138
“لمَ هو هناك؟”
“إي، هل تعرفينه؟”
“نعم.”
سمعت هدير آخر مختلف بينما ضرب الوحش الأرض بقوة عندما رأينا ذلك الوحش يندفع نحو صبيٍّ يبدو أصغر منا، أصيبت ماشا بالذعر، لكنني اكتفيت بمراقبة المشهد بهدوء.
وكما توقعت تلا صوت معدني حاد ذلك الهجوم، وفي اللحظة نفسها، هوى جسد الوحش الضخم على جانبه.
إيفان، الذي كان قد استل سيفه دون أن ألحظ، وقف هناك، يبتسم بثقة، دون أن يحمل وجهه أي أثرٍ لجراح.
“أي… أرجو أن أكون مخطئة، لكن الأشخاص الذين تعرفهم الآن لا يتجاوزون… تجار القافلة وأولئك الأبطال الذين أوصلوك، أليس كذلك؟”
“تتذكرين كل ذلك أيضاً؟ أنتِ ذكية، ماشا.”
“لستُ ذكية، بل أنتِ من لا تعرف سوى القليل من الأشخاص!”
ثم أمسكت بي ماشا وبدأت تهزني بعنف بينما تثرثر بسرعة مذهلة:
“بما أنه تمكن من القضاء على الوحش بمفرده، فلا بد أنه أحد أبطال الحرب، صحيح؟ لا يمكن لشخص يعمل مع القافلة أن يكون بهذه القوة! لماذا هذا الشخص أمام منزلنا الآن؟ لا، لا يهم ذلك، لكن ألا يجب أن تذهبي لتحييه؟”
“أرجوكِ، اسألي سؤالاً واحداً في كل مرة.”
“لا يهمني كل ذلك! ألن تذهبي لتحيّته؟”
”…وهل عليَّ ذلك؟”
“لم لا؟ ألا يمكنني إلقاء التحية عليه؟”
لم أفهم سبب إصرارها الشديد على أن أتعرف عليه وعندما دققت النظر إلى وجهها، لاحظت أنه يشع ببريق خافت من الترقب، كما لو كانت على وشك لقاء شخص مشهور.
آه، هل الأمر هكذا إذن؟ يبدو أن أبطال الحرب هنا يشبهون المشاهير في قريتي القديمة… أشخاصاً يتمتعون بصورة طيبة بين الناس. بالطبع، مع استثناء دانتي فهو يشبه المشاهير بالفعل، لكن صورته ليست جيدة تماماً.
على أي حال، قررت أن أستجيب لتوقعاتها، ففتحت الباب وخرجت معها من المنزل لم أنسَ أيضاً أن أخبر السيد لوك بأننا سنخرج للحظة، وأن أتأكد من خلو الشارع من أي وحوش متبقية.
إيفان، بصفته فرداً من العرق الحيواني ذي الحواس الحادة، رصدني على الفور رغم أنني كنت لا أزال على مسافة بعيدة.
“أوه، أختي إي! مضى وقت طويل!”
لم يكن قد مر وقت طويل منذ آخر مرة رأيته فيها، لكنه بدا تماماً كما كان حين افترقنا لوّح بيده، فبادلته التحية بالمثل، إلا أنني لاحظت شيئاً غريباً بعد لحظة.
كانت قفازاته نصف المفتوحة مغطاة برماد كثيف ويبدو أنه أدرك ذلك أيضاً عندما رفع يده، فأنزلها بسرعة قبل أن يبتسم لي ببراءة.
“كنت أقاتل الوحوش قبل قليل، لذا يداي متسختان قليلاً لكن ماذا عنكِ، أختي إي؟ ما الذي أتى بكِ إلى هنا؟ ألم تكوني في برج السحر المقدس؟”
“وكيف علمت أنني كنت هناك؟”
“سمعت ذلك من أختي ليلي بالمناسبة، لقد أخبرتني بكل ما جرى لكِ أيضاً.”
تحدث بمرح وكأن الأمر لا يحمل أي خطورة، ففكرت للحظة في أن أعاتبه على اقتحام خصوصيتي، لكنني تراجعت، إذ لم يكن من النوع الذي يتدخل فيما لا يعنيه.
“جئت فقط لأن صديقتي أرادت زيارة منزلي آه، هذه صديقتي ماشا.”
“آه، أهلاً… اسمي ماشا.”
حيَّته ماشا بخجل، فاستقبل إيفان التحية بحماس شديد، وكأنهما يعرفان بعضهما منذ زمن.
