123
ما إن فتحتُ بابَ المنزل، حتى ازدادت رطوبة الهواء وضوحًا، واشتد وقع صوت المطر القادم من بعيد، لكن أكثر ما جعلني أفقد الكلمات هو ابتسامة دانتي أمامي.
ظللتُ أحدق به، مذهولًا، لفترة طويلة، بينما كانت الأضواء الاستشعارية في الممر تضيء بسطوعٍ خافتٍ ثم تبدأ بالتلاشي شيئًا فشيئًا.
على عكس العتمة التي غمرت المكان فجأة، عاد إليَّ وعيي على الفور وعندما أمسكتُ بذراع دانتي متلمسًا ملامحه في الظلام، عادت الأضواء لتنير الممر من جديد.
“… ادخل أولًا.”
سحبته قليلًا إلى الداخل، فلم يقاوم، بل تبعني بهدوء كما لو كان مستسلمًا، لكنه لم يتجاوز عتبة الباب.
خلعتُ حذائي وهممتُ بالدخول، لكنني توقفت فجأة، لأجد نفسي واقفًا معه عند الباب نظرتُ إليه لأحثه على الدخول، لكني ارتجفتُ لوهلة حين التقت عيناي بوجهه المضَاء بوضوح داخل المنزل.
“دانتي، أنتَ…”
لم أكن قد أوليتُ انتباهًا كافيًا لحاله حين رأيته أول مرة، لكن الآن وقد أمعنت النظر، أدركتُ أنه مبللٌ بالكامل.
قطرات الماء كانت تتساقط من شعره إلى كتفيه بوتيرة ثابتة، وبشرته المبللة ورموشه الندية كانت تعكس الضوء، فتبدو وكأنها تلمع.
حتى لو لم يكن المرء يعرف شيئًا عن الأمر، كان بإمكانه أن يدرك بسهولة أنه بقي تحت المطر لفترة طويلة ولم أدرك إلا متأخرًا أن ذراعه، التي كنت لا أزال ممسكًا بها، كانت رطبة، وأن درجة حرارته كانت أبرد مما يمكن تجاهله.
كنت قد أعددتُ في ذهني الكثير من الأسئلة التي رغبتُ بطرحها عليه قبل أن أغادر، لكن بمجرد أن رأيته على هذه الحال، تلاشت كل تلك الأفكار كما لو أنها كانت دخانًا تبعثره الرياح.
أما هو، فلم يكن يبدو مكترثًا بالأمر، بل نظر إليَّ كما فعل قبل لحظات، وابتسم بلطف.
كان الأمر غريبًا… كيف يمكن لشخصٍ بقي تحت المطر طويلًا أن يكون بهذه الهدوء؟
“عندما خرجتُ لم يكن المطر قد بدأ بعد، لكنه انهمر فجأة منذ ساعة أو ساعتين.”
بصوتٍ هادئ، وكأنه يخبرني بأمرٍ لا أهمية له، قال هذه الكلمات وبلا وعي، همستُ لنفسي: “في أي عالمٍ كان، يظل المطر يهطل بنفس الطريقة…”
أخذتُ أفتح فمي وأغلقه مرارًا، قبل أن أنجح أخيرًا في تكوين جملة متماسكة:
“… إذًا، كنتَ تحت المطر طوال ذلك الوقت؟”
“نعم.”
أهو أمرٌ يستدعي أن يكون جوابه بهذه البساطة؟! شعرتُ بغصةٍ في صدري، ومن غير أن أدرك، خرجت الكلمات من فمي بوتيرة سريعة:
“إذا بدأ المطر، كان يجب أن تعود فورًا! بقيتَ كل هذا الوقت تحت المطر؟ وخرجتَ حتى من دون مظلة؟! إلى أين كنتَ تذهب أصلاً…؟”
إلى أين كنتَ تذهب…؟
تلاشى الجزء الأخير من سؤالي وكأنه لم يُنطق أدركتُ فجأة أنني لا أملك إجابة لم يكن هناك مكانٌ يمكن لدانتي الذهاب إليه في هذا العالم.
