122
عندما عدتُ إلى المنزل، كان لدي الكثير من الأمور التي أردت الحديث عنها كنت بحاجة إلى الاستفسار أكثر عن تقلبات مزاج دانتي، وكان لا بدّ من مناقشة ذلك الصدع الذي رأيته قبل قليل وحدي، لم أكن أملك سوى تخمينات لا حصر لها، دون يقين بأي منها، لذا كان الحديث مع دانتي أمرًا ضروريًا.
ولكن قبل أن أتمكن حتى من فتح فمي، دخل دانتي غرفته مباشرة بعد عودتنا إلى المنزل، طالبًا أن يُترك وحده لبعض الوقت، قائلاً إنه بحاجة إلى التفكير.
عمّ الهدوء المنزل، وكأنني الشخص الوحيد الذي يسكنه جلستُ أمام الطاولة، غير قادر على فهم الأمر صحيح أن شيئًا عظيمًا قد حدث اليوم، إلى درجة جعلت اليوم الهادئ يبدو وكأنه كان كذبة، لكنني لم أكن قادرًا على تقدير مدى تأثيره على دانتي.
هل شعر بالاضطراب لأنه سمع أنه قد يعود إلى عالمه الأصلي فجأة؟ ولكن، بدلًا من أن يبدو مضطربًا، بدا لي وكأنه…
أقرب إلى شخص يشعر بالحزن.
اتكأتُ على ظهر الكرسي ونظرتُ إلى الضوء في السقف، محدقًا به لفترة طويلة حتى خُيّل إلي أن وهجه يتمدد فوق رأسي برفق مع كل طرفة عين، كانت الظلمة الخاطفة تترك آثارًا من الضوء في مجال رؤيتي.
ظللتُ جالسًا بتلك الطريقة لفترة طويلة، حتى أدركتُ فجأة أنني متعبٌ للغاية.
خرجتُ هذا الصباح لمجرد القيام بنزهة بسيطة، ولكنني ركضتُ حتى كدت أموت من الإرهاق قبل العودة إلى المنزل، وكأن طاقتي استُنزفت بالكامل عادةً، عندما أمارس الرياضة، يُفترض أن يصفو ذهني، لكن ذلك لم يحدث هذه المرة لم أكن أصدق أنني أمضيتُ نصف يوم فقط خارجًا، بالنظر إلى حالتي الآن.
دانتي لن يجعلني أنتظره طويلًا على الأرجح إذا انتظرتُ قليلًا، سيخرج من غرفته حينها، سأقترح تأجيل الحديث وأطلب منه أن نأخذ قيلولة أولًا.
بعد أن أستعيد شيئًا من طاقتي، قد تصبح أفكاري أكثر وضوحًا، وسأكون قادرًه على تذكر كل ما يجب أن أسأله عنه، وكل ما أريد معرفته، بل وربما حتى ما يجب أن أسمعه منه.
على أي حال، ليس هناك مهرب، وإن اضطررتُ إلى الإمساك به من ياقة قميصه لأنتزع منه الإجابات، فسأفعل ذلك وإن اضطررتُ إلى انتزاعها بالقوة…
حينها، ربما سيتلاشى هذا الضيق الذي يخنقني تمامًا.
لكن التحديق الطويل في الضوء بدأ يؤلم عيني، فغمضتهما قليلًا ثم أنزلتُ رأسي ونظرتُ إلى الظل الذي ألقاه جسدي على الطاولة.
لو رآني أحد الآن، لقال إنني أتصرف وكأنني في حالة يُرثى لها لم تكن هناك مشاجرة كبيرة، ولم يحدث شيء يستدعي الشعور بالخذلان، فلماذا أجد نفسي منساقًا نحو هذا السيل من المشاعر السلبية؟
شعرتُ وكأنني أغوص في أعماق نفق بلا نهاية كان علي أن أُلهي نفسي بشيء، فنهضتُ واتجهتُ إلى أرضية الغرفة.
لسببٍ ما، بدا لي الهواء أكثر رطوبة مما كان عليه في الصباح.
حين كنت أنظر إلى السماء الملبدة بالغيوم بقلق، متسائلًا إن كانت ستمطر، وعندما جلستُ أُقلب صفحات كتاب بشكل عشوائي لتمضية الوقت…
كان آخر ما أتذكره هو أنني فكرتُ في أنني بدأتُ أشعر بالنعاس.
ثم انقطع وعيي تمامًا.
فجأة، سمعتُ صوت المطر يتردد في أذني، ففتحتُ عينيّ لأجد نفسي ممددًا على السرير.
“……؟”
ما هذا؟ متى نمتُ؟
كنتُ في حالةٍ من الذهول، وحين اعتدلتُ جالسًا، رأيتُ الغرفة غارقة في ظلام دامس.