بدأ بالحديث عن كوني أخته الكبرى، ثم انتقل إلى ملاحظته أن لون شعرهما متشابه رغم أنهما يلتقيان لأول مرة، كان من الواضح كم أنه شخص اجتماعي.
“إذن منزلكِ في هذه المنطقة، صحيح؟ هل أصبتِ بأي مكروه؟ لا تقلقي، لقد قضيتُ على جميع الوحوش هنا، يمكنكِ الاطمئنان!”
“آه، نعم… شكراً جزيلاً لك.”
راقبتُ ماشا وهي تهدأ تدريجياً أثناء حديثها مع إيفان، وكان ذلك مريحاً، لكن لم يكن لدينا وقت لنضيعه في الأحاديث الجانبية.
وحين أوشك إيفان على ذكر انطباعه الأول عني، قاطعته بالتصفيق مرة واحدة.
“حسنًا، يكفي حديثاً الآن ماشا، أريد أن أسأل إيفان شيئًا، فهل يمكنكِ الدخول قبلي؟”
“هاه؟ آه… حسنًا.”
“ما الأمر، أختي إي؟”
“لا شيء مهم، مجرد شيء أود التأكد منه.”
تركنا إيفان ينادي ماشا بينما كانت تدخل المنزل، حتى لوحت له بدورها قبل أن تختفي خلف الباب بدا لي أنه لو أتيح لهما المزيد من الوقت، لأصبحا صديقين بالفعل.
“إذن، أختي إي، ما الذي تريدين معرفته؟”
“ليس بالأمر الكبير… قلتَ إنك سمعت كل شيء عني، صحيح؟”
“نعم.”
رمقني إيفان بنظرة جانبية، ثم واصل حديثه:
“أحد المحوّرين من برج السحر المقدس اختطف صديقتكِ، وأراد لقاءكِ وحدكِ، وعندما فشل في خطته، تسبب في هذه الفوضى في العاصمة، أليس كذلك؟”
“أنت تعرف الكثير لذا، كنت أريد أن أسألك… هل لاحظت أي شخص مريب أثناء تجولك؟”
قطب إيفان حاجبيه متفكراً، لكنه هز رأسه في النهاية.
“لو كان هناك شخص مريب يتجول في ظل هذا الوضع، لكنتُ لاحظته فورًا لكن لا شيء يتبادر إلى ذهني.”
“إما أن العاصمة واسعة جدًا، أو أن ذلك الوغد مختبئ بإحكام.”
تنهدتُ بخفة.
“أنت الشخص الثاني الذي أسأله عن ذلك، لكن لا أحد يذكر أنه رأى أي شخص غريب.”
“الشخص الثاني؟ هل ترغبين في العثور عليه إلى هذه الدرجة؟”
“الأصح أنني مضطرة للعثور عليه.”
تلاقت نظراتنا في الهواء، عينيه الصافيتين تحملان عمقًا لا يمكن قياسه وعندما رددتُ، كان صوتي هادئًا لكنه ثابت:
“لأنه هو من أباد القرية التي نشأتُ فيها.”
”……آه.”
“هل هذه أول مرة تسمع فيها هذا؟ لا عجب أنا أيضًا لم أسمع به إلا عندما التقيت به وحدي.”
عند سماع كلماتي، بقي إيفان يرمش بصمت للحظة، ثم تكلم بوجه لم يتغير عليه شيء.
“هل ترغبين في الانتقام، أختي؟”
“من يعلم؟ لماذا تسأل؟”
“لأنني لو كنت مكانك، لأردت ذلك.”
أدرت رأسي قليلًا ونظرت نحو منزل ماشا، لأتأكد من أنها مشغولة بالحديث مع لوك من الأفضل ألّا تسمع هذه المحادثة.
“لستُ أفكر بالأمر بطريقة درامية إن أمكنني فعلها، فسأفعل.”
“لكن لا يبدو أنكِ تتوقين إلى الانتقام حقًا.”
“لم يكن في حياتي شيء يسمى ‘التوق’ من الأساس إن حصل، فبخير، وإن لم يحصل، فلا بأس.”
تعمّدت أن أقولها بنبرة ساخرة، لكنها لم تكن ذات تأثير كبير هزّ إيفان رأسه ببطء كما لو كان يفكر في شيء ما، ثم مال برأسه إلى الجانب.
