1
كانت جولييت جالسة على الأريكة، تحدّق بتركيز في لوحة فنية معلّقة أمامها مباشرة. كان ذلك الموضع المثالي لرؤية تفاصيل العمل بوضوح.
استرخت في جلستها، متأملة في اللوحة بهدوء واهتمام، حتى لفتت انتباه كثيرين من الحاضرين من غير أن تدري.
لم يكن السبب شعرها الأحمر المتدفق، ولا بساطة ثوبها مقارنة بثياب السيدات الأخريات، ولا حتى ملامحها، فهي وإن كانت جميلة المظهر، إلا أنّ جمالها لم يكن لافتًا على نحوٍ خاص.
السبب الحقيقي وراء تركز الأنظار عليها هو أنّها كانت الوحيدة بين الشابات اللواتي حضرن المعرض التي اختارت الجلوس في مكانها بصمت، بينما كانت الأخريات يجُبن القاعة بضحكاتٍ وحديثٍ متواصل مع السادة.
أما الكونت فيكتور كريسندو، مضيف الأمسية، فكان عاشقًا للفن وجامعًا نهمًا للوحات النادرة، لا يفوّت فرصة لإظهار ذوقه الرفيع. وفي هذا المساء أيضًا، عرض مجموعة جديدة من أعمال الرسامين الواعدين، ودعا إليها معظم نبلاء العاصمة.
كان الجميع يدرك أنّ هذه التجمعات ما هي إلا وسيلة يتباهى بها الكونت بثرائه وذوقه، غير أنّ ذريعة “مشاهدة اللوحات” كانت فرصة مناسبة للقاء الشبان والشابات، وللضيوف الأكبر سنًّا كي يقضوا أمسية صيفية راقية لا تخلو من المتعة. ولهذا، لم يرفض أحد الدعوة.
بعد أن طاف حول جولييت أكثر من مرة، اقترب منها شاب أخيرًا وقال:
“يبدو أنكِ معجبة بتلك اللوحة، ما رأيك بها؟.”
“همم… إنها جميلة حقًا.”
“كما توقعت، فلوحات الرسام ساكاري تروق للسيدات عادة. إنها مثالية لتزيين الغرف أيضًا.”
“أهكذا ترى؟.”
كان صوتها خافتًا، ينمّ عن مسحة خجل.
ثم أردف الشاب وقد انحنى قليلًا احترامًا:
“لقد تأخّرت في التعريف بنفسي. اسمي مايكل تورفاسو، يا آنسة.”
“جولييت بليثوود، سررت بلقائك يا سيد تورفاسو.”
“رجاءً، ناديني مايكل. أنتِ ابنة الكونت بليثوود، أليس كذلك؟.”
ومع انسياب الحديث بسلاسة، ازداد مايكل حماسة. فقد كان يعتقد أنّ كل امرأة هادئة الجلسة تتوق في داخلها لأن يلاحظها أحد. وبما أن جولييت بدت متحفظة في البداية، فقد خالها فريسة سهلة إن اقترب منها باللطف الكافي.
كانت أسرة بليثوود من الطبقة النبيلة، لكنها ليست ذات شأن كبير، وهذا ما جعل مايكل، الابن الأصغر الذي لم يرث حتى لقب الفيكونت، يرى في لقائها فرصة لا تُفوّت.
“إن رغبتِ، فسأشتري هذه اللوحة هدية لكِ.”
“أحقًا؟ لكننا التقينا اليوم للمرة الأولى يا سيد… تورنادو؟.”
“…تورفاسو.”
“آه، نعم، سيد تورفاسو.”
“وهذا بالضبط سبب رغبتي في تقديمها لكِ، لتكون رمزًا لأول لقاء بيننا.”
“في هذه الحال، هل لي أن أختار اللوحة التي تعجبني حقًّا؟.”
“بالطبع.”
تألقت ملامحها قليلاً وقالت وهي تشير بأصبعها الرقيق:
“تلك اللوحة هناك، تعجبني أكثر من غيرها.”
تبع مايكل إصبعها بنظره، فاتسعت عيناه دهشة. كانت تشير إلى أكبر لوحة في القاعة، منظر طبيعي واسع يملأ الجدار تقريبًا. لم يكن خبيرًا بالفن، لكنه أدرك فورًا أنّ ثمنها لن يكون زهيدًا.
“تلك اللوحة…؟.”
“نعم. الحديقة التي تتطاير فيها بتلات الزهور تبدو ساحرة. أعتقد أنّني سأستيقظ كل صباح ببهجة إن علّقتها في غرفتي.”
“لكن… لوحة بتلك الضخامة، كم يمكن أن يكون ثمنها؟.”
“لا أعلم بدقة، لكن أظنه يقارب مئة وخمسون ألف تروز. فالفنانة ساكاري مشهورة للغاية هذه الأيام.”
“مئة وخمسون ألف تروز؟!.”
