انستا : aahkk_7
***
عاشت عزيزتنا السيدة الرّاحلة حياةً تأبى فيها أن تُتيح للحَسرَة أو النّدم مجالًا كي يُثقِلا قلبَها الرّهيف.
مَضى عامان مُنذ أن صارت الابنة الوحيدة لعائلة أَكِيلّارد زوجةً للماركيز ديتريش هابْروفيلد.
حدّقت في السّقف بعيونٍ مُثقَلة، وحَبستْ أنفاس صَدرها الضّعيفة.
أليس من المفترض أن يكون السّقف حَجرًا ثابتًا؟ فلماذا إذن يتأرجح أمامي كطفلٍ شقّي يأبى التّأدُّب؟
أو ربّما سكّيرٍ شديد التّرنُّح؟
ظلّ السّقف يَترنَّح قِبالة عينيها بشكلٍ مُضْطَرب لا يهدأ؛ ممّا أثقل ألمَ رأسِها المَشدود، وزَادَ من وَطأة قلبِها المُتعَب. كانت أشبهَ بموَلّدٍ اختلّ عقرب حَرارته؛ فصار يَلْتَفّ في دوائر كالمجنون من فَرْط ما ناله من الحرارة.
أغمضَت عينيها في مُحاولةٍ أخيره عَلّها تُسكِن من رَوعِ الفوْضى التي تَنهَش جسدها المُنهَك.
عائلة أَكيلّارد التي تنتمي لها غريس، لم تكن في الأصل من بنات الإمبراطورية، بل كانت تلك العائلة ابنةً لأرضٍ أخرى، قومٌ رُحّلٌ يعيشون على هوامشِ الزمن في أُلفةٍ مع الغابة، ويَبِرّون بها كما لو كانت أُمًّا حنونًا لهم.
لقد عُرفوا عن قَدْرِ أُعجوبتهم وعَظَمتهم، أولئك السّحرة الرّوحانيّون قد جابوا أرجاء الأرض جمّة،
لم يكن لهم وطنٌ ثابت، ولا ملاذٌ آمن يلجأون إليه وقتَ الشّدائد؛ فقد كانوا سادة التّرحال، بلا ملجأٍ ولا مأوى سوى أَصلِهم… أَكِيلّارد.
ولم يحدث قطّ، على مدى القرون، أن حادوا عن نمطهم هذا، أو مدّوا يدهم لغيرهم…
إلا مرةً واحدة.
مرةً واحدة فقط نكصوا عن تقاليدهم، حين استجابوا لنداءٍ أطلقه إنسان.
وكان ذلك في أرض كاربونيل، إمبراطوريةٌ تَكاد تلفِظ أنْفاسها الأخيرة.
آنذاك، كانت كاربونيل غارقة في الفوضى من رأسها إلى أخمص قدميها.
تعصف بها النزاعات من الداخل، وتُطوّقها التهديدات من الخارج.
الحروب الطويلة أتت على خِصابها، فصارت أرضها قاحلة، وأهلها عُنفوِّيون لا يعرفون غير الخصام.
وكان جليًّا لكل من نظر بعين البصيرة، أن الإمبراطورية قد تداعت وصارت رُدامًا، وأن قواها أوهى من أن تُطاب أو يُغيّر مصيرها.
لكن الأكيلّارد… لم يكونوا كغيرهم.
فحينما تخلّت الدول الحليفة عن كاربونيل، وتولّت عنها،
كانت يد الأكيلّارد هي الوحيدة التي امدّت يدَ العون، يدٌ خالصةٌ لا رجاء فيها لجزاء.
ورغم أنهم لم يتملكوا العدد؛
فقد ملكوا القوّة — قوةٌ روحيّة لا يُجارى لها مثيل.
وكانت معونتهم تعادل في أثرها معونة أمة عظيمة ذات سلطانٍ وجيش.
لقد ملأ سحرتهم الروحانيّون الفجوة التي خلّفها غياب السيوف والرماح،
وبدعمهم، عادت كاربونيل تنهض من كبوتها وتُزهر من جديد.
وفي اليوم الذي كُشف فيه غطاء البلاء عن كاربونيل،
رأى إمبراطورها أن من الوَفاء أن يُكرّم تلك العائلة العظيمة؛
فوهبهم ألقابًا ونبالةً داخل الإمبراطورية، اعترافًا بفضلهم الذي لا يُنسى.
