145
“تفضل بالدخول.”
كان المنزل، الذي غمره ضوء الشمس في وضح النهار، مرتّبًا بما يكفي لاستقبال الضيوف، لحسن الحظ وعندما فتحت الباب بالمفتاح وناديتُ على كايد، خطا إلى الداخل بصمت.
بينما كنت أغلق الباب، متسائلًا عما إذا كان هناك شاي مناسب لأقدّمه له، جاءني صوته من خلفي.
“لم أتوقع أن تستقر في العاصمة.”
كان صوته يحمل نبرة يصعب تحديدها، وكأنه مزيج من فتور خافت وتعالٍ مألوف استدرتُ بفضول بسبب كلماته المفاجئة، لأكتشف أنه كان يتفحص المكان من حوله.
أكان حديثًا لنفسه؟ لكنه نطقها بوضوح شديد بحيث يصعب تجاهلها.
لكن، قبل أن أقرر ما إذا كنت سأجيب أم لا، واصل حديثه مجددًا:
“بما أن سيد البرج كان يعيش في برجه، ظننتُ أنك ستعود معه إلى هناك.”
“آه، لم يكن ذلك احتمالًا مستبعدًا تمامًا.”
ابتسمتُ بخفة بينما استرجعتُ النقاش المحتدم الذي دار بيني وبين دانتي حول اختيار مكان إقامتي.
“كان لدي بعض الشروط لاختيار مكان العيش، وقد استُبعد البرج أثناء هذه العملية.”
“وما هي هذه الشروط؟”
“أهمها كان الأمان، ثم المساحة، وبعدها ما إذا كنت سأرتاح فيه أم لا في الواقع، لا يمكنني إخبارك بجميع الشروط، فهي كثيرة ويصعب شرحها واحدة تلو الأخرى.”
عندما كنا نبحث عن منزل، لم يكن لي رأي حاسم في الأمر فأنا، بحكم تنقلي بين بيئات مختلفة لسنوات طويلة، كنت قادرًا على التكيّف مع أي مكان بل حتى العودة إلى المنزل الذي التقيت فيه دانتي لأول مرة لم تكن لتُزعجني لكن دانتي، على عكسي، كان دقيقًا للغاية في اختياره لمكان إقامتنا.
لأنني كنت قد لقيت حتفي سابقًا في قرية صغيرة قرب الحدود، لم يكن دانتي قادرًا على تبديد مخاوفه بسهولة لذلك، أصرّ على أن نسكن في منطقة مأهولة بالسكان، وأخذ في الحسبان جميع العوامل التي قد تشكّل خطرًا، بالإضافة إلى التأكد من أن المنزل مناسب لحياتنا معًا، وأن تصله أشعة الشمس جيدًا، وما إلى ذلك لم أكن أملك شروطًا محددة، لذا كان هو يعوّض ذلك بمضاعفة حرصه.
وقد تم استبعاد البرج خلال عملية تقييم المخاطر.
“هل تدرك عدد الحوادث التي تقع في البرج؟ أعلم أنك ستكون أكثر حذرًا لو عشت هناك، لكن لا يزال الأمر محفوفًا بالمخاطر.”
“ولماذا تحدث كل هذه الحوادث؟”
“بسبب التجارب السحرية الجديدة التي تُجرى هناك.”
“آه…”
حينها، راودتني فكرة أن البرج ليس سوى موطن للحالمين الذين لا يكترثون للعواقب، لكنني احتفظت بها لنفسي.
بعد تفكير طويل، انتهى بنا المطاف باختيار منزل واسع إلى حد ما في العاصمة، تمامًا كما قال كايد رغم أنه في الواقع يقع في أطرافها، إلا أن قربه من منزل ماشا يجعله أقرب إلى قلب المدينة لذا، لا حاجة لذكر أنه في الضواحي.
وربما كان استقراري في العاصمة هو السبب في قدرة كايد على زيارتي اليوم بسهولة.
رفعت رأسي قليلًا ونظرت إليه بصمت للحظات، ثم، متأخرًا خطوة، أشرت له بالجلوس على الأريكة.