حدّق فيها مصدومًا، وقد انكمشت ملامحه. فذلك المبلغ يكفي لشراء عربة فاخرة مطلية بالذهب!.
“آنسة جولييت، عذرًا، تذكّرت أمرًا عاجلاً عليّ أن أعتني به…”
لم يُكمل جملته حتى انسحب بسرعة، بينما أومأت جولييت ببرود:
“بالطبع، أسرع إذن.”
وحين اختفى، زفرت بهدوء.
‘يا لهم من حمقى لا يكفون عن ازعاجي، حتى وأنا جالسة بصمت.’
غيّرت جلستها، واستأنفت تأمل اللوحة. لكنّ راحتها لم تدم طويلاً، فما إن غاب مايكل حتى جاء آخر.
قال بصوتٍ هادئ يحمل شيئًا من السخرية:
“لم أرَ من قبل سيدة لا تعجبها لوحات ساكاري.”
رفعت رأسها بسرعة لتنظر إليه، وكادت تعضّ لسانها من الدهشة.
رجل أشقر، وسيم الملامح، يحمل كأس نبيذ بيده، كان ينظر إليها من علٍ بابتسامة خفيفة. ورغم شحوب بشرته، إلا أن وسامته اللافتة وحداثة ملامحه جعلته يبدو بين الفتى والرجل، بأناقة نادرة لم تعهدها من قبل.
“بل على العكس، لو استطعت امتلاكها، لاحتفظت بها في غرفتي.”
“لو كان الأمر كذلك، لما اخترتِ لوحة ضخمة كهذه لتخيفي بها أحدهم. معظم السيدات يرضين بلوحة صغيرة لطيفة.”
رفعت حاجبيها، وقد لمعت نبرتها بشيء من الحدة:
“ولماذا تفترض أن جميع السيدات لهنّ الذوق ذاته؟.”
“إذن، هل هناك لوحة هنا تُرضي ذوق سيدة راقية مثلك؟.”
كانت نبرة السخرية واضحة، لكنها لم تتأثر، وأشارت بثقة إلى لوحة أخرى قريبة.
“تلك، تعجبني أكثر.”
نظر إليها متفاجئًا وقال:
“لِمارك ماكينون؟.”
ثم عقد حاجبيه باستغراب.
“هذا لا يشبه ذوق معظم السيدات.”
“ولِمَ ذلك؟.”
“ضربات فرشاته خشنة، وتفتقر إلى الرقة المعتادة في لوحات الفنّانين الذين تفضلهم النساء.”
كانت اللوحة التي أشارت إليها تصوّر شتاءً قاسيًا تلسعه الرياح. لم تكن الفروع والأغصان مرسومة بتفصيل، لكنّ ألوان الثلج والبرودة كانت نابضة لدرجة تجعلك تشعر بالقشعريرة لمجرد النظر إليها.
قالت بهدوءٍ عميق:
“ولهذا أحببتها. فيها صدق لا يعرف التجميل. أشعر أنّ صاحبها ليس شخصًا يخبّئ وجهًا للناس ووجهًا آخر لنفسه.”
ضحك الرجل بخفة وقال:
“للأسف، يا سيدتي، الفنان ماكينون نفسه من أكثر الرسامين غموضًا. لم يُرَ له وجه قط، واسم ‘مارك ماكينون’ على الأرجح ليس اسمه الحقيقي.”
كانت كلماته لاذعة رغم مظهره الرقيق، ثم جلس دون استئذان بجانبها. أصدرت الأريكة أنينًا خفيفًا، وكأنها تعترض على اقترابه المفاجئ، لكن جولييت ظلت صامتة.
كانت عيناه الزرقاوان تبرقان كبحيرة ساكنة، عميقةٍ إلى درجةٍ تُخيفك من أن تغرق فيها.، وأقرب مما يجب. تساءلت في نفسها من يكون هذا الرجل، إذ لم تره من قبل رغم حضورها الدائم لمعارض الكونت. لا بد أنه من علية القوم، فوجه كهذا لا يُنسى.
“إن كان ماكينون مستعارًا، أفلا تكون ساكاري كذلك؟ سمعت أن الكونت حاول دعوتها لشرب الشاي مرارًا، لكنها رفضت.”
ابتسم بخفة وقال:
“يبدو أنك أدرى بشائعات المجتمع مما تَبدين عليه.”
نظراته كانت ثابتة، كأنها تخترق أعماقها، وحين حرّك أصابعه ببطء على كأس النبيذ، شعرت جولييت بانقباضٍ غريب في صدرها.
“لا أسرار في مجتمع العاصمة يا سيدي.”
قال وهو يحدّق فيها بنظرة فاحصة:
“وهل تصدقين كل ما تسمعينه؟.”
“بالطبع لا أؤمن بكل شائعة سخيفة، لكني أظن أنّ الكونت لا يكذب في شأن فنان واحد فحسب.”
أدار كأس النبيذ بيده، فتلألأت أنامله تحت الضوء وقال:
“وما الحقائق الأخرى التي تؤمنين بها إذن؟.”
