5
مسح كاسيان فمه بالمنديل، وقد تملّكه اشمئزاز عميق. أن تُقامر امرأة بصحة شقيقه المتدهورة طمعًا في الزواج ودخول بيتهم، كان أمرًا يُثير فيه النفور.
“لقب دوق بيترو سيؤول دون استثناء إلى تيسماكس بيترو، لا إليّ. لن تكون هناك مفاجآت.”
“تبدو واثقًا جدًا، سيدي. وإن كنت قد أسأتُ إليك بكلامي، فأعتذر. لكن فكّر بالأمر مليًّا. الجميع في العاصمة يتحدثون عن قدومك الآن، غير أنّه حين ينتشر الخبر بأنك تبحث عن زوجة تتبعك إلى تلك البلدة النائية تاكسفورد، هل تظن أن أية سيدة من الطبقة النبيلة ستتقدّم طوعًا لذلك المصير؟.”
أدرك كاسيان أن لا جدوى من متابعة الحديث. رسم ابتسامة مصطنعة وسألها بتهذيب بارد.
“هل ترغبين في تناول الحلوى؟.”
“لا، لا أظن أنني أستطيع.”
“جيد، فقد فقدتُ شهيّتي أنا أيضًا. إذن، سأوصلك إلى منزلك.”
ما إن عاد كاسيان إلى قصر عائلته حتى كان الغضب يتملّك خطواته الثقيلة وهو يتجه مباشرة إلى مكتب والده. كان دوق بيترو غارقًا في قراءة الوثائق حين دخل ابنه فجأة.
“عدتَ باكرًا! أليس من اللائق أن تتناول الشاي على الأقل قبل أن تُعيد السيدة إلى منزلها؟.”
رمق الساعة العتيقة على الجدار، وقد أدرك أن اللقاء انتهى في وقتٍ أقصر بكثير مما توقع.
“ما الذي يدور في رأسك، يا كاسيان؟ لا تقل لي إنك تتجرأ بهذا الشكل لأنني رتبت لك لقاء مع شابة تليق بك.”
“الآنسة كلوي جاءت وهي تحمل إشاعة غريبة.”
“تحدث بوضوح.”
“وصلها أنني، لا أخي، من سيَرث اللقب. ويبدو أن هذا هو الشرط الذي تضعه عائلة هيوسون للزواج.”
رفع الدوق رأسه عن أوراقه ببطء، متأملًا وجه ابنه الذي كبر بسرعة تفوق تصوره. لم يكن بعدُ رجلاً مكتمل البنية، لكنه صار شابًا فاتن الملامح، تكاد مهابته تضاهي مَن يكبره سنًّا. وبحلول الشتاء القادم، لن يكون مستبعدًا أن يفوق شقيقه طولًا ووقارًا.
“ليست إشاعة.”
“وإن لم تكن كذلك، فهل تودّ القول إن الآنسة كلوي اختلقت الأمر من العدم؟.”
“تخلَّ عن فكرة أن شقيقك هو الوريث الحتمي. لم يُحسم شيء بعد.”
“أخبرتك من قبل، يا أبي. لن أكون الوريث.”
“تيسماكس صحته تزداد سوءًا! حتى الأطباء فقدوا الأمل في شفائه. لا أحد يعلم كم بقي له من الوقت! كيف لي أن أُصرّ على منحه اللقب وهو على هذه الحال؟.”
ارتجفت قبضة كاسيان بشدة، وعيناه تتقدان بالرفض المرير.
“هل نسيت يا أبي أنني أنا أيضًا مريض؟!.”
“إن لم تكن أنت، فمَن غيرك حين يرحل أخوك؟.”
تلك الجملة القصيرة كانت كفيلة بأن تخنقه. عاد الدوق بعدها إلى أوراقه متعمّدًا قطع النقاش، متجنبًا النظر إلى وجه ابنه الغاضب.
شعر كاسيان بالاختناق. لطالما فرض والداه عليه أدوارًا لم يرغب بها قط. جعلوه سارقًا يتهيأ منذ الآن لانتزاع شرف أخيه في يوم ما. كلما حاول الهروب من هذا المصير، كانت سلاسل اللقب تشده إليهم من جديد.
وفي النهاية، لم يحتمل أكثر، فاستدار بعنف وغادر المكتب، وصوت والده يناديه خلفه دون جدوى.
“كاسيان!.”
لكن الابن لم يتوقف.
—
حين وصلت جولييت إلى ضفة بحيرة “غاليسِّياس”، ربطت حصانها على جذع شجرة قديمة. كان الطريق عبر الغابة ضيقًا لا يصلح لمرور العربات، ولهذا كان المكان مهجورًا تمامًا، مثاليًا للرسم بعيدًا عن أعين الفضوليين.
كانت تنوي إنهاء اللوحة قبل عودة ماثيو من رحلته، وكان عليها أن تعمل بسرعة. ولحسن الحظ، كانت الشمس تهبط ببطء شديد نحو الأفق. وقفت تحدّق بجمال الغروب طويلًا، ثم رفعت فرشاتها أخيرًا.
كان وهج الشمس الأحمر ينساب فوق زرقة السماء انسيابًا حادًّا، عابرًا وساحرًا. أرادت جولييت أن تخلّد هذه اللحظة التي لن تتكرر. تحركت يدها بخفة، ولم يُسمع في الأرجاء سوى زقزقة الحشرات وهمسات الفرشاة على القماش.
كانت لحظات التركيز هذه أثمن ما تملك، إذ لم تكن تدري متى قد تقتحم عائلتها عزلتها وتقطع عليها صفاءها.
