2
نظرن السيدات إلى جولييت مجددًا بعينين مليئتين بالشفقة، وتمعّنّ في ملامح دهشتها الصادقة.
“يُقال إنه أتم العشرين لتوّه، أليس كذلك؟ يا له من شاب جميل، لقد ورث وسامته عن الدوقة دون شك.”
“هل سيبقى في العاصمة من الآن فصاعدًا؟ سيكون من الطبيعي أن يمكث قرب عائلته بعد عودته.”
ومن هناك، انطلقت أحاديثهنّ الصاخبة عن كاسيان بيترو، الشاب الذي عاد حديثًا إلى العاصمة، وعن حياته القادمة بين أروقة النبلاء.
أما جولييت، فاكتفت بالابتسام بأدب كدمية مدرَّبة على المجاملة.
لم يكن ثمة داعٍ لأن تتدخل في حديثهنّ، فهزّ الرأس في المواضع المناسبة كان كافيًا لإرضائهن.
“بالمناسبة يا جولييت، إن لم تكن لديكِ ارتباطات مساء الجمعة، فهلاّ رافقتِني إلى دار الأوبرا؟ إن زوجي يموّل العروض هناك، وقد حصلنا على مقصورات خاصة.”
“يشرفني كثيرًا أن أنضم إليكم، أشكركِ جزيل الشكر يا دوقة بادامارا.”
كان معظم الناس يتحاشون التحدث إلى سيدات كهؤلاء ذوات اللسان اللاذع، لكن جولييت كانت ترى في صداقتهن مكسبًا لا بأس به. فهنّ يقدمن بسخاء ما لا يمكنها الحصول عليه وحدها: دعوات للأوبرا، ومناسبات راقية، وفرص تفتح لها بعض الأبواب في مجتمع لا يرحم.
وبعد أن استنزفها الحديث الطويل، شعرت بالتعب يتسلل إلى كتفيها. فودّعت السيدات بلطف، وشكرت الكونت كريسندو على دعوته، ثم غادرت القاعة باكرًا مقارنة بالآخرين.
كان الخريف قد بدأ يطرق أبواب العاصمة.
امتزج عبير الحقول الناضجة برائحة الأوراق الذابلة في الهواء، ففتحت جولييت نافذة العربة، واستنشقت نسيمًا رطبًا عليلًا. كان يحمل معه شيئًا من الحرية، الحرية الوحيدة التي تتذوقها حين تبتعد عن بيتها.
وحين وصلت إلى قصر بليثوود، وجدت في الصالون فقط الكونتيسة بليثوود، والدتها، تجلس متكئة على الأريكة وبين يديها رُزم من الرسائل غير المقروءة. أما بقية أفراد المنزل، فلم يكن لأحدهم أثر.
“لقد تأخرتِ.”
“أعلم يا أمي.”
“كنتِ في قصر كريسندو مجددًا؟.”
“…”
نزعت الكونتيسة نظارتها عن أنفها وأطلقت تنهيدة طويلة.
“لا تحضرين حفلات راقية كغيركِ من الفتيات، لكنكِ لا تفوتين تلك التجمعات الغريبة!.”
“تجمعات غريبة؟ لقد كان هناك كثير من السادة النبلاء اليوم، حتى إن دوقة بادامارا منحتني تذاكر لحضور الأوبرا.”
“الأوبرا؟ وماذا ستجلب لكِ الأوبرا؟ لو كانت دعوة إلى حفلة راقصة لربما اهتممتُ!.”
ثم بدأت تعدّ الأظرف أمامها واحدًا تلو الآخر، وهي تتأفف.
“انظري إلى هذا، يا جولييت. فواتير، ثم فواتير أخرى، كلها نفقات لا تنتهي. لا يمكننا الاستمرار هكذا. عليكِ أن تتزوجي قريبًا، من أجل مستقبل هذه العائلة.”
عضّت جولييت شفتها في صمت. كان هذا هو المقطع المألوف من حديث أمها الذي لا ينتهي.
“قلتِ إن هناك كثيرًا من السادة في المعرض اليوم. هل تحدثتِ مع أحدهم؟.”
تجنبت جولييت النظر إليها. كيف لها أن تعترف بأنها تبادلت حديثًا عابرًا مع السيد كاسيان بيترو؟ يكفي أن تعلم أمها بذلك لتعلن خطبتهما في اليوم التالي!.
ولما ظلّ صمتها قائمًا، زفرت الأم بضيق وقالت بنبرة يائسة:
“يكفي، أعرفكِ جيدًا. لا فائدة من الإلحاح عليكِ. اذهبي إلى غرفتكِ واستريحي.”
“كما تشائين، أمي. تصبحين على خير.”
وفي طريقها إلى الطابق العلوي، سمعت والدتها تتمتم من خلفها بامتعاض.
