطق بصوتٍ خافت:
— “أريد… أن أردّ له الجميل… ولو بالقليل…”
— “ولهذا السبب تقفين هنا، في صميم هذه الفوضى؟
أتقولين إنكِ على استعدادٍ لتكرار الألم الذي تمُرّين به الآن … فقط لأجل ذلك؟”
في عينيه الهادئتين لمعت نظرة غريبة…
كأنها لا تخصّه.
— “الحياة، حتى وإن كانت مؤقتة، لها ثمنٌ باهظ.
الألم أمرٌ محتوم، ومع اقتراب النهاية، سيَفقِد الجسد المستعار السيطرة،
بل إنّ هذا الجسد نفسه لن يصمد طويلًا.”
واصل الغريب حديثه كأنما يتحدّث عن أمرٍ لا يحتمل النقاش.
قال إن كل هذا جنون… وإن الألم الذي ستتلقّاه مقابل حياة عابرة
سيكون فادحًا لا يُحتمل.
—” فهل يرضيكِ هذا؟”
“… لا يهم.”
لم تستطع غريس سوى أن تومئ برأسها بحركة خافتة تكاد لا تُرى.
ومع ذلك، لاحظها الرجل… وابتسم.
— “هاها…
ثم أطلق ضحكة خافتة، مغلّفة بابتسامةٍ أثارت في غريس شيئًا مريبًا.
— “لكن، دعيني أكررها… حياتك الجديدة لن تكون طويلة.
ولذلك، فإنّ توافقكِ مع الجسد الآخر أمرٌ ضروري…
كي لا يرفضكِ الجسد أو ينهار.”
ثم، بعد أن أسهب في الشرح، تحرك كمّ معطفه الطويل.
وبدت يده، التي انكشفت من تحت المِعطف، شاحبة دقيقة كأنها من رماد.
—” بل، ولتتمكني من تملّك هذا الجسد بالكامل، طالما أنكِ “تستعيرينه”…”
تابع حديثه كأنّه تاجر يعرض بضاعته في سوق،
يمتدحها أمام الزبائن بلا كلل.
لكن غريس… لم تعد تسمع.
وعيها يتسلّل مبتعدًا كقطرات الماء بين الأصابع.
كلّ محاولاتها للتمسّك به ذهبت هباءً.
من يكون هذا الرجل؟
هل، وهي على شفا الموت، جاء خدمها بجالبِ الأكفان؟
… لكن، حقًا… ما أهمية كل هذا الآن؟
جمعت غريس آخر ما تبقّى فيها من حياة، وقالت:
— “حسنًا…
“رغبتي الوحيدة… أمنيتي الوحيدة…
فقط… أريد رؤية ديتريش… مرّةً أخيرة.”
— “ممتاز. إذًا، تمّت الصفقة.”
راح نورٌ ساطع ينبعث من كفّ الرجل.
كان الضوء وديعًا، يرفرف برقةٍ ثم تمدّد شيئًا فشيئًا حتى غمر الغرفة بأكملها.
— “آه…
تنفّست غريس بصمت.
وانزلقت دمعة كبيرة على خدّها،
حين أدركت… أن هذه هي النهاية.
مرت في ذهنها لحظات لا تُعدّ،
وفي معظمها، كان يسطع وجه رجلٍ واحد…
زوجها الشرعي: ديتريش.
*****
— “سامحيني، يا حبيبتي، أنا…
أغلقت غريس عينيها ببطء…
إغلاقًا أبديًّا.
صدر صوت ارتطامٍ خافت؛
إذ مال رأسها إلى جانب الوسادة،
إذ غفت للأبد، دون رجعه.
وهكذا… رحلت غريس هابروفِيلد عن هذا العالم.
ولكن…
—
— “…دِنيسيا!”
استفاق وعي غريس فجأة كما لو انتُشل من أعماق الظلام، على وقع اهتزازٍ عنيف.
وبينما فتحت جفنيها المثقلين بصعوبة،
كان أول ما رأته… امرأة لم ترَها من قبل،
وعيناها متورمتان من البكاء.
—” يا إلهي… الحمد لله!
يا لها من نعمة أنكِ استيقظتِ!”
تعالت من حولها تنهّدات الارتياح،
وأصوات الحمد وابتهالات،
وصرخات شكرٍ وامتنانٍ للطبيب.
لكنّهم جميعًا كانوا غرباء عنها.
“لا يمكنكِ تخيّل كم أنا سعيدة لرؤيتكِ تفتحين عينيكِ.
كنت خائفة حقًا… خائفة من أن ترحلي فجأة…”
—“أنا…
همست غريس، لكن كلماتها قُطعت قبل أن تكتمل.
“نعم، أنتِ دِنيسيا.
وأنا… أمّكِ.”
“أمي؟”
لكن أمّها… قد فارقت الحياة منذ زمنٍ بعيد…
كانت على وشك الرد،
لكن العطش الحارق خنق صوتها.
رغم أن تنفّسها بات طبيعيًّا بشكلٍ غريب،
فإن قواها لم تعد بعد،
بل إن الجلوس أو الإبقاء على عينيها مفتوحتين
كان أمرًا مرهقًا أشبه بالمستحيل.
وبعد فحصٍ سريع،
لاحظ الطبيب شحوبها؛ فنصحها بالاستلقاء مجددًا.
وما إن أعادت رأسها إلى الوسادة،
حتى زال ذاك الإحساس بالزحف داخل جمجمتها.
—” الاستيقاظ بحدّ ذاته معجزة.
سنرى كيف تتطور حالتها… “
رفعت غريس رأسها قليلًا،
وفي لمحةٍ خاطفة،
لمحت تلك المرأة – التي نادت نفسها “أمها” –
والطبيب الذي كان يراقبها.
شعرٌ أحمر ناريّ.
مختلفٌ تمامًا عن صورة الأم التي كانت تعرفها.
ما الذي يحدث؟
ولماذا… أنا على قيد الحياة؟
نظرت إليهما بحيرةٍ عميقة،
ثم أغمضت عينيها مجددًا
محاولةً كبح الألم الذي ضرب رأسها كالموج.
ربما… عليها أن تلتقط أنفاسها
قبل أن تواجه ما ينتظرها.
*******
انستا : aahkk_7
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 2"