“من المؤكد أن الكونت شغوف بالرسامين الجدد، وأنه يطمح لجمع الاثنين معًا في معرضه الكبير.”
“إذن، قد نكتشف يومًا الهوية الحقيقية لماكينون.”
“ولساكاري أيضًا، فالحقيقة لا تُخفي وجهها عن أحد.”
تبادلا النظرات طويلاً في صمت ثقيل كأنهما يخوضان معركة خفيّة. وأخيرًا كان هو من صرف بصره أولاً، ثم ابتسم بخفوتٍ وهو ينهض.
“إن اكتشفتِ يومًا من هما هذان الفنانان، فهل تتكرمين بإخباري، يا سيدتي؟.”
“بالطبع.”
انحنى بخفة وقال بابتسامة باهتة:
“يا لسخائكِ. سررتُ بلقائنا. إلى اللقاء.”
ثم انسحب بخطوات هادئة بين الحشد، بينما تابعت جولييت نظرها نحوه حتى اختفى، فتمتمت ساخطَة:
“يا له من رجل مغرور!.”
ثم تنبّهت أنها لم تعرف حتى اسمه. يا للوقاحة! وإن كانت، في الواقع، قد نسيت هي أيضًا أن تفعل ذلك.
أعادت نظرها إلى اللوحة، وتذكرت كلماته.
“ضربات فرشاته خشنة؟.”
يا لسخف ذلك الادعاء. كأنّ الفن لا يكون فنًّا إلا إذا كان مصقولًا حتى آخر لمسة!.
لكن قبل أن تغوص في أفكارها، سمعت صوتًا مألوفًا يناديها:
“جولييت! أما زلتِ جالسة وحدكِ هنا؟.”
رفعت رأسها لتجد ثلاث سيدات متقدّمات في السنّ أمامها، فسارعت للوقوف احترامًا.
“طاب مساءكنّ، سيداتي.”
كانت السيدة مارشال، زوجة البارون المجاور لعائلة بليثوود، معروفة بتطفلها. لا تطيق أن ترى جولييت وحيدة في أي حفل دون أن تتدخل وتحدّثها.
ولم تنكر جولييت أنها كانت تفضّل نظرات الازدراء من السيدة إيرو ودوقة بادامارا على أحاديث مارشال الثقيلة.
قالت الأخيرة بنبرة أمومة متصنّعة:
“لماذا لا تختلطين بالسادة مثل باقي الفتيات يا عزيزتي؟.”
ابتسمت جولييت وقالت بهدوء:
“انشغلت في تأمل اللوحات، فتعبت سريعًا. هل وجدتنّ ما يروقكنّ من الأعمال المعروضة؟.”
“آه يا جولييت، يبدو أنك لم تجدي بعد من يناسبك.”
“بهذا المعدل، أخشى أن يمر موسم المجتمع هذا دون أن تحققي شيئًا، يا للمسكينة…”
تبادلت السيدات النظرات المفعمة بالشفقة المصطنعة، بينما أجبرت جولييت نفسها على ابتسامة مجاملة، وقد بدأن كعادتهن بالخوض في الأحاديث المكرّرة والتذمّر الممزوج بالتفاخر، كما تفعل السيدات المتقدمات في السنّ دائمًا.
“لا تتصورين كم وبّختُ كبير الخدم اليوم بسبب تلك الفوضى! وأيضًا…”
“لابد أنه أمر مرهق لكِ، سيدتي.”
كانت جولييت المستمعة المثالية، عزباء هادئة لا تتدخل في شؤون الرجال، ولذلك وجدنها ضالتَهنّ.
وبينما كنّ يتحدثن، سألت ليدي إيرو فجأة وقد لمع الفضول في عينيها:
“لكن يا جولييت، ما قصة حديثكِ قبل قليل مع السيد الشاب بيترو؟.”
“السيد بيترو؟ أليس في أسرة الدوق بيترو ابن واحد فقط؟.”
“يبدو أنك لم تسمعي الخبر بعد. الابن الثاني للدوق، الذي كان يتعالج في الريف منذ سنوات بسبب مرضه، قد عاد إلى العاصمة مؤخرًا.”
“الرجل الذي كنت تتحدثين إليه قبل قليل هو كاسيان بيترو نفسه.”
اتسعت عينا جولييت في دهشة صامتة.
عائلة بيترو الدوقية! واحدة من أرفع الأسر مكانة في إمبراطورية أوغيلفي. كان الدوق مشهورًا بولده الأكبر الذي يُعدّ وريثًا بارعًا، لكنها لم تسمع قط أن له ابنًا آخر.
“يا إلهي… لم أكن أعلم. فأنا بالكاد أغادر المنزل هذه الأيام…”
وعند رؤية ملامحها المذهولة الصادقة، نظرت إليها السيدات الثلاث مجددًا بالشفقة نفسها التي اعتدنها.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

عالم الأنمي عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!

إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 1"