142
في البداية، ظننت أنني سقطت داخل الدوامة لكن ما إن لامست قدماي الأرض بثبات، أدركت أن هذا المكان لم يكن داخلها، بل كان مكانًا مختلفًا تمامًا.
من المؤكد أن الوحوش لم تكن لتخرج من غابة بهذه السكينة والهدوء.
المكان الذي كنت فيه الآن كان غابة كثيفة الأشجار، خالية تمامًا من أي أثر للبشر كانت أشعة الشمس الهادئة تميل بزاوية بين الأغصان، وتحت قدمي، شعرت بملمس العشب الطري، لا يزال حيًّا ونضرًا.
أينما نظرت، لم يكن هذا المكان وجهة منطقية لما كان ينبغي أن يكون نتيجة مد يدي نحو الدوامة كنت متأكدة من أنني حين مددت يدي، رأيت الدوامة تتلوى بشكل عنيف… فهل كان ذلك مجرد وهم؟ أم أن هذه النتيجة كانت حتمية لما فعلته؟
عجزت عن استيعاب الموقف، ولم أملك سوى أن أرمش بعينيّ مرارًا، حينها فقط، تسلل إلى مسامعي صوت أنفاس متقطعة، واهنة.
رغم أنه كان يصدر من مسافة بعيدة، إلا أنني استطعت تمييزه بوضوح… كان صوت شخص يلهث بصعوبة، وكأن الهواء يهرب من رئتيه على عجل كان صوتًا يخبرني بأن صاحبه في مأزق حقيقي.
دون أن أدرك، استدرت باتجاه الصوت.
وهناك، رأيت آثار دماء متناثرة، مكونة خطًا متصلًا، وكأنها ترشدني إلى مكان ما.
كان النزيف شديدًا، حتى أن الأرض التي مر عليها الدم تحولت إلى لون داكن، أقرب إلى السواد وفي أكثر البقع امتلاءً بالدماء، كانت التربة مبعثرة بعشوائية، كما لو أن الشخص النازف كان يترنح، ثم تعثر وسقط.
لم يكن بوسعي معرفة هوية الجريح بمجرد النظر إلى آثار الدم لم يكن هناك أي دليل يسمح لي بالتخمين، ولا أي مؤشر واضح للهوية.
لكنني كنت أعرف… كنت أعرف أن هناك شخصًا واحدًا، في هذا الوضع تحديدًا.
ولهذا، أدركت بغريزتي الحقيقة.
أنا الآن في نفس المكان الذي يوجد فيه ذلك الرجل.
لا أحد هنا سوانا.
مجرديْن، أنا وهو، فقط.
تابعت السير، متتبعة آثار الدم التي لم تنقطع لحظة، وكأنها كانت ترشدني عمدًا لم يستغرق الأمر طويلًا حتى رأيته.
جسد مترنح مستند إلى جذع شجرة.
كان يجلس فوق دائرة سحرية تتوهج بلون غريب، وكأنه استنزف آخر ذرة من قوته ليطلق سحره الأخير.
مرت مواجهتنا بصمت، أكثر هدوءًا مما تخيلت.
وسط سكونٍ مطبق، لم يكن يُسمع سوى همسات الريح وهي تمر بخفة على ذراعي، وظلال السحب التي حجبت الشمس، تاركة خلفها ظلامًا خفيفًا تحت الأشجار الكثيفة.
حدّقت به في صمت.
لم يتجنب نظرتي، بل قابلها مباشرة.
لم يكن في ملامحه أي أثرٍ للندم، ولا أدنى إشارة إلى التراجع.
ورغم أن حالته كانت متردية، إلا أن صوته خرج بلا تردد، كما كان دائمًا.
“أشعر وكأنني عدوك اللدود، وكأنني قتلت والديك.”
قالها بصوت يحمل ابتسامة خافتة.
“حتى عندما كان المبنى ينهار من حولنا، لم تنظري إليّ بهذه الطريقة.”
“تبدو سعيدًا بذلك.”
“بالطبع، ولم لا؟”
كأنما كان على وشك الضحك، لكنه لم يستطع، فقط انقطع صوته، متحولًا إلى أنفاس مضطربة.
راقبته بصمت وهو يحاول تنظيم أنفاسه، ولاحظت أن الدائرة السحرية أسفله تتوهج أكثر كلما زاد اضطرابه.
وكأن اقترابه من حافة الموت كان يغذي السحر بالمزيد من الطاقة.
لاحظ نظراتي الموجهة نحو الدائرة، فمرر يده عليها بابتسامة باهتة.
“لم أتخيل قط أن يكون هذا آخر تعويذاتي لكنني لا أشعر بأي ندم.”
