4
“لكن الاستراحة أوشكت على الانتهاء، لِمَ لا تتواصل معي لاحقًا؟.”
“الأوبرا يمكن مشاهدتها في أي وقت، أما أنا فأريد قضاء الوقت معكِ الآن. أو، إن شئتِ، يمكننا الجلوس في مقصورتي الخاصة. أنا وحدي هناك الليلة.”
كان يتحدث بأدبٍ مصطنع يخلو من أي احترامٍ حقيقيّ لسيّدة. ثم مدّ يده بخفةٍ ليلفّها حول خصرها. عندها أدركت جولييت أن رفضًا بسيطًا لن يكفي لطرده.
فهؤلاء السكارى يزدادون عنادًا كلما ازداد الرفض وضوحًا. فخفضت جفنيها وقالت بصوت ناعم يحمل بعض الهدوء المصطنع.
“بدلًا من المقاعد الخاصة… سمعتُ أن حديقة دار الأوبرا جميلة للغاية، لِمَ لا نتحدث هناك قليلًا؟.”
“الحديقة! نعم، فكرة جميلة!.”
“لكنني جئت برفقة دوقة بادامارا، وستقلق عليّ إن لم أعد قريبًا. ما رأيك أن أخرج إليك في منتصف الفصل الثاني؟ سأتسلل بهدوء، فانتظرني هناك.”
تظاهر كلاوس بالتفكير ثم أومأ موافقًا، وقد بدت الفكرة في نظره مغريةً أكثر مما توقّع. لقاءٌ سرّي في الحديقة! بدا له الأمر كحلمٍ لا يُفوّت.
“بالطبع، لكن لا تتأخري.”
“لن أُبقي السيد ينتظر طويلًا… أوه، يا إلهي!.”
تعثّرت جولييت فجأة، فانسكب كأس الشامبانيا الذي كانت تمسكه مباشرةً على قميصه. لم يكن كلاوس، المثقل بالخمر، سريعًا بما يكفي لإنقاذ الموقف، فغمره الشراب من رأسه حتى خصره.
“يا للأسف! أعتذر منك، سيد تيسفولت!.”
تجمّد الرجل لحظة، يرمش بدهشة سكرى قبل أن يتمتم:
“ماذا… ما الذي حدث؟.”
“يا للأسف! عليك أن تنظّف ملابسك فورًا. اذهب إلى دورة المياه، وسألحق بك حالما أجمع أغراضي.”
“ن-نعم… هذا أفضل.”
اتّجه إلى دورة المياه وهو يتصبب بالشامبانيا اللاصقة على يديه وثيابه. وما إن أُغلق الباب خلفه، حتى اختفى من وجه جولييت ذلك الارتباك الظاهريّ، لتحلّ محله ملامح صارمة وباردة.
نظرت حولها، فوجدت بعض الكراسي الإضافية في الممر، فسحبت أحدها ووضعته أمام الباب، ثم جرّت آخر، لتغلق المخرج تمامًا. بدا واضحًا أنها تنوي حجزه في الداخل حتى يفيق من سُكره.
“دع رأسك يبرد قليلًا على أرضية الحمّام الباردة.”
كانت تهمّ بوضع الكرسي الثالث عندما سمعت صوتًا هادئًا.
“كرسيّان كافيان. إن وضعتِ ثالثًا، فقد يثير شكّ أحدهم ويفتح الباب.”
تردّد وقع خطوات ثابتة على الأرض الرخامية. خرج كاسيان من خلف أحد الأعمدة واتّجه نحوها بخطوات واثقة.
شهقت بخفة. كيف لم تنتبه لوجوده هناك طوال الوقت؟.
“السيد الشاب بيترو.”
“إذن تعرفين اسمي.”
“من لا يعرفه؟ أنت حديث المجتمع هذه الأيام.”
أجابت جولييت بثقة هادئة، وبينما كانت تتحدث، وضعت الكرسي الثالث بثبات أمام الباب، تُكمل عملها كما لو لم يكن وجوده يربكها.
“إذن فالشائعات صحيحة، لا أسرار في عالم الطبقة الراقية. ومع ذلك… لا فكرة لديّ من أنتِ.”
“اسمك، يا سيدي، لا يُعدّ سرًا. أما أنا، فاسمي جولييت بليثوود.”
“آنسة جولييت، يشرفني التعرف إليكِ. أنا كاسيان بيترو.”
ورغم أن الموقف كان غريبًا، رجلٌ وسيدةٌ واقفان أمام باب دورة مياه للرجال، إلا أن كليهما تبادلا التحية الرسمية بأدق آداب النبلاء.
