في عمق الليل، كان السكون يعمّ المكان حتى إنّ صوت الرياح بدا مخيفًا.
في تلك الساعة، كانت فتاة تركض في الشوارع المظلمة بلا أي بصيص من الضوء يرشدها.
من يسمع فقط وقع أقدامها المتعجلة لظنّ أنّها وحيدة على الطريق، لكن في الحقيقة، كانت هناك مجموعة تطاردها عن قرب — جماعة تنوي إيذاءها، بل وربما سلب حياتها أيضًا.
كلّما أسرعت في الجري لتفلت منهم، وجدت نفسها تسلك طريقًا لم تره من قبل.
وبينما كان نفسها يعلو ويهبط حتى كاد يقطع أنفاسها، رحلت الفتاة — أي اِلينا — تفكر من أين بدأ كلّ هذا الخطأ.
“مرحبًا، آنسة هل قلتِ إنك تريدين شفاء والدتك؟”
“آه… نعم. هل حقًّا يمكنك معالجتها؟”
“بالطبع، فالساحر لا يعجز عن شيء تعالي إلى هنا.”
هل كان خطؤها حينما لجأت إلى ذلك الشخص الغامض الذي شاع أنه قادر على فعل المستحيل، حتى علاج الأمراض المستعصية؟
أم حين عرّفته إلى معارفها المقربين؟
أم ربما كان الخطأ حين لم تستطع منع صديقتها من مناداته بـالمحتال ؟
ما زالت صورة الرجل، وهو يخرج سلاحًا من صدره فور سماعه تلك الكلمة، عالقة بوضوح في ذهنها.
ولم يكد جرح غائر يشقّ ساق صديقتها، حتى ظهر عدد من الرجال من خلفه.
ساعتها، ساعدت إلينا صديقتها على الهرب بأعجوبة، وتمكنت من إخفائها قبل أن يكتشفوا مكانهم من جديد.
لكنها لم تملك الوقت الكافي لتختبئ هي أيضًا، ومنذ تلك اللحظة وهي مطاردة بلا هوادة من أولئك الذين يسعون للانتقام منها على الأقل.
ركضت طويلًا حتى كاد أنفاسها تنقطع، وشعرت بأن بصرها يتلاشى شيئًا فشيئًا.
غير أنها لم تستطع التوقف الآن، وقد وصلت إلى مكان لا تعرفه، وبعد كل ما بذلته من جهد للهروب.
كانت الشوارع التي دخلتها واسعة مكشوفة، لا تصلح للاختباء.
لكن في المقابل، بدأ وكأنه طريق يرتاده الناس كثيرًا.
ورغم أن الوقت كان ليلًا حالكًا، ورغم أنها لم تعد تملك قوة لتصرخ طلبًا للمساعدة، إلا أنها فكرت أن أحدًا ما قد يراها — شخصًا عابرًا في هذا الليل المتأخر…
وبينما كانت تدور حول زاوية ما بقلب يائس متشبث بالأمل، لمح بصرها ومضة ضوء صفراء باهتة عند طرف رؤيتها.
كان مصباحًا صغيرًا يضيء عتمة الشارع.
“توقف عن الإصرار على الطبخ بنفسك دائمًا هل تعرف حتى الوصفة؟”
ورغم وجود المصباح، لم تستطع أن ترى جيدًا، فالظلام كان لا يزال كثيفًا.
لكن الصوت كان بلا شك صوت امرأة، وكان يحمل سكينة لا تليق بليلٍ مضطرب كهذا.
“نبدأ من الصلصة؟ أم نفترض أن الصلصة جاهزة ونبدأ من الطبق الرئيسي؟ ثم أنتِ لا تضعين التوابل بكمية محددة، لذلك الكمية تختلف كل مرة، فـ…”
“كفى، اصمت واستخدم هذا الذكاء في شيء أكثر نفعًا.”
كانا يتبادلان حديثًا يبدو كجدال طفيف، لكنه لم يكن شجارًا بحقّ.
دون تفكير، أدارت إلينا جسدها نحو مصدر الصوت وانطلقت راكضة نحوه.
