3
“كم من الوقت ستغيب هذه المرة؟.”
“حوالي شهر. وإن سارت المفاوضات كما أرجو، فقد أعود أبكر من ذلك.”
“يا إلهي، يبدو الأمر متعبًا. أظن أنّ كونك الابن الأكبر يجلب معه عبئًا ثقيلاً.”
كان الحديث عن مشقة البِكر يلقى دائمًا صدى خاصًا لدى من يشاركه التجربة، فبادلته نظرة متفهّمة جعلته يبتسم.
قال بصوتٍ دافئٍ كقطعة شوكولا تذوب على اللسان:
“سأشتاق إليكِ يا جولييت.”
كان ينظر إليها بعينيه المستديرتين الممتلئتين بالعطف، وكأن العالم بأسره تلاشى من حوله.
“حقًا، أنت لا تكفّ عن المفاجآت.”
رغم ما يحمله من رصانة وريثٍ نبيل، كان في ماثيو جانب طفولي لا يظهر إلا أمامها.
“سأنهي اللوحة قبل أن تعود. إنها من سلسلة ‘الغابة الشتوية’. عليّ أن أضمن أن محفظة صديقي الكريم لا تفرغ، أليس كذلك؟.”
ابتسمت جولييت بلطف يُشبه الطمأنينة، فشعر ماثيو أن هذا الوجه المشرق وحده كفيل بأن يبدّد عناء السفر. كان مشهد التناقض بين قامته الطويلة وهيبته، وبين تلك النظرة الضعيفة الطفولية، يبعث فيها شيئًا من الحنين.
“لا بأس، لا ترهقي نفسكِ كثيرًا.”
ضحك بعدها ضحكة قصيرة متعبة.
كانت جولييت تمتلك موهبة نادرة: حسًّا فنيًّا حادًّا يجعلها تلتقط الضوء والهواء على اللوحة كما لو كانت تسرق أنفاس الطبيعة ذاتها.
لكنها، في المقابل، كانت غافلة عن أمور كثيرة. كأنها تُفرغ كل تركيزها في الرسم، وتنسى أن تلتفت إلى العالم حولها.
ولهذا، لم تُدرك أبدًا أن ماثيو لويس يحبّها منذ سنوات. نظراته التي تتحدث بالعشق كانت تراها عادية، حنُوّ صديقٍ لا أكثر. إخلاصه ودعمه اللامحدود؟ في نظرها مجرد تعاون مهني ضمن شراكتهما الفنية.
لكن ماثيو كان يدرك أن هذه العلاقة المموّهة لا يمكن أن تستمر للأبد.
فكلاهما يكبر عامًا بعد عام، وأسرته بدأت تضغط عليه للزواج. فهو ليس رجلًا عاديًا، بل وريث ماركيزية لويس، وسليل عائلة نبيلة يُنتظر منه أن يتزوج وينجب وريثًا.
مرّر أصابعه بين خصلات شعره التي عبثت بها الريح، وارتسم على ملامحه قرار حاسم.
بعد هذه الرحلة التجارية، كان ينوي أن يتقدّم لخطبة جولييت.
كانت مملكة ترافيوس مشهورة بما تُنتجه من ألماسٍ أحمر، لا يُضاهيه جمال في أي مكان آخر.
وكان ماثيو يعتزم أن يهديها خاتمًا من تلك الأحجار النادرة، خاتمًا بلون أحمر يضاهي تموّجات شعرها الناريّ.
خاتمًا يحمل وعدًا بالزواج… وبالخلود في قلبه.
ففي هذا العالم، لم يكن أحد يفهم جولييت بليثوود كما يفعل ماثيو لويس.
هو وحده من عرف عمق موهبتها، وحرارة شغفها، وسحر جمالها المتّقد الذي يتجاوز المظهر واللون.
كان يؤمن أن لا أحد سواه يستحقّ أن يكون شريك حياتها.
—
كانت دار أوبرا سيزماري مشهورة بسقفها الأسود الذي يزدان بلوحة تنّين ضخم يحلّق وسط مجرّة مرصّعة بالنجوم، كأنها زَبَد ضوءٍ نثَره في السماء.
انبهرت جولييت بالمشهد المهيب حتى كادت تفوّت لحظة دخولها المقصورة.
“مساء الخير.”
“أهلًا بكِ يا آنسة جولييت.”