خفضتُ نظري نحو يدي، التي لا تزال ممسكة بذراعه، ثم تركته ببطء شعرتُ ببرودةٍ تسللت إلى أصابعي من جلده المبلل، فقبضتُ يدي بإحكام للحظة قبل أن أفتحها مجددًا.
“… أين كنتَ؟”
“…”
“حتى لو كنتَ تريد الخروج، لماذا لم تخبرني؟”
قد لا يكون الوقت الذي قضيته أبحث عنه طويلًا، لكنه بدا لي وكأنه استمر للأبد.
كنتُ قلقًة، وأتساءل عن مكانه، وعن السبب الذي دفعه للخروج بمفرده.
كان يعلم جيدًا أنني سأقلق عليه… ومع ذلك، أجابني بصوتٍ خالٍ من أي ندم أو اعتذار:
“كنتَ تغط في نومٍ عميق، فلم أشأ أن أوقظك.”
“لم تشأ أن توقظني، فقررتَ الخروج دون أن تترك حتى ملاحظة؟”
كيف لكَ أن تظن أنني سأقبل بهذا التفسير؟! خرجت نبرة صوتي حادةً رغم محاولتي تهدئة نفسي وضغطتُ بأصابعي على جبيني، محاولًا استعادة رباطة جأشي، لكن دون جدوى.
“استيقظتُ فلم أجدك، فشعرتُ بالرعب…”
“…”
“حتى لو لم تشأ أن توقظني، كان يمكنك أن تترك رسالة! أو على الأقل أن ترتدي شيئًا دافئًا قبل أن تخرج كيف لكَ أن تخرج هكذا، دون معطف، في هذا الطقس البارد؟!”
لم أعد أعلم إن كنتُ أعاتبه أم ألومه أم أظهر قلقي عليه… لم يكن هذا ما أردتُ قوله في البداية، ولم أكن أرغب في أن أبدو بهذا الشكل.
حاولتُ أن أقول شيئًا آخر، لكني شعرتُ بأنني فقدتُ الحق في التحدث أكثر، فابتلعتُ كلماتي بصمت.
“هل ستظل واقفًا عند الباب هكذا؟ أنتَ مبللٌ تمامًا، يجب أن…”
“ذهبتُ إلى كل الأماكن التي زرتها معكِ اليوم.”
توقفتُ فجأة.
حدقتُ فيه دون أن أفهم معنى كلماته، لكنه واصل كلامه بهدوء:
“الطريق الذي أخذتِني إليه، النهر الذي شاهدناه معًا، الحجارة التي قلتِ إنكِ تحبينها، المقاهي، الأزقة، كلها… عدتُ إليها بمفردي وأعدتُ النظر فيها.”
“… ولماذا؟”
“كنتُ بحاجة إلى ترتيب أفكاري.”
ثم ابتسم لي مرة أخرى، بنفس الابتسامة التي لم أعد قادرًا على فهمها.
“إيلي…”
[ كنت اترجم بالانجليزي كان اسمها إي وبالكوري إيلي وش تبغوني اعتمد؟ ]
سمعتُ اسمي يتردد بصوته، لكنه بدا غريبًا على مسامعي أكثر من أي وقت مضى.
“هل أبقى هنا؟”
“ماذا؟”
“هل أبقى في هذا العالم معكِ؟”
أمسك بيدي، وشبّك أصابعه بأصابعي، ثم انحنى ليطبع قبلةً على ظاهر كفي.
“هل أظل هنا وأعيش معكِ؟”
“ما الذي تقوله الآن؟”
ملامحه كانت شاحبة وباردة بشكل غريب.