وبينما غيّرت اتجاهها فجأة، سمعت صراخ مطارديها وقد أصابها الارتباك.
كانت رؤيتها تهتزّ بلا انتظام، بالكاد تميّز ما أمامها، لكنها استطاعت بجهد أن ترى ظلّين يتحدثان، ونجحت في أن تقف أمام أحدهما مباشرة.
بصوت متقطع
“أرجوكم، ساعداني…”
لم يكن في ذهنها اعتبار للأدب أو لدهشة الغرباء، فما استطاعت التفكير أو النطق به في تلك اللحظة لم يتجاوز تلك الكلمات القليلة.
ثم فقدت وعيها وسقطت على الأرض.
وفي اللحظة التي سقطت فيها، كان آخر ما رآه بصرها عينان بنيتان تحدّقان بها في ذهول.
***
استعادت إلينا وعيها عند بزوغ الفجر لم يكن الوقت صباحًا تمامًا، بل أقرب إلى ساعات الليل الأخيرة وما إن بدأ وعيها يعود إليها ولو قليلاً، حتى فتحت عينيها فجأة.
نهضت بسرعة دون أن تشعر بثقل جسدها، لكن يدًا ما أعادتها برفق إلى الاستلقاء.
حينها فقط أدركت ملمسًا طريًّا تحت ظهرها — وسادًا ناعمًا لحظة، أين أنا؟
“ارجعي للاستلقاء قليلًا.”
قبل أن يسيطر عليها الارتباك تمامًا، شعرت بوجود الشخص الذي أراحها وربّت على كتفها بخفة.
أدارت رأسها بتوتر، وحين التقت عيناها بعينيه، بدا الأمر كما لو كان ذلك التقاءً طبيعيًا لا مفر منه.
وأول ما خطر ببالها عندما رأت وجهها هو أنه لا يبدو عليها أنها تريد إيذاءها.
كانت صاحبة شعرٍ قصير بلون بني فاتح، ينسدل بنعومة تحت ضوء المصباح.
وجهها الذي تلألأ بضوء المدفأة لم يكن حاد الملامح، بل بدا أقرب إلى اللين والهدوء، وإن كان لا يخلو من البرود.
لم يكن على ملامحها أثر لأي انفعال — لا قلق، ولا دهشة، حتى تجاه من استيقظت فجأة من غيبوبتها.
لاحظت إلينا خلال لحظات قصيرة أن وجه المرأة لا يتحرك بأي تعبير تقريبًا، فشعرت بالحرج وأبعدت نظرها أخيرًا.
هل نظرت إليها كثيرًا بصمت؟ كان عليّ أن أقول شيئًا أولًا؟
وفي خضم ترددها، سبقتها المرأة بالكلام.
“هل تتذكرين كيف وصلتِ إلى هنا؟”
“ماذا؟ آه… آسفة، لا أذكر جيدًا…”
“لا بأس على ما يبدو، كنتِ تستعيدين وعيك ثم تفقدينه مرارًا.”
كان صوت المرأة هادئًا مثل ملامحها وبنفس النبرة الهادئة، بدأت تشرح لإلينا ما حدث أثناء فقدانها للوعي.
“ما إن طلبتِ المساعدة حتى أغمي عليكِ، فاضطررنا لإحضارك إلى بيتنا كانت الليلة متأخرة جدًا، ولم يكن هناك خيار آخر صديقك أيضًا نائم الآن في غرفة أخرى.”
“صديقي؟ تقصدين… جاك؟ هل جاك هنا؟”
“نعم.”
“!”
المرأة التي كانت تراقب إلينا في صمت عندما نهضت فجأة، سحبت كرسيها إلى الخلف
“ذكرتي صديقك وأنتِ بين الوعي والإغماء أرى من تعبيركِ أنك لا تتذكرين ذلك.”
“آه…”
“على كل حال، ليس هذا المهم الآن.”
أشارت المرأة بيدها لتنهض، فتبعتها إلينا شبه مسحورة بحركتها.