كان دوق بادامارا وعائلته قد استقروا في المقاعد الخاصة.
أدّت جولييت تحية مهذبة، لكنّ الترحيب اقتصر على الدوقة وحدها، أما البقية فاكتفوا بنظرات فاحصة وإيماءات باردة.
أما حفيدة الدوق، التي كانت في مثل عمرها، فقد ابتسمت بسخرية خفيفة وهي تحدّق في ثوب جولييت البالي الذي فقد بريقه.
لم تكن جولييت تتوقع حفاوة، لكنها لم تظن أن الجفاء سيكون بهذا الوضوح.
قالت الدوقة مشيرة إلى آخر الصف:
“تفضّلي بالجلوس هناك يا آنسة جولييت.”
كان المقعد في الزاوية، لا يُطلّ إلا على ربع المسرح، رغم أن نصف المقاعد المجاورة كانت خالية.
كان من الواضح أن الدوقة أرادت أن تذكّرها بأنها ضيفة مجانية لا أكثر.
جلست جولييت بهدوءٍ متصنّع، تحاول الحفاظ على اتّزان ملامحها، لكنها شعرت بحرارة الخجل تزحف إلى وجهها.
كم كانت ساذجة حين ظنّت أن زيارة الأوبرا ستكون تجربة ممتعة!.
فكّرت في مغادرة القاعة، لكن الأضواء خفتت فجأة، وبدأ العرض.
كانت المسرحية مأساة انتقام، يروي فيها البطل سعيه لكشف سرّ موت معلمه.
اندمجت جولييت شيئًا فشيئًا مع الأداء، وتلاشى عنها إحساسها بالإهانة حين ارتفع صوت الممثل في صرخة ألمٍ صادقة:
“إن كانت الأزهار تبقى كما هي في كل عام، فلماذا أنتِ من تغيّر؟.”
بلغت السوبرانو ذروة اللحن في آريتها الحزينة، لكن الحركة الغريبة في الجمهور شدّت انتباه جولييت.
نظرت حولها، فرأت النساء يتهامسن خلف مراوحهن، ويختلسن النظرات إلى المقصورة المجاورة.
كاسيان بيترو.
“ذلك الرجل مجددًا.”
منذ مأدبة الكونت كريسندو، انتشرت أخبار وصول وريث عائلة بيترو إلى العاصمة انتشار النار في الهشيم.
وسرعان ما أجمعت دوائر النبلاء على أنه جاء بحثًا عن عروس. فاشتعلت المجالس، وصارت أخباره حديث كل بيت.
“إلى أي حفلة ذهب السيد كاسيان الليلة؟.”
“سمعتُ أنه قبل دعوة الماركيزة وارتون إلى شاي الغد!.”
“ملابسه! وسنّه! آه، إن السيد كاسيان كذا وكذا…”
لم يعد يُذكر في العاصمة سواه. فالأبناء العازبون في بيوت الدوقات نادرون، وظهوره كان أشبه بفرصة ذهبية.
حتى والدة جولييت سمعت الأقاويل، ولهذا لم تعارض حضورها الليلة، لعلّ القدر يصنع معجزة ويقع اللورد الوسيم في حبّ ابنتها الكبرى.
ضيّقت جولييت عينيها وهي تراه يدخل المقصورة متأخرًا.
ورغم تأخره، دخل مباشرة إلى المقاعد الملكية، كما لو أن المسرح بأكمله خُصّص له، نفوذ الدوقات لا يُسأل عنه.
جلس بثقة متعالية، متقاطع الساقين، دون أن يُبدي أدنى حياء. ومع ذلك، سمعت جولييت تنهدات الإعجاب تتطاير من حوله.
كان لتلك الهالة النبيلة التي تحيط به أثر السحر على النساء.
‘أو ربما السبب وجهه فقط…’
كان وجهه مضيئًا كمن يبتلع أنوار القاعة. بشرته البيضاء الشاحبة ازدادت إشراقًا أمام مقعده القرمزيّ، وكأنه لوحة متقنة الصنع.
ترى جولييت أن شهرته لم تأتِ من اسمه الأرستقراطي بقدر ما جاءت من ذلك الجمال اللافت الذي لا يُصدق.
ومع ذلك، لم تستطع احتمال كيف تحوّل عرض الأوبرا الراقي إلى مجرد مناسبة للتباهي والتودّد بين الأسر. كم من هؤلاء جاء حقًّا حبًّا بالفن؟.
