ومع أنه بدا سكرانًا بشدّة، إلا أنّ عينيه البنفسجيتين كانت تشعّان بحدة، كمفترس يحدق بفريسته.
ارتجفت الفتاة وقد شحب وجهها تمامًا، ثم جثت على ركبتيها.
“أ-أرجوك… أرجوك أرحمني، سيدي…”
انبطحت على الأرض بكامل جسدها، تنحني في خضوع تام.
لكن لودفيل قاطعها قبل أن تكمل توسلاتها.
“خطأ.”
وفي اللحظة التالية، لمع السيف وهو يشقّ الهواء، يتبعه صوت مروّع لشقّ الجسد.
لم يعد للرجل أيّ حركة.
“آآآآه!”
صرخت القديسة وهي تنهار جالسةً على ركبتيها، تنفجر في بكاء يائس.
الفرسان، دون أن يرفّ لهم جفن، سحبوها بعنف كما لو كان هذا مشهدًا معتادًا بالنسبة إليهم.
وغرق المكان في صمت قاتل.
لم يجرؤ أحد على الكلام.
تقدّم لودفيل نحو مقعده في صدر القاعة، ركل الجثة الدامية بقدمه بعيدًا، وجلس كأنّ شيئًا لم يكن.
عيناه كانتا فارغتين، لا تحملان أثرًا للغضب، ولا حتى للجنون، بل كانتا ممتلئتين بفراغ أعمق من أي جنون.
“من التالي؟”
كلماته جمدت الدماء في عروق الجميع.
لا أحد تجرّأ على الرد.
لا أحد.
في خضم هذا الصمت، كانت أوديل تراقبه ببطء.
لودفيل إكسيبسيون.
لودي…
بدلًا من أن تلمسه، تبعته بنظراتها.
جبهته، فكّه المشدود، خدّه الملطّخ بالدم.
كما لو أنها تتأكّد أنه ما يزال إنسانًا حيًّا تحت تلك الطبقات من الجنون ورائحة الدماء.
كما لو أن حواسها تعود بها إلى أول لقاء بينهما، منذ زمن بعيد، خلف جدار واحد كانت تراقبه من خلاله بصمت.
حبيبي، منقذي، سيفي… وخادعي.
ذاك الذي نزف لأجلها يومًا، والذي كان في يومٍ آخر أشد قسوة من أيّ غريب.
ورغم ذلك، في النهاية… أنقذها.
‘إنه ما يزال حيًّا… لا يزال…’
لكنّه تغيّر كثيرًا.
في الماضي، كان حاكمًا… وكان مخططًا استراتيجيًا.
حتى وسط الفوضى، كان يسيطر دومًا على مجريات الأمور.
أما الآن، فلم يبقَ فيه سوى الوحشية والضياع.
عينيه، التي كانت تشعّ بالحسابات والخطط، أصبحت الآن بئرًا بلا قاع.
‘لقد نسي. لا شك في ذلك.’
لو كان يذكرها، لما اكتفى بإحضار النساء عشوائيًا، بل لجاء يبحث عنها بنفسه.
وما يتذكّره منها لا يتعدى تلك العيون الزرقاء وبعض الشذرات.
وهنا تكمن المشكلة.
لقد عاش حياته بهدف وحيد.
إنقاذ أوديل.
أما الآن وقد فقد ذلك الهدف… فقد أصبح كمن أضاع البوصلة وسط بحرٍ لا نهاية له.
أسوأ سيناريو ممكن.
‘كنتُ أرجو أن تنساني، وتعيش سعيدًا… و أن تمضي في حياتك.’
لكن إن تركته على هذا الحال؟ سينهار عاجلًا أو آجلًا.
“…التالي هو أنا.”
مزّقت الصمت وتقدّمت خطوة.
ثم رفعت رأسها ببطء.
لقد اتخذت قرارها.
أن تبقى.
أن تكون إلى جانبه.
أن تملأ الفراغ في ذاكرته، ولو بشيء غيرها.
من خلف عباءتها القديمة، بدت عيناها الزرقاوان ثابتتين على شخصٍ واحد فقط.
“جئتُ لأقترح صفقة، يا صاحب السمو.”
ردّ لودفيل بعد برهة، ببطء شديد.
“صفقة؟”
كان صوته جافًا، فاترًا.
ردّة فعل شخص لا يهتم حتى بمن يقف أمامه.
“ما نوع الصفقة؟”
كأنه يقول.
تكلمي، أريني ما عندك.
لم يظهر منه أيّ اهتمام، ولا حتى حذر، فقط إجابة تلقائية بعد تكرار المحاولات نفسها.
“……ما أود قوله لا يمكن البوح به في هذا المكان.”
ضحك لودفيل ساخرًا.
“طبعًا، هذا واضح. مظهر غامض تحت العباءة، قصة خفية، وشرط خاص بأن نكون وحدنا… نفس البداية المكررة التي استخدمتها من قبل من ادّعت أنها قديسة، وتلك الأميرة المنبوذة.”
“أنا لست…”
“هل تريدين أن تقولي إنكِ الفتاة التي أبحث عنها؟”
سألها دون أن ينظر إليها حتى.
“……”
لم تستطع الرد.
استمر صمتها، فاستدار لودفيل وكأنّه ملّ كل شيء.
“يبدو أن الوقت قد حان لإنهاء الحفل.”
ونهض من مقعده، متجاهلًا وجودها تمامًا.
أوديل وقفت عاجزة عن الكلام.
‘أُريد أن أقول إنني هي من تبحث عنها…’
لكنّها لا تستطيع.
أوديل… لن تتجاوز التاسعة والعشرين.
بقي لها من الحياة خمس سنوات لا أكثر.
ولو استعاد لودفيل ارتباطه بها مجددًا، فسيقود ذلك إلى سقوطه المحتم من جديد.
مرّ بجانبها، دون أن يمنحها نظرة.
وكأنّ البحر قد انشق أمامه، تفرّق الناس ليفتحوا له الطريق بصمت.
عباءته السوداء انسابت على السجاد الأحمر.
وأوديل وقفت، تحدّق في ظهره بصمتٍ طويل.
في مكان آخر…
كان لودفيل قد غادر القاعة، يسير بهدوء في ردهة طويلة.
وكلما ابتعد عن الموسيقى والضحك، كلما ازداد الفراغ في قلبه.
متى بدأ هذا الانحراف عن الطريق؟
عبدٌ سابق، تسلّق من قاع الإمبراطورية، حتى بات يحكم أقصى شمالها.
دوق إكسيبسيون، سيد الأرض الأقسى.
نقش الوحشية في دمه، وسحق آلاف الأعداء، وأدى مئات المؤامرات.
لكن…
‘…كم هو مرهق.’
لا يعرف السبب.
لم يعد يستمتع بقيادة الجيوش، ولا بخدمة الإمبراطورية.
الانتصار، والغزو، والحكم…
تكرار، وتكرار.
وفي لحظة ما، فقدت كل تلك الأشياء معناها.
‘لماذا كنت أقاتل؟ من أجل ماذا بذلت حياتي؟’
الكلمات، الحركات، حتى أنفاسه… أصبحت قشرة فارغة.
ضحك الآخرين، أحاديثهم… بدت وكأنها قادمة من خلف جدار سميك، بعيدة، عديمة القيمة.
التعليقات لهذا الفصل " 9"