“إذا كان ذلك الشخص قد أباد قريتك، فهذا يعني أنكِ متِّ في ذلك اليوم، صحيح؟”
“صحيح.”
“ومع ذلك، لا تشعرين بحاجة ملحّة للانتقام أختي… أنتِ غريبة حقًا.”
لم أتوقع أن أُنعَت بالغريبة فجأة في موقف كهذا نظرتُ إليه بدهشة، لكنه لم يكن يقصد أي إساءة، بل كان ببساطة يعبّر عن شعوره بصراحة أتراه يدرك أن براءته هذه تمنع الآخرين من الرد عليه بسهولة؟
قبل أن أتمكن من طرح هذا السؤال، كان قد استأنف الحديث.
“أختي، هل حصلتِ على إذن بالخروج من سيد البرج السحري؟”
“أتعلم أنك منذ قليل وأنت تسألني بلا توقف؟ ……بالطبع حصلتُ على إذنه دانتي مشغول الآن، لذا خرجتُ برفقة سكرتيره كما أنه وضع عليّ عدة تعاويذ وقائية قبل أن أخرج.”
“همم، إذن لن تتعرضي للخطر بسهولة.”
“أجل…؟”
ما الذي يجعله يسأل بهذه الطريقة؟ شعرتُ بجوّ غريب يتسلل إلى الأجواء، فمرّرت يدي على عنقي في محاولة لطرد القشعريرة التي أصابتني، لكنها لم تزُل زادني الأمر قلقًا عندما رأيت إيفان يبتسم مجددًا فجأة.
“إذن، يمكننا البحث عن ذلك الوغد معًا!”
“هاه؟ انتظر، ماذا؟”
“ذلك الشخص خطف صديقتكِ لمقابلتكِ، أليس كذلك؟ قد يظهر مجددًا إذا رآكِ! لذا، لنبحث عنه معًا، أختي.”
ما هذا الهراء الذي يتفوه به؟ للحظة، لم أفهم شيئًا مما قاله، ولم أستوعب إلا بعد بضع ثوانٍ، حين أجبتُه بهدوء قدر المستطاع.
“آسفة، إيفان، لكني أظن أنكَ فقدتَ عقلك.”
“أنا في كامل وعيي دائمًا.”
“إن كنتَ بكامل وعيك، فلماذا تقترح عليّ التجول في العاصمة المليئة بالوحوش؟ آسفة، لكن عليّ العودة من أجل دانتي.”
“لكن، إذا جعلتِ نفسكِ طُعمًا، فقد نجد ذلك الشخص أسرع.”
توقفتُ عن الكلام عند سماع ذلك لم يكن السبب هو كلمة طُعم، بل لأن فكرة إيجاده بسرعة لم تكن تبدو سيئة تمامًا.
لاحظ إيفان ترددي فورًا، فابتسم بابتسامته المعتادة، المليئة بالمكر والبراءة في آن واحد.
“أختي، هل أخبركِ لماذا لا تشعرين بحاجة قوية للانتقام؟ أو بالأحرى، لماذا تظنين أنكِ لا تشعرين بها؟ السبب هو أنكِ لم تملكي أبدًا الفرصة للانتقام، لذا اعتدتِ على عدم التفكير فيه.”
“لماذا تذكر هذا فجأة؟”
“فقط أردتُ أن أخبركِ أن الوضع تغير الآن لديكِ زوج بجانبكِ، وهناك الكثير ممن سيساعدونكِ إذا أردتِ تحقيق رغبتكِ.”
فتحتُ فمي لأرد، لكنني لم أجد ما أقوله في النهاية، كان على حق.
لطالما كنتُ شخصًا يتخلى عن الأشياء بسهولة، لأنني لم أكن أملك أي فرصة لتحقيقها من البداية.
لكن الحقيقة الأخرى التي كنتُ أتجاهلها هي أن الذكريات الجميلة عن قريتي وأحبّتي ما زالت متجذرة في داخلي، لم تبهت بعد.
”…مع ذلك، لا أريد أن أسبب القلق لدانتي.”
“لا تقلقي بشأن ذلك بل على العكس، سيد البرج سيكون أقل قلقًا إذا كنتِ أمام عينيه.”
“ماذا؟”
في اللحظة التي رفعتُ فيها رأسي نحو إيفان، شعرتُ فجأة بجسدي يرفع عن الأرض.
حتى قبل أن أدرك أنه رفعني، سمعتُ ضحكته المرحة فوقي.
“لأنني سأأخذكِ إليه الآن!”
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].