رحتُ أتلفتُ حولي في ارتباك، لكن الشيء الوحيد الذي استطعتُ التأكد منه هو أن الوقت قد مضى كثيرًا منذ أن أغمضتُ عيني.
نهضتُ من السرير، وشعرتُ ببرودة الأرض تحت قدمي، ثم وقعت عيناي على شاشة الساعة الرقمية التي أضاءت بوضوح وسط العتمة.
لقد تأخر الوقت كثيرًا.
شعرتُ بألمٍ طفيف في رأسي بسبب النوم الطويل، فدلكتُ ما بين حاجبيّ بأصابعي، محاولًا تذكر آخر شيء كنتُ أفعله.
كنتُ أقرأ كتابًا، ثم وقعتُ عيني على المكتبة، وبدأتُ فجأة في ترتيبها رغم أنني لم أهتم بها يومًا، لكنني سرعان ما شعرتُ بالسخف من هذا العناء وتوقفت ثم… ذهبتُ لأستلقي على الأريكة.
حينها، كنتُ أنوي إراحة عيني لدقائق فقط، لكنني على ما يبدو استغرقتُ في النوم من شدة الإرهاق هذا لم يكن مجرد قيلولة.
ولكن… لماذا استيقظتُ في السرير؟
ما لم أكن قد مشيتُ إليه أثناء نومي، فلا بد أن دانتي هو من حملني إلى هنا.
بالمناسبة… أين دانتي؟
مررتُ يدي في شعري غير المرتب بسبب النوم، ثم غادرتُ الغرفة بخطوات مترنحة مع كل خطوة، كانت برودة الأرض تُعيدني إلى وعيي تدريجيًا.
“دانتي؟”
كانت كل أنوار المنزل مطفأة، مثلما كانت في غرفتي، فبحثتُ عن مفتاح الإضاءة وأشعلتُ المصابيح.
في البداية، شعرتُ بالغرابة فحسب، متسائلًا لماذا لم تُشعل الأضواء، لكن كلما تفقدتُ أرجاء المنزل، كلما تسللت إليّ مشاعر أخرى لم أستطع تسميتها على الفور.
دانتي لم يكن في أي مكان.
في منزل صغير لا توجد فيه أماكن للاختباء، لم يكن له أثر.
“…….”
شعرتُ وكأن الدم قد انسحب من جسدي دفعة واحدة.
أسرعتُ نحو الباب الأمامي، وهناك لاحظتُ أن الحذاء الذي ارتداه دانتي صباحًا قد اختفى.
هل خرج؟
في البداية، حاولتُ أن أتمسك بفكرة أنه خرج في نزهة فحسب، محاولًا إبعاد أسوأ السيناريوهات عن ذهني، لكن هذه الفكرة انهارت سريعًا.
“نزهة”؟ لا، هذا ليس مجرد خروج عادي.
في هذا البُعد، الذي لا يزال غريبًا عليه، الخروج وحده يعادل رمي نفسه في الخطر.
بذلتُ قصارى جهدي لشرح الأساسيات التي يحتاج إلى معرفتها ليتمكن من العيش هنا، لكن لم أكن واثقًا من أنني أوصلتُ كل شيء بشكل كافٍ لم أكن أدرك تمامًا ما الذي قد يكون غريبًا بالنسبة له، ومرات عديدة، اضطررتُ إلى شرح أشياء ظننتُ أنها بديهية.
لهذا السبب، كنا نخرج دائمًا معًا، وكنتُ أراقبه عن كثب في كل لحظة.
لكن الآن… خرج وحده، بينما كنتُ نائمًة.
في عالمٍ خطير عليه، ومن دوني.
فكرتُ في البحث عن أي ملاحظة تركها، أي شيء، لكنني لم أجد شيئًا.
ثم، حين سمعتُ صوت المطر يهطل بغزارة، ارتفع وجهي إلى النافذة.
وفي اللحظة التي رأيتُ فيها المطر المتساقط بغزارة، سقط معطفي من يدي.
دانتي… في هذا المطر…
وقبل أن تبتلعني المخاوف أكثر، انفتح الباب أمامي فجأة.
وفي ظلام الليل، وقفت أمامي تلك الظِلال التي ملأت مجال رؤيتي بالكامل.
“دانتي…”
ناديتُ اسمه دون أن أدرك ذلك، وكأنني كنتُ أنتظر لحظة عودته لأتفوه بهذا الاسم.
أما هو، فابتسم ابتسامة باهتة، كما لو أنه كان يتوقع أن أفعل ذلك.
• نهـاية الفصل •
يتبع •••
حسـابي انستـا [ I.n.w.4@ ].