“وما هي هذه التعويذة؟”
“من يدري؟ كل ما في الأمر أنني أحرقت حياتي لأجلها، هذا ما أعلمه فقط.”
ثم، كما لو أنه تذكر شيئًا، أطلق تنهيدة مصطنعة.
“في أوقات كهذه، أغبطكِ حقًا.”
“…”
“مهما احترقتِ، لن تنطفئي أبدًا.”
“…”
“حتى داخل الانفجار الذي أعددته لكِ، خرجتِ حية.”
إذًا، حتى الآن، لم يتوقف عن استفزازي.
كان ينطق بكلماته دون أي تردد، يتحدث عن موتي وكأنه حدث عابر، وكأن الأمر لا يستحق حتى أن يُذكر.
بل استمر، دون أن يترك لي فرصة لالتقاط أنفاسي.
“بما أننا تطرقنا لهذا الموضوع، أود أن أسمع رأيكِ، كيف كان شعوركِ عندما كنتِ تحتضرين داخل الانفجار؟”
“…شعوري؟”
“نعم، كنت أرغب في سؤالكِ منذ أن رأيتكِ، لكنني لم أجد الفرصة حتى الآن، يا للأسف.”
كان صوته يتخلله السخرية، وكان لاهثًا، لكنه لم يتوقف عن الحديث.
أغمضتُ عيني للحظة.
أن يُذكر ذلك الحادث على لسانه، هو بالذات، جعل ذهني يعيد استرجاع تلك اللحظة، رغمًا عني.
لم أكن أريد أن أتذكر.
لا أذكر ما فكرت به في تلك اللحظة، عندما تمزق جسدي وسط اللهب.
ولا أريد أن أتذكر.
كان استحضار تلك الذكرى يفوق قدرتي على الاحتمال.
كل ما يمكنني فعله، هو أن أخمن.
ربما كنت أتألم بشدة.
ربما، حين رأيت أولئك الذين عاملوني بلطف، وكل لحظات السلام التي عشتها تنهار أمام عينيّ… تمنيت أن يكون كل ذلك مجرد حلم.
وحده، هذا الرجل، استطاع أن يلفظ تلك المعاناة بسهولة تامة.
كرهته لذلك.
وأيضًا، شعرت بالخوف…
الخوف من أن يتكرر ذلك مجددًا.
أردت أن أبدد هذا القلق.
“أنت تعلم أنني لن أخبرك بما تريد معرفته، فلماذا تسأل؟”
“آه، كنت آمل أن تمنحني ولو قليلًا من الرحمة لكن يبدو أنني نلت منك كراهيةً لا رجعة فيها.”
ثم أضاف بابتسامة ساخرة، كأنه يخشى أن يراني أشتعل غضبًا حقًا: “ربما من الأفضل أن أتوقف عند هذا الحد.”
ثم، أخيرًا، نطق بجوهر حديثه:
“أنا أعرف كيف يمكن إيقاف الوحوش التي تجتاح العاصمة.”
صار نَفَسه أكثر اضطرابًا، لكنه مع ذلك حاول أن يحافظ على ابتسامته، مما جعله يبدو أكثر بؤسًا في نظري.
“لذا، عليك إبقائي على قيد الحياة حتى ذلك الحين.”
“أنا أعلم بالفعل أن نقطة ضعف الوحوش التي أطلقتها هي الأحجار السحرية التي زرعتها فيها.”
“آه، إذن لقد أدركت ذلك؟ ولكن هذا وحده لن يكون كافيًا.”
أطلق ضحكة جافة، وكأن الفكرة تثير سخرية لا حد لها، لكنه ما لبث أن صمت عندما لم أُبدِ أي رد فعل.
حين عاد السكون ليبتلع كل شيء من حولنا، نطقت أخيرًا بصوت هادئ:
“أنت تدرك جيدًا أنه لا يوجد أي سبب يدفعني للإبقاء عليك حيًا.”
“…….”
“لذلك، سأخبرك بشيء واحد فقط قبل أن تنتهي.”
ثم انحنيت قليلًا، حتى تلاقت أعيننا في تلك اللحظة، شعرت بأن وجهي المكشوف، الذي اعتدت إخفاءه خلف القناع، يبدو غريبًا حتى عليّ.
“بينما كنتَ تهرب وترتكب هذه الفظائع، زرتُ أنا ‘دانتي’ وموطني.”
“……ماذا؟”
“نعم، عدت إلى المكان الذي نشأتُ فيه.”
اتسعت عينا الرجل بذهول، لكن لم يكن لذلك أي أهمية عندي تركته في صدمته، وأكملت حديثي بهدوء:
“لكني لا أخبرك بهذا لمجرد إطلاعك على رحلتي، بل لأروي لك ما رأيته في طريق العودة.”