“حقًّا، كيف يمكن أن تكون الكبرى أقل نضجًا من شقيقتها الصغرى؟.”
توقفت جولييت لحظة، وقد غامت ملامحها للحظة عابرة حين سمعت المقارنة المعتادة بشقيقتها أريين التي تزوجت قبل عامين، لكنها سرعان ما أخفت انزعاجها وأكملت صعودها إلى غرفتها بصمت.
كانت أسرة بليثوود تمرّ بأزمة غير مسبوقة.
تسببت العواصف في اضطراب التجارة، وأعقبتها مواسم جفاف أتلفت المحاصيل، فغرقوا في ديون متراكمة. ولو كانت الأسرة أقدم عهدًا أو أمتن مكانة لربما نجت، لكنها لم تتجاوز الجيل الثاني من لقبها.
أما خطة الكونتيسة فكانت بسيطة حدّ القسوة: تزويج بناتها من رجالٍ أثرياء لإنقاذ الأسرة من الإفلاس.
نجحت أريين في الزواج من عائلة نبيلة ميسورة، لكن جولييت… بقيت بلا عروض جدّية، بلا آمال واضحة، وكأنها عار جاثم على اسم العائلة.
كانت أمها تعاملها وكأنّ كلمة ‘معيبة’ منقوشة على جبينها، لا تكفّ عن التذمّر والتوبيخ صباح مساء.
ضحكت جولييت بمرارة وهي تفكر.
‘ما الفرق بينكِ وبين راعٍ يحاول بيع ماشيته لمن يدفع أكثر؟.’
لم تكن تجهل دوافع أمها، لكنها كانت تشعر بالاختناق من هذا البيت الذي كان يومًا مليئًا بالدفء، وأصبح الآن ساحة ضغط وعتاب. كانت في الماضي الابنة المحبوبة، أما اليوم فهي عبءٌ لا أكثر.
دخلت غرفتها بصمت، واتجهت نحو زاوية صغيرة تخفي خلف ستارة رقيقة سلّمًا خشبيًّا طويلاً يقود إلى العلّية.
صعدت الدرجات على يديها وركبتيها حتى بلغت العُليّة، تلك المساحة الضيّقة التي لم يزرها أحد سواها. هناك، وجدت عالمها الحقيقي، مرسمها السريّ.
رغم أنها تركت النافذة مفتوحة طوال النهار، ظلّ عبق الألوان والزيت يملأ الجوّ. وعلى الجدران، تناثرت لوحات متعددة الطابع، بعضها بملمسٍ يشبه أسلوب الفنان الذي رأته اليوم في معرض الكونت: مارك ماكينون.
تذكرت كلمات السيد بيترو التي سمعَتها هناك:
“أكثر الفنانين تلوّنًا بين وجهي الحقيقة والمظهر…”
ابتسمت بسخرية خافتة، ثم نزعت عنها ثوبها الثقيل وربطت شعرها، وارتدت مئزرها الملطخ بالألوان فوق قميصها الخفيف.
قالت لنفسها وهي تتناول فرشاتها:
“ربما كان محقًّا في شيء واحد… أنا أيضًا أعيش بوجهين. أختبئ هنا كجبانة.”
انعكست لمعة مختلفة في عينيها، لمعة تشبه التمرّد. ورفعت الفرشاة، فانطلقت ضرباتها على القماش الجامد كفرسٍ جامح يعدو في المدى.
جولييت بليثوود، ابنة الكونت البالغة من العمر اثنتين وعشرين سنة، العزباء التي يراها الجميع فتاة فاشلة، كانت في الخفاء شخصًا آخر تمامًا.
هي نفسها مارك ماكينون، الرسام الصاعد الأشهر في إمبراطورية أوغيلفي.
—
في صباح اليوم التالي، كان منتزه جِنتري يعجّ بالناس الذين خرجوا يتمشّون تحت شمس الخريف المعتدلة. وكان المقعد الخشبيّ تحت شجرة البلوط العتيقة من أكثر الأماكن رواجًا، إلا أنه كان مشغولاً مسبقًا برجلٍ وامرأة يجلسان معًا، جولييت ورفيقها ماثيو.
كان ماثيو قد وصل باكرًا ليحجز المكان، وجلسا سويًّا يتأملان مشهد نهاية الصيف.
تحدث ماثيو وهو يشعل سيجارته.
“لماذا غادرتِ بالأمس باكرًا؟ كنتُ على وشك أن أقدّمك للمشترين.”
ضربت ذراعه بخفة مازحة.
“وهل كنتَ تتوقع أن أُعرّفهم بي هكذا، ‘مرحبًا، أنا مارك ماكينون!’؟ كانوا سيصابون بالذهول ويهرعون بعيدًا!.”