“يمكنك الجلوس هنا هل يفترض بي، من باب الأدب، أن أسألك إن كنت قد جئت لرؤية دانتي؟”
“وأنت تعلم الجواب بالفعل، فلماذا تسأل؟”
“ظننتُ فقط أنك من النوع الذي يهتم بمراعاة الشكليات.”
وقبل أن أتوجه لجلب الشاي، أشار إليّ برفض ذلك.
“لا داعي، لن أطيل البقاء جئت فقط لإيصال أمر واحد، ثم سأرحل.”
“أمر واحد فقط؟”
“نعم.”
عقدتُ حاجبيّ قليلًا، متعجبًا.
“إن كان بهذه البساطة، فلمَ أتيت بنفسك؟”
“كان يجب أن آتي شخصيًا فعدد من يملكون الإذن بالاطلاع على هذه الوثيقة محدود للغاية.”
ما الذي يمكن أن يكون بهذه الأهمية؟
قبل أن أطرح أي سؤال، جلستُ بهدوء قبالته، ليضع كايد فوق الطاولة رزمة من الأوراق، كتبت بلغة مجهولة، لكن ترجمتها أُرفقت في الأسفل.
أمعنت النظر فيها، متسائلًا عن السبب الذي استدعى إحضارها شخصيًا، لكن كايد قاطعني بصوته، وكأنه يمنعني من التحديق أكثر.
“برأيك، لماذا جئتُ إليك؟”
“همم… ظننتُ أنك جئت لتكمل ما لم تستطع قوله في ذلك اليوم.”
ربما كنت مخطئًا، لكنني لم أجد تفسيرًا آخر ذلك اليوم الذي سقطت فيه إلى بُعد آخر، ثم عدتُ مجددًا.
“كايد.”
“… نعم؟”
“لا أدري بماذا تفكر، لكن إن كان هناك ما تريد قوله، فلتخبرني به لاحقًا لا يبدو أنني أملك الوقت للاستماع الآن.”
كنت قد قلت لكايد سابقًا، إن كان لديه ما يريد قوله، فليأتِ ويخبرني به لاحقًا.
“لا أدري ما العلاقة بين هذا الحديث وبين الوثائق التي أحضرتها.”
قلتُ ذلك ببرود، ثم حاولت مجددًا تصفح الأوراق، لكن كايد دفعها بنفسه نحوي كانت تلك لفتة نادرة من اللطف، جعلتني أُخفض بصري إليها لا إراديًا وحين فعلت، كان كايد قد قلب الصفحة الأولى بنفسه.
وسط الرموز الغريبة التي لم أفهمها، وبين الكلمات التي استطعت قراءتها، استوقفتني عبارة واحدة كأنها انغرست في ناظري.
< سجلّات عن المنتقلين بين الأبعاد >
…توقّف نفسي للحظة.
لم أدرك أنني كنت أحبس أنفاسي إلا حين اضطررت عمدًا إلى الزفير مجددًا في تلك اللحظة، كان كايد يتفحص الأوراق كما لو كان يقرأها بالنيابة عني، قبل أن ينطق أخيرًا بصوت هادئ.
“في ذلك اليوم، قلتَ إنك عدت من موطنك سواء كان ذلك بإرادتك أم لا، فقد عدت إلى هذا البُعد.”
صدر صوت تقليب صفحة.
“مهما كانت التفاصيل، فكل ما حدث كان بسببي.”
“ليس بسببك.”
“بل هو كذلك لا زلتُ أتذكر جيدًا… كيف دفعتني، وكيف شعرتُ بتلك البرودة للحظة خاطفة.”
شعرت بالبرودة؟ البشر مذهلون حقًا، يتمكنون من إدراك أشياء غير مرئية بمجرد غريزتهم أما أنا، فلم يخطر ببالي حتى الشعور بالبرد، حتى اللحظة التي ابتلعني فيها ذلك الفراغ… آه.