وأثناء سيرهما، قالت المرأة دون أن تلتفت إلا قليلًا
“حالة صديقك ليست جيدة حرارته مرتفعة جدًا، وكأنه بين الحياة والموت وكان ينادي شخصًا ما طوال الوقت… اسمك إلينا، أليس كذلك؟”
“آه، نعم، نعم! أنا إلينا!”
“من الأفضل أن تذهبي لرؤية صديقك أعلم أن الأمر متعب لأنكِ أفقْتِ لتوّك، لكن حاولي قدر ما تستطيعين. وإن وجدتِ صعوبة، فسأساعدكِ بنفسي، فلا تترددي في إخباري.”
قالت عبارتها الأخيرة بصوت خالٍ من أي تكلّف، ثم فتحت الباب أمامها.
حاولت إلينا أن تمنع نفسها من التحديق، لكن عينيها كانتا تجولان في الممر بدهشة.
المصابيح المثبّتة على الجدران كانت مضاءة على مسافات متقاربة، ينساب ضوؤها الذهبي على ورق الجدران الهادئ بلونٍ يشبه سكينة صاحبة المنزل.
لم تكن هناك زينة فاخرة أو لوحات، ومع ذلك بدا المكان أنيقًا ونظيفًا.
الممر فسيح، والسقف والسور مصنوعان من مواد تبدو فاخرة، لكن الجو العام لم يكن متكبّرًا، بل بسيطًا ومريحًا.
كانت إلينا تدرك كم يصعب إبقاء كل هذه الأنوار مضاءة في بيتٍ يخلو من الناس — إذ يتطلّب ذلك خادمًا يتولى تشغيلها دائمًا.
المنزل ليس كبيرًا كثيرًا… ربما صاحبه من النبلاء ذوي الثراء المتوسط؟ أو مجرد مواطنٍ ميسور؟
ولأنها لم ترَ نبيلاً من قبل، كانت إلينا تتخيل هوية من أنقذوها، وشعرت بتوتر متأخر، لكنه سرعان ما تلاشى عندما نظرت إلى ظهر المرأة التي تتقدمها.
كانت خطواتها الواثقة في الممر الهادئ مطمئنة، وتصرفها المتواضع رغم إنقاذها غريبين من الشارع، جعل قلب إلينا يهدأ شيئًا فشيئًا.
لم تسألني عن شيء حتى الآن… لاحظت إلينا ذلك متأخرة، ثم فكرت ربما تنتظر أن تريني جاك أولاً قبل أن تسأل عمّا حدث عليّ أن أشرح كل شيء بوضوح حين يحين الوقت.
توقفت المرأة أخيرًا أمام بابٍ ما، وفتحته دون أن تطرق.
نظرت إليها إلينا بقلق، لكن المرأة التفتت قائلة بنبرة مطمئنة
“لقد أجريتُ له علاجًا بسيطًا سيصبح بخير ما إن تنخفض حرارته، فلا تقلقي كثيرًا.”
“آه، هذا يبعث على الطمأنينة…”
“وربما يكون قد استعاد وعيه الآن هيا، لندخل.”
كان صوتها خاليًا من الانفعال، لكنه حمل دفئًا خفيًا لم تستطع إلينا إلا أن تشعر به.
دخلت المرأة أولاً، وتبعتها إلينا بخطى حذرة.
كان في الغرفة نفس الدفء الذي أحست به قبل قليل.
وبينما كانت تنظر حولها، وقعت عيناها على السرير في زاوية الغرفة، فأسرعت نحوه.
الشخص المستلقي هناك، بوجه شاحبٍ كالموتى، كان بلا شك جاك.
وقبل أن تتمكن من مناداته بصوت مرتجف، فتح جاك عينيه فجأة — كمن بُعث من الموت.
صرخت إلينا في ذعر، وفي اللحظة نفسها، قفز جاك من السرير واندفع نحو الباب إلى حيث كانت تقف منقذتهما.
“جاك!”
لم تستطع إلينا حتى أن تحرّك شفتيها قبل أن يقع كل شيء في لحظة واحدة.
التعليقات لهذا الفصل " 148"