“جولييت، أتنوين العيش متخفّية هكذا إلى الأبد؟.”
“ولِمَ لا؟ هكذا عشتُ حتى الآن، ولم يشكُ أحد.”
كان ماثيو لويس صديق طفولتها وشريكها في السرّ.
منذ كانا طفلين يلعبان بين الحقول، جمعتهما صداقة لا تنفصم. كان يعرف عنها كل شيء، ما تحب وما تكره، ما يُضحكها وما يُغضبها.
ولأنه أدرك شغفها العميق بالرسم، هو من ساعدها على خلق هويةٍ جديدة تمامًا: مارك ماكينون.
هي ترسم، وهو يتولى أمر المبيعات والتعامل مع الزبائن.
ترددت في البداية، لكنها سرعان ما أدركت أن طريقته ناجحة. فماثيو ذكي ومنظّم، لا يترك أثرًا خلفه، ويتقن فن التجارة ببراعة.
وبصفته الابن الأكبر للماركيز لويس، كانت مكانته كافية لضمان سرّيتها وحمايتها.
“أخبريني، ماذا كنتِ ستفعلين بدوني؟.”
“ربما لم أكن لأعيش من دونك الآن.”
تجمّد ماثيو في مكانه، والسيجارة بين أصابعه، وعيناه بلون اللوز اتسعتا بتأثرٍ مكتوم، لكنّها لم تلحظ.
“إذن، عليكِ البقاء بجانبي طويلًا… طويلًا جدًا.”
“بالطبع، هذا ما أنويه.”
لم تدرك ما وراء كلماته، بل أومأت ببساطة وفركت عينيها بتعب.
“تبدين متعبة، ما بكِ؟.”
“أمي لا تكفّ عن إلحاحها بأن أتزوج. هل تعرف رجلًا عاقلًا، لا يهتم بالحياة الزوجية ولا يُبالي بما تفعله زوجته؟.”
“أظنكِ المرأة الوحيدة في العالم التي تتمنى زوجًا كهذا!.”
“وماذا تتمنى النساء الأخريات إذن؟.”
“رجلاً ثريًا… أو وسيمًا… أو طيب القلب.”
“المال؟ لا بأس، لوحاتي بدأت تباع مؤخرًا، ومع الوقت سأجمع ما يكفي من المال لأعيش بلا قلق. أما الوسامة واللطف، فهُم مجرد قناع. الرجل يظهر أطيب ما فيه قبل الخطوبة، ثم يكشف وجهه الحقيقي بعدها. والجمال؟ يزول مع الأيام. لا أريد أن أرهن حياتي لأشياء زائلة.”
استندت إلى ظهر المقعد ونظرت إلى السماء الزرقاء الصافية، وقالت بخفة:
“ربما عليّ أن أتزوج رجلاً مسنًّا، وأرتاح حين أترمّل باكرًا.”
“جولييت!.”
قال ماثيو بحدة وهو يطفئ سيجارته.
“لا تتفوهي بمثل هذا الكلام السخيف. لِمَ تحكمين على نفسكِ بزواجٍ تعيس؟ أنتِ أفضل رسامة في الإمبراطورية!.”
“كنت أمزح، ماثيو. لكن بصدق، إن أردت أن أواصل الرسم بحرية، فلن أجد خيارًا أفضل من خيار مجنون كهذا.”
“تستحقين رجلًا يؤمن بكِ ويدعمكِ.”
“في هذا البلد؟ وأين سأجد رجلاً كهذا بين نبلاء لا يرون في المرأة سوى اسم يُضاف إلى نسبهم؟.”
هبت نسمة خفيفة فحرّكت شعر ماثيو الداكن، واختلط دخان سيجارته برائحة الخريف العذبة. غيّر الموضوع قائلًا بهدوء:
“سأسافر إلى ترافيوس لبعض الوقت. إن حدث أمر عاجل، أرسلي لي خلال يومين. ولا تتركِ نفسكِ لأفكارٍ فارغة في غيابي.”
“ترافيوس؟ يا للحظ! سأقضي عمري كله دون أن أزور بلدًا غير هذا.”
“هل أرسم لكِ مشهدًا من هناك؟.”
ضحكت بصوتٍ خافت.
“لا، شكرًا، رسوماتك سيئة. لكن إن صادفت فنانًا محليًا لوحاته جميلة، أحضر لي واحدة منها. أريد أن أرى ما يرسمه الناس هناك.”
ابتسم ماثيو، يراقب ملامحها المتقدة بالحلم وهي تتحدث عن بلدٍ لم تره قط.
كانت جولييت بليثوود تملك ما يفتقر إليه معظم البشر مع تقدّم العمر، خيالًا حيًّا وفضولًا لا يخبو.
“أعدكِ.”
التعليقات لهذا الفصل " 2"