نظر كاسيان إلى الكراسي الموضوعة بإحكام وقال مبتسمًا بخفوت:
“تبدين بارعة في التخلّص من السكارى.”
“مهارة ضرورية لكلّ سيّدة، على ما أظن.”
“هل جميع سيدات العاصمة يتقنّ الخداع كما تفعلين؟.”
“عذرًا؟.”
“ظننتُ في البداية أنكِ مهتمّة بذلك الرجل فعلًا. خمنتُ أن ذوقكِ في الرسم الغريب يمتدّ أيضًا إلى الرجال. كنتِ تخجلين بخفّةٍ لطيفة، ثم انقلبت ملامحكِ في لحظةٍ واحدة-“
قاطعت حديثه بنبرةٍ لاذعة.
“هل جئت لتمدح مهارتي في التمثيل، أم لتؤنبني على مكرٍ اضطراري؟.”
“الأقرب إلى الأول.”
“شكرًا إذًا، يا سيدي، وإن كنتُ أرى أن هذه المهارة أعلى مستوى من الاختباء خلف الأعمدة تجنّبًا للفتيات الطامحات بالزواج.”
تجمّد وجه كاسيان للحظة. يبدو أنها أدركت على الفور أنه لم يكن يقف هناك صدفة.
“هل وصل الأمر إلى أن يعرف الجميع أنني صرت هدفًا للفتيات؟.”
“إن كان الجميع يعرف، فهي لم تعد سرًّا، بل صارت ظاهرة. بصراحة، يا سيد بيترو، أصبحت أشبه بقطعة محدودة الإصدار في موسم الموضة الحالي.”
ابتسمت برقة متصنّعة، كأنها تنصح شابًا غِرًّا من الريف، غير أن عينيها الزرقاوين ظلّتا خاليتين من أي دفء.
“بما أنك في العاصمة الآن، أنصحك بصقل مهاراتك قليلًا، ففتياتها لا يعرفن الاستسلام.”
رنّ الجرس معلنًا نهاية الاستراحة.
“سأعود إلى مقعدي الآن. استمتع ببقية العرض، ولعلّ الفصل الثاني يعوّض ما فاتك من الأول.”
توجهت إلى السلالم بخطواتٍ هادئة، لكنها توقفت فجأة وقالت من أعلى الدرج، دون أن تلتفت.
“وللتوضيح فقط… ذوقي طبيعي تمامًا، يا سيد بيترو.”
تركته واقفًا هناك وحده.
ومن خلف الباب، سمع محاولات كلاوس لتحريك المقبض، لكن كاسيان لم يُعره أي اهتمام. كان صدى كلماتها، ‘قطعة محدودة الإصدار’، يتردّد في رأسه بإصرار غريب.
—
كان مطعم إنسيرمانج الأشهر في العاصمة برونكوس، عاصمة إمبراطورية أوغيلفي.
يُعدّ الحجز فيه شبه مستحيل، فطاهيه الرئيس كان يعمل سابقًا في القصر الإمبراطوري، وتصميمه الداخلي الفخم ومكوّناته الطازجة جعلته درّة مطاعم النخبة.
لكنّ ما ميّزه فعلًا هو الخصوصية المطلقة التي يوفرها لزواره.
لكل حجز غرفة مستقلة ومدخل خاص، يضمن السرية التامة من لحظة الوصول حتى المغادرة، وهذا هو فخر إنسيرمانج الحقيقي.
وفي غرفة الوردة الصفراء، جلس رجل وامرأة متقابلين على مائدة أنيقة أنهيا لتوّهما المقبلات.
“كيف تجد العاصمة برونكوس، السيد الشاب بيترو؟.”
رفع كاسيان رأسه نحوها.
كانت كلوي هيوسون مثالًا للكمال: شعر أشقر بلون العسل مصفف بعناية، وفستان من أحدث صيحات موضة المدينة، وأدب راقٍ في كل حركة من حركاتها.
“إنها مدينة جميلة. مرت فترة طويلة منذ زيارتي الأخيرة، وقد تغيّر فيها الكثير.”
“حتى أنا بالكاد أواكب تغيّراتها، رغم أنني أعيش هنا. لكن هذا أمر جيّد، دليلٌ على أن الإمبراطورية تزدهر بسرعة.”
كانت، على خلاف الصورة النمطية عن بنات الدوقات، بعيدة عن الغرور والتعالي.
عرفت كيف تختار مواضيع الحديث بعفوية تريح الجو، وتجيد إدارته بسلاسة أنيقة، مما جعلها بحقّ من أنسب المرشحات لتكون ‘العروس المثالية’.