حينها، استعاد ذهني صورة ذلك المشهد.
“عندما عبرتُ العوالم، رأيت شيئًا لم أستطع حتى تسميته.”
هاوية لا قاع لها.
فراغٌ مطلق، مجهول، ومخيف.
حين نظرت إليه لأول مرة، تذكرت الدائرة السحرية التي رسمها ‘دانتي’ أمام برج السحر بعد وفاتي كان السواد الطاغي عليها مزعجًا إلى حد التقزز، تمامًا كاليأس الذي كان يعتصره.
لو دخل إنسان إلى ذلك المكان، فسيُحكم عليه بالجنون بلا شك.
“عندما رأيتُ ذلك، لم أستطع منع نفسي من التفكير فيك.”
لأنك كنت تؤمن بأن ما وراء هذه الأبعاد هو الجمال المطلق.
ربما يرى البعض أن تلك الهاوية هي المكان المناسب للانتقام منك، لأنها ستكشف لك حقيقة وهمك القاتل.
والأهم، أنني كنت أملك القدرة على دفعك إلى هناك.
ولو أردت، فلن يتمكن أحد من منعي، حتى ‘دانتي’ نفسه، الذي رأى ذلك الفراغ معي.
عندما استوعب الرجل مغزى حديثي، توسعت عيناه أكثر لم أكن أعرف ما الذي شعر به حينها، لكنه لم يكن اليأس بلا شك.
بل قد يكون، ويا لسخافة الأمر، الأمل.
لكني أعرف كيف أطفئ ذلك الأمل.
“لكنني أدركتُ أنك ستعتبر ذلك مكافأة، وليس عقابًا.”
سقطت كلماتي على رأسه كصخرة ثقيلة تجمدت ملامحه، وظلت عيناه الحمراوان محدقتين بي بذهول.
“لن أمنحك أي فرصة لن تتعلم شيئًا جديدًا، ولن تحظى بالمزيد من الوقت لن تعرف أبدًا ما الذي يوجد خارج هذه الأبعاد.”
“……لا، هذا غير ممكن.”
“لن ترى شيئًا، ولن تفهم شيئًا.”
كانت رائحة الدم تملأ الهواء.
“وستموت هنا، بلا حول ولا قوة.”
“…….”
“هذه هي نهايتك.”
النهاية التي كنت تتهرب منها بكل ما أوتيت من قوة.
كنت أعرف جيدًا كيف أجعل نهايتك أكثر إيلامًا.
جئت إلى هنا لأشهد سقوطك بأم عيني، ولأرى ذاك الذي تسبب في أكبر معاناتنا وهو يتخبط في لحظاته الأخيرة.
ولكن، حين رأيت ملامحه وهي تتصلب شيئًا فشيئًا تحت وطأة الموت، لم أشعر بأي ارتياح أو راحة.
النهاية… لم تكن سوى نهاية.
قد يكون هذا هو ختام القصة، لكنه لن يكون ذكرى تستحق أن أحملها معي.
أدرت ظهري له، دون أن أُلقي عليه نظرة أخيرة.
سرتُ في الطريق الذي جئت منه، إلى أن عدتُ إلى النقطة التي بدأت منها.
وهناك، وكأنها كانت تنتظرني، داعبتني نسمات هواء لطيفة، تحمل معها ذكرى الشخص الوحيد الذي أرغب برؤيته الآن.
“دانتي.”
بمجرد أن نطقت باسمه، شعرت بدفء مألوف يلامس ظهري، وكأنه أمر بديهي.
ماليتُ عليه بلا تفكير، متذمرة بخفوت:
“لقد أرسلتني إلى هنا عن قصد، أليس كذلك؟”
“أجل.”
كانت نبرة صوته هادئة، تتخللها ضحكة خفيفة ضحكة حملت معها السكينة التي كنت أحتاجها لمحو ما تبقى من انزعاجي.
وفي الوقت ذاته، جاء من خلفي صوت خافت، صوت شخص يلفظ أنفاسه الأخيرة.
لكن ابتسامة ‘دانتي’ لم تتغير، ولم تتبدد، بل ازدادت عمقًا وهو يرفع يدي إلى شفتيه ويطبع عليها قبلة خفيفة.
“أردت فقط أن لا تشعر بالقلق بعد الآن.”
همست كلماته بلطف، بينما لامست شفتيه ظهر يدي، تاركة أثرًا خفيفًا من الدفء.
كان الشعور طفيفًا، لكنه حقيقي.
لم أسحب يدي، بل تركتها بين يديه، وأغمضت عيني، هامسة بنفس كلماته:
“أجل، لن نشعر بالقلق بعد الآن.”
كنت سعيدة لأنني استطعت أن أرددها له.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].