امتدت يدي الأخرى تلقائيًا إلى وجهه، كانت بشرته باردةً كما توقعت، لكن هذا الشعور القارس زاد قلقي.
كانت قطرات الماء لا تزال تتساقط من شعره، فتنزلق بين أصابعي، وتنشر برودتها حتى وصلت إلى معصمي.
حاولتُ سحب يدي، لكن قبضته كانت أقوى مما توقعت.
نظراته كانت شديدة العمق، حتى بدت وكأنها تطلّ على شيء لا يمكنني رؤيته.
لم يكن هذا دانتي الذي أعرفه.
لقد كان… على حافة الجنون.
كانت عيناه الغارقتان في السواد تتناقض مع وجهه المفعم باللطف، مما جعله يبدو على نحو ما… خطيرًا.
كان الأمر أشبه بإشارة تحذير يرسلها لي حدسي، ذاك الحدس العميق الذي يسبق التفكير والمنطق.
“إنّ دانتي ليس في حالة طبيعية الآن.”
إذا كان لا بد من وصف حالته، فهو يبدو وكأنه على وشك الانهيار، كمن يقف على الحافة الفاصلة بين العقل والجنون.
قلت بصوت حذر، محاولًا استعادة ثباتي وسط أفكاري المضطربة:
“لا أفهم لماذا تقول هذا الكلام، دانتي.”
لم يبقَ للغضب الذي كنت أشعر به قبل قليل أي أثر، حتى الحمى التي كانت تشتعل في رأسي خمدت تمامًا كل ما تبقى لي هو القلق العميق.
لم أكن أعرف ما الذي مرّ به دانتي، ولا ما الذي دفعه للتفكير بهذه الطريقة، لكنني كنت متأكدًا من شيء واحد…
أنني لا أستطيع السماح له بأن يقول مثل هذا الكلام.
هل يظن حقًا أن بقاءه في هذا العالم هو القرار الصحيح؟
أنا لا أعتقد ذلك، على الإطلاق.
أعلم أن هذا العالم بالنسبة له غريب حدَّ اللانهاية، وأعلم أيضًا أنه حتى لو اعتاد عليه، فسيظل البقاء فيه أمرًا صعبًا.
وأعلم، قبل كل شيء، أن كلماته هذه ليست نابعة من حبٍّ حقيقي لهذا المكان.
ولكن، قبل أن أناقشه في ذلك، عليّ أن أفهم أولًا ما الذي أوصله إلى هذه الفكرة.
سألته، وصوتي محمّل بالحذر:
“هل حدث شيء عندما خرجت وحدك بدوني؟”
هزّ رأسه ببطء، وردّ بصوت هادئ:
“لا، لم يحدث شيء.”
“إذًا، لماذا تقول هذا؟”
كنت أظن أن دانتي بخير كنت أعتقد أنه لا يشغل باله بأي هموم، وأنه ببساطة يكرّس وقته للتأقلم مع هذا العالم حتى نعثر على طريقة للعودة.
لكن الآن، وهو يقف أمامي، مبللًا بالمطر، ويقول كلامًا كهذا… أدركت أنني كنت مخطئًا.
لم أكن أعلم أنه كان يفكر بهذه الطريقة.
لم يخبرني دانتي قط بأي شيء عن مخاوفه، ولم ألحظ أبدًا أي تغير في سلوكه بدا لي دائمًا متماسكًا على نحو مذهل، كأنه قد تقبّل وضعه هنا بلا قلق.
لذلك، كنت مطمئنًا… كنت أعتقد أننا نستمتع بهذه الحياة الهادئة مؤقتًا، حتى يحين الوقت لنختار…
لكنني لم أحدد يومًا متى “يحين الوقت” هذا.
ولم أفكر حتى في ما قد يدور في ذهن دانتي بينما كنت أؤجل التفكير في الأمر.
• نهـاية الفصل •
يتبع •••
حسـابي انستـا [ I.n.w.4@ ].