1
الفصل 001
لطالما كان الريح في الشمال باردًا، ولا سيما في هذا اليوم. ومع ذلك، لم تُغلق كلوي النافذة. كانت تحدّق بعينين مفتوحتين على اتساعهما، منحنيةً إلى الأمام فوق حافة النافذة المغطّاة بالثلج.
ومن بعيد، عبر الثلج المتساقط، استطاعت أن تبصر المناطيد تحلّق فوق الجسر. أحيانًا كانت تتحرّك على هيئة تشكيلات، لكنّها اليوم كانت مصطفّة احتفالًا بمراسم الافتتاح.
ومن أحد تلك المناطيد، تدلّى لافتة كُتب عليها.
《شكرًا لحضوركم مراسم افتتاح أول خط سكك حديدية في يوجين.
-إيريك أسلان إ.أ-》
المركيز إيريك أَسلان.
كان هو محور صعود البورجوازية، الطبقة الوسطى، والمخترع العبقري الذي مهّد الطريق لنهضة البلاد.
(البورجوازية طبقة اجتماعية ظهرت في أوروبا أواخر القرون الوسطى وتوسطت طبقة النبلاء وطبقة الفلاحين الفقيرة، وارتبط وجودها بالمدينة التي ساهمت بشكلٍ كبير في تطورها لا سيما مع الثورة الصناعية التي مكّنتها من القضاء على امتيازات النبلاء وانتزاع السلطة منهم.)
‘وزوجي.’
فكّرت كلوي بهذا في كفاح داخلي، ثم شهقت بهدوء وأخفضت عينيها. كانت يداها مشبوكتين.
‘ستتزوّجين البارون أَسلان.’
هكذا قال لها والدها قبل خمس سنوات حين استدعاها سرًا.
في البداية ظنّت أن والدها يمازحها. كانت كلوي مخطوبة سلفًا للأمير الثالث.
أما البارون أَسلان، فكان من الطبقة الوسطى. كان في الأصل من عامة الشعب، لكنه نال لقبه بعد تخرّجه من الأكاديمية. ووالدها، الذي كان يمقت ‘الشرف’ الذي يتشبّث به أبناء الطبقة الوسطى، لم يكن ليزوّجها لأحدهم. لذا اعتقدت كلوي أنه لم يكن جادًّا.
لكن.
‘أخوكِ الأكبر أغرق نفسه في الديون.’
‘ماذا تقصد؟ كم تبلغ هذه الديون……؟’
‘ثلاثة ملايين.’
‘يا إلهي!’
كادت كلوي يُغمى عليها. ثلاثة ملايين كانت تعادل ميزانية الدوقية لعامٍ كامل. أي جنونٍ دفع بأخيها ليغرق في دين بهذا الحجم؟
‘شرط الزواج هو منحه لقبًا نبيلًا. لقد قرّرتُ أن أبيع اللقب مقابل المال. أنتِ تفهمين ما يعنيه هذا، أليس كذلك؟’
كانت كلوي تدرك تمامًا أن والدها يبيعها ليسدّ ديون أخيها الأكبر.
‘لكن يا أبي، أنا مخطوبةٌ بالفعل للأمير. أنتَ تدرك أنّ فسخ وعدٍ مع العائلة الملكية يُعد خيانة…….’
‘أيتها الحمقاء! العائلة الملكية قد سقطت!’
صرخ الدوق بصوتٍ غليظ، ورفع يده كما لو كان على وشك أن يصفعها.
‘استمعي جيدًا. العالم يتغيّر. قوى جديدة تنهض، وهي التي تحكم العالم الآن! البارون أَسلان في قلب تلك القوة الجديدة! إنه عبقري! هو نور هذا البلد!’
كان وجه والدها مشوّهًا بالغضب وهو يصرخ، كخاطئ يحاول تبرير خطيئته.
‘أتظنين أنني أفعل هذا من أجل المال؟ أليس هذا الزواج من أجل خير البلاد وازدهارها؟’
كان عذرًا بائسًا. فمهما بلغت قوة الطبقة الوسطى، فالأب الذي عرفته لم يكن ليمنح أحدهم لقبًا من ألقاب النبلاء.
‘فافعلي أي شيء لكسب ودّه، وتمسّكي به جيدًا. هل فهمتِ؟’
كان يفعل ذلك من أجل المال فقط.
لقد باعها من أجل المال.
‘لطالما كان هكذا.’
ضحكت كلوي بسخرية، وهي تتذكّر والدها الراحل الذي مات قبل ثلاث سنوات.
وبعد وفاته، انهارت الدوقية على الفور. أخيها الأكبر، الذي كان قد بدّد ثلاثة ملايين في القمار حين كان والده لا يزال حيًّا، لم يبقَ من يردعه حين أصبح رسميًا سيد البيت.
وهكذا تبخّر شرف الدوقية المهيب كالدخان، ولم يبقَ سوى أكوام الديون.
‘لقد أخذ مني مالًا مجددًا قبل فترة قصيرة.’
تمتمت كلوي، وهي ترفع نظرها نحو السماء، تسترجع تلك الذكريات.
الديون التي كان يرزح تحتها الآن تجاوزت أربعة ملايين تقريبًا. وبالرغم من نجاح زوجها في أعماله، إلا أن هذا المبلغ كان يُعد عبئًا حتى عليه. لمَ ينبغي على زوجها أن يسدّد ديون أخيها؟ لم تستطع كلوي أن تتوقّف عن طرح هذا السؤال.
في تلك اللحظة، فُتح الباب الذي ظلّ موصدًا بإحكام. كان ذلك إيذانًا بعودة زوجها من مراسم الافتتاح.
هبطت كلوي السلالم وهي تمسك بطرف فستانها المتعدّد الطبقات. بسرعة، ولكن دون خفّة. وكأنها وُلدت على ذلك، أسرعت بخطواتها محافظةً على أناقة ابنة دوق.
حين بلغت الطابق الأرضي، عدّلت كلوي ثيابها واعتدلت في وقفتها. ثم استقبلت إريك، زوجها.
ناول إريك حقيبته إلى كبير الخدم، ثم رفع نظره نحوها، ونادى بصوتٍ واضح رخيم.
“حبيبتي.”
كان قد سرّح شعره إلى الخلف هذا اليوم، فأظهر جبهته، وقد بدا أنيقًا في ملبسه. فوق قميصه الأبيض وسُترته السوداء التي احتضنت كتفيه العريضتين بانسجام، انسدلت معطفه الكحلي الداكن حتى لامس الأرض.
لطالما جعلتها عيناه الغائرتان تلهث بلا نفس. حتى حين يعلوها إرهاقٌ وظلال، كانت لا تزال تشع بهالة من الوقار. وكان لأنفه الحاد وفكّه المحدّد وقعٌ صارم يضفي على ملامحه مزيدًا من الجاذبية.
ارتسمت على شفتي كلوي ابتسامة خفيفة وهي تحدّق في وجهه.
زوجها، الذي ظلّ جميل الطلعة دومًا.
ردّدت ذلك في رأسها كأنها تتلو تعويذة، كان وسيمًا دومًا.
أول مرة رأت فيها إريك، كانت في الأكاديمية قبل أكثر من عشرة أعوام.
في أول أيام الدراسة، رأته يُلقي خطاب التفوّق بوصفه الحاصل على أعلى منحة دراسية.
يُتبع….
التعليقات لهذا الفصل " 1"