كعادتي، حين أريد تجنّب مواجهة شيء ما، تبدأ أفكاري بالشرود في اتجاهات أخرى كنت على وشك هز رأسي بقوة لطردها، لكنني توقفت، متذكرًا أن كايد يجلس أمامي.
لم يكن واضحًا إن كان قد أدرك ارتباكي، لكنه واصل حديثه بسلاسة.
“كان لدي الكثير من الأسئلة لأطرحها عليك لماذا فعلت ذلك؟ ماذا واجهتَ هناك؟ لكن مع مرور الوقت، بدأتُ أفكر في شيء آخر.”
تلاقت عيناي بعينيه الفضيتين الباردتين.
“حتى لو سألتك، لن تجيبني، أليس كذلك؟”
“……”
“على الأرجح، ستتساءل لماذا أطرح مثل هذه الأسئلة، ثم ترد بإجابات غامضة، وتهرب من الموقف.”
رغم رغبتي في الاعتراض على كلامه، لم أجد ما أقوله، لأنني كنت أعلم أنه محق كان تجنّب الأسئلة الصعبة عادةً قديمة لديّ.
قلّب كايد بعض الأوراق الأخرى، ثم فرد أمامي الصفحة الأخيرة.
“لذلك، بدلًا من سؤالك، قررتُ البحث بنفسي عما رأيته هناك بحثتُ في كل مكان، لدى المؤسسات والأشخاص، وجمعت معلومات عن المنتقلين بين الأبعاد، إلى أن عثرت على هذا.”
“وأحضرتَه إليّ لأراه بنفسي.”
ساد بيننا الصمت للحظات بعد تلك الكلمات، كأن المحادثة قد انتهت عند هذا الحد.
لم أتمكن من تصفح كل الوثائق، لكنني ركزت نظري على الصفحة الأخيرة التي عرضها عليّ.
كان المحتوى استمرارًا للعبارة التي قرأتها سابقًا: سجلات عن المنتقلين بين الأبعاد لكن ما تبعها… كان يتحدث عن أعمارهم.
بينما كنت أُمعن النظر في تلك السطور الطويلة، بدا أن هناك جهة ما قد راقبت المنتقلين بين الأبعاد لفترة طويلة لم يكن ليحدث ذلك دون وجود منظمة بحثية متخصصة.
ما إن تساءلت في داخلي عن هذا الأمر، حتى قدّم كايد تفسيرًا في وقته تمامًا.
“أول سجل عن المنتقلين بين الأبعاد وُجد في أحد المعابد ظهر شخص فجأة وسط المعبد، فاحتفظوا به هناك، وراقبوه عن كثب حتى بين الكهنة، لم يكن يُسمح إلا لذوي المناصب العليا بالاطلاع على هذه الوثائق، وكان من الصعب الوصول إليها.”
“في معبد؟”
“نعم.”
مكان لم يكن ليعني لي شيئًا على مدار حياتي، كنتُ منشغلًا فقط بمحاولة البقاء، فلم أكن أقترب من المعابد، إلا لأخذ بعض الإمدادات التي يوزعها الكهنة أحيانًا.
لكنني كنت أعلم أن الأديان تعتمد على الإيمان المتوارث عبر الأجيال، وذلك وحده يفسر كيف استمر هذا السجل طويلًا. ربما أصبح المنتقل بين الأبعاد رمزًا مقدسًا هناك.
انتظر… هل يعني هذا أن هناك أحدًا الآن، في معبدٍ ما، يعيش كمُنتقل بين الأبعاد؟
رفعتُ رأسي بسرعة، والتقت عيناي بنظرته الثابتة في الفراغ.
“السجلات المتعلقة بالمراقبة توقفت عند هذه الوثيقة، لكن بعدها… وجدتُ شيئًا آخر.”
كان صوته هادئًا، يروي الحقائق بموضوعية، لكن نظرته ظلت تراقبني عن كثب، كأنه يترقب رد فعلي.
كأنه يتوقع مني أن أنصدم بما سيقوله.
“كان ما تبقى من الوثائق يتحدث عن… كيف يمكن للمنتقل بين الأبعاد أن يموت.”
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].