ثم شعرت فجأة بأن نظرات كاسيان تتجه نحوها. ترددت لحظة، ثم أعادت نظرها إلى المسرح عن عمد، محاولة التركيز في العرض احترامًا للممثلين.
انتهى الفصل الأول وسط تصفيق مدوٍّ، وأُعلن عن الاستراحة.
كان كاسيان يشعر بالضيق من كل هذا الاهتمام المفرط. أكثر ما أزعجه أنه تأخر فأربك العرض، ولو لم يجبره والداه على الحضور لما جاء أصلًا.
لذا، ما إن بدأت الاستراحة حتى غادر مقصورته على عجل، كمن يفرّ من سجن.
لكن ما إن خرج حتى أدرك أنه ارتكب خطأً فادحًا.
إذ أحاطت به السيدات فورًا، كالحمام الذي يلتفّ حول من يحمل الحبّ.
تقدمت نحوه أكثرهن جرأة، ابنة الماركيز وارتون، وقد تعرّف عليها مؤخرًا في حفلة شاي، وقالت بدلال:
“صاحب السمو كاسيان، هل تستمتع بالأوبرا؟.”
“هذه أول مرة أحضر فيها منذ بلوغي سنّ الرشد. كنت طريح الفراش أغلب الوقت.”
تجمدت ابتسامتها حين سمعت نبرته الفاترة، وتراجعت خطوة. لكن سرعان ما حلّت مكانها أخرى.
“هل ترغب بكأس شامبانيا يا سيدي؟.”
“ما أشبهك بالدوق في صباه! لا بد أن الناس يخلطون بينكما!.”
كلما أبعد واحدة، تقدمت أخرى، حتى أحاطت به دائرة من الوجوه المترقبة.
كانت فترة الاستراحة راحةً للمغنين، لكنها بالنسبة إلى كاسيان بيترو كانت محنةً حقيقية.
تصلّبت ملامحه أكثر فأكثر، ولم يعد يحتمل العودة إلى مقعده أيضًا.
ففكرة الجلوس محشورًا بين والديه حتى نهاية العرض كانت كافية لخنقه، فضلاً عن نظرات شقيقه الأكبر الجافة التي تسخر منه بصمت.
وبعد جهد، تذرّع بالحاجة إلى دورة المياه وانسحب.
استند إلى عمودٍ رخامي ضخم في الممر الجانبي، وأطلق زفرة طويلة.
“هاه… هذا مرهق.”
لكنّ شعلة حمراء لفتت نظره.
شعرها الناري كان مألوفًا له، تلك المرأة التي التقاها في معرض الكونت كريسندو قبل أيام.
كانت تجلس وحدها، كأنها أيضًا تهرب من ضجيج العالم.
تذكّر كيف كانت في المقصورة، وحيدةً تستمع للموسيقى بوجهٍ صادقٍ تمامًا، دون تصنّع. تملك تلك القدرة النادرة على الإصغاء للفنّ بصفاء.
“لو أني أستطيع أن أختفي وأجلس قربها فقط…”
فوجود امرأة كهذه، واحدة لا تتدافع نحوه ولا تبتسم بتصنّع، بدا له أعظم راحة. حتى لو تشاجرا مجددًا كما حدث في المرة السابقة، لكان مستعدًا لتحمّل ذلك.
لكن بينما كان غارقًا في أفكاره، اقترب شخصٌ من جولييت.
كان شابًا مترنّحًا، وجهه محمّر كعنب ناضج من أثر الشامبانيا.
راقبه كاسيان باهتمام خافت.
“آنسة جولييت.”
انتفضت جولييت من أفكارها ورفعت رأسها بسرعة.
“عذرًا، من تكون؟.”
“أنا كلاوس تيسفولت. التقينا في زفاف شقيقتك الصغرى.”
“آه…”
لم تتذكره إطلاقًا. بل راودها شكّ أنه لم يحضر الزفاف أصلًا.
“لقد مرّ وقتٌ طويل، وسررت برؤيتكِ مجددًا… هل لي بلحظةٍ من وقتك؟.”
كانت كلماته تتعثر، ورائحة الخمر تفوح منه.
ارتسمت على وجه جولييت ملامح ضيقٍ واضح، وشعرت بأنّ الموقف على وشك أن يسوء.
التعليقات لهذا الفصل " 3"