كانوا عُظماء من المؤسسين الأوائل،
سَحَرَة روحانيّون لا يُجارون، ومكانتهم جِدُّ رفيعة بين الطبقات العُليا، كما وتوفّرت لهم كلُّ سبل الحياة الرّغيدة والرّخاء، ولكن حياة أَكِيلّارد لم تكن مُزهللةً بالرّاحة…
ألِأنّهم كأنوا شديدي التحرُّر مُعتَقين من أي قيد؟
أم لأن مواطني كاربونيل خَشَوا سطوتهم الرّوحيّة؟
لربما للاثنيْن معًا…
فمنذُ زمن بعيد، صارت العُزلة طوقًا مشوّكًا أحاطهم ببطء رغم نفوذهم الواسع المتملّك في قبضتهم العُليا على أراضي كاربونيل
كان الشّعرُ الفضي ذو اللمحة الزرقاء والعيون الغامضة السماتِ الفريدة التي لطالما امتاز بها نسل أَكِيلّارد.
ولطالما ظن الناس أنهُم، رغم كل غرابتهم، سيندمجون في الإمبراطورية… لكنّ مظهرهم المختلف عَمّق غُربتهم، وعزّز جدران العزلة مِن حولهم.
كثيرون تملّكهم الخوف؛ فسعوا لطردهم، وآخرون جاؤوهم يُطالِبونَهم بالرّحيل عن كاربونيل، التي صارت تتّسع فيها دوائر الإقصاء والنّبذ.
ولكنّ آل أَكيلّارد، رغم كلّ ذلك القِيل والقَال؛ فَهُم لم يرحلوا.
لم يعرف أحدٌ حقًّا ما الذي وَجدُوه في كاربونيل، تلك الأرض التي أخذت تذوي شيئًا فشيئًا.
قال البعض إن في تُرابها سرًا عتيقًا اجْتَذبهم، وقال آخرون أن الإمبراطورية منحتهم ما هو أثمن من الألقاب والسلطة.
وبينما كانت الشائعات تتقاذفهم من كل صوب، ظلّوا صامتين لا يُبدون أيّ ردة فعل…
ومرّت السنون، ولم تُكشف الحقيقة.
حتى جاء يومٌ اختفى فيه مؤسس الأسرة…
وحلّت بأكيلّارد أزمةٌ أطاحت بتوازنهم، وكادت تعصف بكيانهم.
لكنهم، في تلك اللحظة الحرجة، لم يجدوا من يمدّ لهم يد العون.
وهنا، نهضت غريس، الابنة الكبرى
تحرّكت حاملةً مستقبل الأسرة بأكمله على كاهليها وذهبت بنفسها إلى قصر “هابروفيلد”.
“أتيتُ لأَعقِدَ صفقةً مَعك، أيها الماركغراف.”
هكذا قالت، حين وقفت للمرة الأولى في حضرة ديتريش هابروفيلد.
رجلٌ حديدي منقوش في ذاكرة الحدود، محفور كعلامةٍ خالدة سطّرها مجدُ سلالته التي طالما صانتها.
كان وجهه صلد الملامح، يفيض بجلالٍ ساكن لا يحتجّ بصَخب.
وفي عينيه تعالٍ مهيب،كأنّ الناس تحته مراتب متباعدة.
نظرةٌ واحدة منه تكفي لتجمّد الدماء في العروق، وتزرع الرهبة في كلّ قلبٍ رهيف.
لكن غريس لم تكن تملك خيار التراجع.
فمستقبل بيت أكيلارد بأَسرِه كان معقودًا على قراراتها، وهي الكبرى، صاحبة العِبء والقرار.
رأت أنها قد بلغت مفترق طرقٍ بِحِيرة؛ فاختارت أحدها دون رجعة.
ولحسن الحظ، كان ديتريش يبحث عن وريثٍ، وقد وافقَ هدفُه ذاك طموح غريس.
فانتهت الصفقة بزواج… زواجٌ بدأ عقدًا، لكنه ما لبث أن تحوّل إلى رباط.
ولعلّ الأمر الذي خالف توقّعات غريس…
هو أن ديتريش، رغم جفاء طباعه، لم يكن كغيره من النبلاء.
لم يكن يرفع صوته عليها، ولم يمدّ يده أذًى، كما يفعل أقرانه من أهل القصور.
بل ظلّ أمينًا لوعوده، رغم التعب الذي أثقل كاهله من عبء العالم من حوله.
وهي التي كانت قد هيّأت نفسها لحياة قاسية، لكنّ القصر كان دافئًا، أقرب إلى المأوى منه إلى المتاهة.
وربما كان ذلك لأن أولئك الذين لم يتقبّلوا غريس… لم يكن لهم أن يطأوا عتبة القصر أصلًا.
كان خَدَمه طيبين، يخدمونها بإخلاصٍ لا تشوبه شائبة.
وبالمثل ديتريش زوجًا مثاليًا، وربّ بيتٍ يُحتذى به.
مرّةً في كل شهر، كانوا يؤدّون واجباتهم الزوجية بهدوء.