كانت لمساتها الفنية تشبه أسلوب مارك ماكينون الجريء البسيط، لكنها تؤمن أن في البساطة عمقًا لا يضاهيه تعقيد.
وفجأة، دوّى في البعيد صوت حوافر خيل يقترب شيئًا فشيئًا.
ارتبكت جولييت، فقفزت واقفة، وشعرها الأحمر المتقد يرفرف كالشعلة تحت الريح.
وجود امرأة نبيلة وحيدة قرب البحيرة كان بحد ذاته أمرًا يثير الريبة، فكيف إن اكتشف أحد أنها ترسم سيكون في ذلك ما يكفي لإثارة الفضائح.
على عجل، جمعت أدواتها وخبأتها بين الأعشاب الطويلة التي تعلو بطول قامة الإنسان.
لكن الشاب كان يقترب بثبات، ويبدو أنه لاحظ وجودها بالفعل.
خرجت جولييت من بين الأعشاب، تقدّمت خطوات وهي تعتزم أن تُبعد هذا الغريب سريعًا.
كان ضوء الشمس خلفه قويًّا حتى بدا وكأنه يبتلعه، يمتطي حصانًا أبيض ناصعًا، فيبدو أشبه بأمير خرج من أسطورة.
كان هو مجددًا، كاسيان بيترو.
“الآنسة جولييت، نلتقي مجددًا.”
“ما الذي جاء بك إلى هنا؟.”
“هذا ما وددت سؤالكِ عنه أنا أيضًا.”
كانت تقف أمامه بوجه صارم، وقد تخلّت عن هدوء السيدات لتبدو كحورية خرجت من قلب البحيرة. بللت المياه أطراف ثوبها، ونفشت الريح خصلات شعرها المتجعدة.
“كنت فقط أستمتع ببعض الهدوء. لا مكان أجمل من هنا لمشاهدة الغروب.”
“يبدو أنني ألتقي بكِ مصادفة في كل مرة.”
“بالفعل… ولديك موهبة لا تنتهي في الظهور فجأة وإخافتي.”
كم كان غريبًا أن تكشف له دومًا عن جوانبها التي تسعى لإخفائها! تنهدت بصمت وهي تتلفّت حولها لتتأكد من خلو المكان. لحسن حظها، لم يكن ثمة أحد.
كان اسمه الآن على كل لسان في مجتمع العاصمة، وإن رآهما أحد معًا فستغدو حديث السهرات. آخر ما تريده هو أن تصبح مادة للشائعات.
“خرجت في جولة قصيرة فحسب.”
ارتابت في كلامه. أليس هذا هو الرجل الذي يُقال إنه عليل؟ كيف قطع كل هذه المسافة على ظهر حصانه وحده عبر غابة ديشو المظلمة؟ بدت القصة غير منطقية.
لكن نظرته لم تكن أقل ريبة، وكأنه هو أيضًا يستغرب وجودها هنا بمفردها.
“تبدين قلقة على نحو مريب. لا تخبريني أنكِ تُخفين عاشقًا بين تلك الأدغال؟.”
شهقت جولييت وقد احمرّ وجهها غضبًا.
“بالطبع لا! أنا سيدة فاضلة!.”
“حقًا؟ إذن لن تمانعي إن قطعتُ الطريق بين الأعشاب لأتفقد البحيرة من الجهة الأخرى؟.”
“العشب هنا كثيف، وتختبئ بينه حشرات لا تُرى. سيتضايق الحصان حتمًا، أنصحك بالعودة قبل أن يبرد الطقس.”
“كلما حاولتِ منعي، ازددت رغبة في الذهاب.”
تجهمت ملامحها.
‘يا له من رجل فظ!.’
اعتادت أن تواجه من يتجاوزون حدود اللياقة بأسلوب راقٍ، لكن هذا الرجل يُفقدها اتزانها دومًا. فكل حوار معه يتحول إلى تحدٍ لا ينتهي.
“غريب أن يقول مريض مثلك هذا الكلام. الهواء البارد لا يلائم حالتك، والبحيرة تموج بحشراتٍ لا تُحصى. من الأفضل أن تعود قبل أن تُصاب بنزلة برد.”
“لم أعلم أن الآنسة جولييت تُبدي هذا القدر من القلق على صحتي. لكن قبل أن أكون مريضًا، أنا رجل نبيل، ولا يمكنني أن أترك سيدة وحدها في مكان خطر بعد الغروب.”
كان فضوله يتأجج. ما الذي تخفيه خلف ظهرها؟ لم يكن يظن أن الأمر يتعلق بعاشق سرّي، بل بشيء آخر أثمن من ذلك.
لم يكن كاسيان في حياته يهتم بمعرفة أسرار الآخرين، فلقبه وحده كان كافيًا لكشفها دون عناء. لكنه هذه المرة شعر بدافع غريب يدفعه للتحدي، لرؤية ما تحاول حمايته منه.
اقترب ببطء دون أن يترجل عن حصانه، وتوتر الجو بينهما كوتر مشدود. أنفاس الخيل تتردد عالية على صفحة الماء.
مدّت جولييت ذراعيها لتمنعه من التقدم خطوة أخرى. وصلت الأمور إلى حدٍّ لم تتوقعه. لم تكن تعرف إلى أي حدٍّ قد يتمادى هذا الرجل، لكنها كانت مستعدة للمواجهة. خلفها يكمن عالمها الصغير الذي لا يجب أن يراه أحد.
“أتظنين أنكِ قادرة على منعي بهذه الطريقة؟.”
التعليقات لهذا الفصل " 5"