أعجب كاسيان في داخله بسرعة تحرّك والديه، فبعد يومين فقط من وصوله للعاصمة، كانا قد رتّبا لقاءه بهذه السيدة في أفخم مطاعمها.
“ليتني أستطيع البقاء أطول.”
“أوه، أأنت عائد إلى تاكسفورد قريبًا؟.”
“نعم. زيارتي كانت قصيرة، فقط لإجراء فحص طبيّ.”
توقّفت السكين في يدها لحظة.
الرجل الذي كانت عائلتها تراه زوجًا محتملًا بدا أنحف مما توقعت، شاحبًا قليلًا، ومع ذلك كان جلوسه المستقيم وصوته الواثق يجعلان من الصعب اعتباره مريضًا. تمنت أن يكون مرضه أبسط مما يُقال.
“لمَ لا تبقى في العاصمة لبعض الوقت؟ فالأطباء هنا أكثر خبرة، وقد يُساعدك ذلك على التعافي أسرع.”
“لست متأكدًا. اعتدت العيش في تاكسفورد حتى صار مكوثي هنا يشعرني بالغرابة.”
“يبدو أنك مرتبط بأرضك كثيرًا.”
“إنها أكثر دفئًا وهدوءًا من برونكوس.”
في تلك اللحظة، تخيّل كاسيان شكل الحياة لو تزوّج من كلوي هيوسون.
أسرتها النبيلة؟ تضاهي أسرته في المكانة.
جمالها؟ نادر لا يُضاهى.
شخصيتها؟ مهذبة ومتّزنة، تكفي لعلاقة يسودها الهدوء.
لكن هل تصلح لتكون زوجته فعلًا؟.
هل تصلح لأن يشاركها عمره؟.
كان يعبث بشوكة طعامه وهو غارق في التفكير. ومع أنه حاول إقناع نفسه بالعقل، إلا أن من لم يعرف الحب قط لا يستطيع اتخاذ قرار مصيريّ بعد وجبة واحدة.
وبالمثل، كانت كلوي تُفكر بالأمر من منظورها.
هل يستحقّ هذا الرجل، الذي يجلس أمامها بهدوء متحفظ، أن تترك العاصمة لأجله وتعيش في الريف البعيد؟.
حتى لو كان يحمل اسم بيترو المرموق، فهل يكفي الاسم لتعويض حياة الرفاه التي اعتادتها؟.
كان كاسيان متأكدًا من أنها سترفضه.
فامرأة مثقفة تعيش في قلب العاصمة لن ترضى بالرحيل خلف ابن ثان ضعيف الصحة، لا يملك لقب الوريث، إلى قصر بارد في الريف.
“كيف حال السيد الشاب، دوق بيترو؟.”
توقفت حركة يده على الفور، وقد كان يعبث بخضروات الطبق دون انتباه. لم يكن يتوقع أن يُذكر شقيقه في هذا اللقاء.
“سمعت أن صحته ساءت مؤخرًا، وأنه طريح الفراش منذ مدة، حتى أنه لم يحضر حفل عيد ميلاد جلالة الإمبراطور.”
“لست أدري ما سبب اهتمامك المفاجئ بصحة شقيقي.”
“التقيتُ دوقة بيترو قبل أيام قليلة، وقد أثنت على تحسّن صحتك مقارنة بطفولتك. وبعد لقائنا اليوم، أرى أن علاجك في العاصمة سيُعيد إليك العافية سريعًا.”
وضعت أدوات الطعام على الطبق برقة متعمّدة، وقد أنهت وجبتها بهدوء.
“لطالما سمعت أن عائلة بيترو تعاني أمراضًا وراثية. ومع ذلك، يجب أن يستمرّ انتقال اللقب بين الأجيال، أليس كذلك؟.”
“تبدين وكأنك ترين أنني الأجدر بوراثته بدلًا من شقيقي.”
“ما دمتَ شابًا… وغير متزوج بعد.”
ساد الصمت، لكن جوّ الغرفة تغيّر تمامًا.
رغم أن الأجواء بقيت هادئة كما كانت، إلا أن دفء الحديث اختفى، وحلّت نغمة باردة خلفه.
“أنا لا أرغب في مغادرة العاصمة بعد الزواج، ووالداي لا يرغبان في ابتعادي أيضًا.”
“إذن فهما يأملان أن يكون صهْرهما القادم دوقًا شابًا أيضًا.”
“بصفتي ابنة دوق، من الطبيعي أن يكون زوجي من ذات الطبقة. أختي الكبرى، على سبيل المثال، تزوّجت أميرًا من مملكة سيرنتايا العام الماضي.”
“في تلك الحالة، يبدو أن على عائلة هيوسون البحث عن صهر آخر.”
التعليقات لهذا الفصل " 4"