وحين حملت غريس بطفلها الأول، سرى في قلبها دفءٌ خافت من السعادة.
ظنّت أن كل شيء سيمضي في سلام…
لكنّ الأمور انقلبت رأسًا على عقب، حين تزامن حملها مع اشتعال حربٍ خارجية، اضطُرّ معها ديتريش إلى مغادرة القصر، تاركًا زوجته الحامل وحيدة.
وكانت ولادةُ الطفل الأول، بغير وجود الزوج، محطّةً عصيبة.
رغم ما اعتراها من خوفٍ وفزع، تماسكتْ غريس، وصمدت أمام الألم.
لكنّ المشكلة لم تكن في المخاض فحسب، بل فيما أعقبه…
حدث ما لم يكن في الحسبان — فقد استمرّ النزيف بعد الولادة، ولم يتوقّف.
ألِأن السرير امتلأ بدمائها حتى سال على الأرض؟
أم لأن ثِقل قدميها قد امتدّ حدّ التحجُّر مذ وضعت مولودها ذلك اليوم؟
رُزقت طفلها، نعم، لكنّها لم تستطع أن تنهض لتحتضنه.
الحمّى كانت شديدة، لم تفارقها، ظلت تفتكُّ بجسدها ساعةً بعد ساعة، مهدِّدة حياتها.
وما زاد من بؤس حالتها، أنّ معدتها كانت ترفض الطعام، ومع كلّ لقمةٍ تتبعها غصّة أو قيء.
“طفلي…”
همست بصوتٍ خافت، بالكاد يُسمَع.
كانت تفكّر بذلك الكائن الصغير، الذي لم تمنحه اسمًا بعد، آملةً أن تفعل ذلك حين يعود ديتريش.
كان الطفل يصرخ بصوتٍ باكٍ، تحمله المربية، تُهدهِده بصبر.
وكان قلب غريس يتمزّق، لأنها لم تستطع ضمّه إلى صدرها ولو مرة… خشية أن تنقل إليه الحمى اللعينة.
“ربما… سأموت.”
هكذا فكّرت، ونَفَسُها واهن، يترنّح بين الحياة والموت.
لطالما ظنّت أنها عاشت حياةً بلا ندم…
لكن أمام الموت، بدت الحياة وكأنها خذلتها، ظهر أمام ناظريها أشياء كثيرة لم تُنجز، لم تُقال، لم تُعاش…
وذلك أثقل كاهلها بالحسرة.
حلّ ظلامٌ خافت، يُرافقه هالة حزن غلّفت القصر، تخنقه بصمتٍ مهيب.
ورغم حالتها الحرجة، لم تُخبِر غريس ديتريش بحقيقة مرضها، ولم تُبلِغه أن الموت بات قاب قوسين منها.
كان لا يزال على جبهة القتال، يخاطر بروحه من أجل النصر.
وفي آخر رسالة منه، أخبرها بأن الحرب شارفت على نهايتها، وأن النصر قريب.
فكيف لها أن تُقلقَه في مثل هذا الوقت العصيب؟
ولذا، حين حاول الخدم أن يبلغوه بما يجري، أوقفتهم بلطفٍ مُثقل بالألم:
“هاه… هاه…”
زفرتُها كانت ثقيلة، كأنها الأخيرة، تنساب من صدرٍ أثقله الوداع…
رمشت غريس حين بدأ بصرها يغبش.
أنفاسها الواهنة باتت تتثاقل شيئًا فشيئًا.
يُرافقها النوبة التي كانت تشتدُّ على جسدها وتفتكِ به شيئًا فشيئًا…
وحين أظلمت رؤيتها تمامًا،
لم تعد غريس قادرة على فعل أي شيء.
كانت حالةً مؤلمة بحق.
لم يكن ذلك سوى عذابٍ خالص، إذ لم يكن لها في وجه رهبة الموت الزاحفة سوى التشبّث المرتعش بطرف الغطاء.
— “غريس…”
مع صوتٍ رقيقٍ مجهول الوِجهة، لا تُدرِك من أين جاء،
انفرجت أنفاسها قليلًا.
رفعت نظرها بدهشة؛
فرأت هيئةَ رجلٍ يتوسطُ غرفةً خالية،
رجل يبتسم لها مرتديًا عباءة سوداء.
— “من… أنت؟”
— “وما جدوى معرفة من أكون، وأنتِ تموتين؟”
كان صوته يحمل نبرة استبشارٍ لطيفة، لا تُلائم رهبة الموقف، وهو الذي جعل غريس تتعجب منه أكثر.
— “فلنختصر الطريق… غريس
أما زلتِ ترغبين في الحياة؟ “
…يتبع
************
انستا : aahkk_7
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات