كان يصرخ، وكان يغضب، وكان يغرق في الحزن، ومع تكرار الحياة أصبح باهتًا.
الأصدقاء الذين كان يضحك ويثرثر معهم، بدأ يراهم شيئًا فشيئًا كخلفية لا أكثر، لا كأشخاص.
حتى أولئك الذين أغرقوه في اليأس يومًا، لم يعودوا يثيرون فيه رغبة الانتقام.
مهما قطع، لم يعد يشعر بالذنب.
كان يجهل كيف يتوقّف.
فقط من أجل حماية شخصٍ واحد، كرّر الموت والفشل آلاف المرّات.
كان يموت ويبدأ من جديد، ينهار ثم ينهض، ساعيًا فقط نحو نهايةٍ واحدة.
مستقبلٌ تكون فيه أوديل حيّة.
“……”
كانت أوديل تراقب حياته التي لا تنتهي من التكرار.
“يكفي الآن……”
كلّ الذكريات التي عاشها، اجتاحت أوديل.
كمٌ هائل من الذكريات، لا يمكن تحمّله.
رغم أنها كانت ترى ما يراه، إلا أن كمّ المعلومات كان يفوق قدرتها على الفهم.
كلّ ما استطاعت استيعابه، حقيقة واحدة.
رجلٌ عاش ومات من أجلها.
رجلٌ لم يَرى أحدًا غيرها في بداية كلّ زمن ونهايته.
مئات الإخفاقات.
آلاف الميتات.
مات ثم مات، ثم نهض وحارب، وخسر كلّ شيء، ولم يتوقّف.
تكرار، ثم تكرار، ثم تكرار، بلا نهاية.
حجر العودة الذي يصغر يومًا بعد يوم.
الخاتم الذي لم ينزعه من إصبعه، رغم كلّ الرجوع.
كان يضيق حول قلبه، حتى لم يعُد ينبض، وأصبحت عيناه تظلمان شيئًا فشيئًا.
حب، كراهية، شفقة، تضحية، ندم، غضب، جنون.
كلّ شعورٍ من هذه المشاعر مزّق عقل أوديل تمزيقًا.
“……توقّف!”
بلا وعي، مدّت أوديل يدها.
نحو ذلك الرجل الذي، وسط هذه الذكريات التي لا تنتهي، عاد فقبض على سيفه من جديد.
“توقّف الآن، أرجوك……”
رغم علمها أن كلّ هذا زمنٌ قد مضى.
رغم علمها، أكثر من أيّ أحد، أنه لم يعُد موجودًا في هذا العالم.
“لقد فعلت ما يكفي. أنا بخير، أقول لك. من أجلي…… لماذا كلّ هذا……”
لكن، قبل أن تصل يد أوديل إلى هدفها.
مات لودفيل.
وأخيرًا “مات بحقّ”.
أنقذ أوديل.
ثمّ غرق في راحةٍ أبديّة.
كان الأمر غريبًا.
فحتّى وقتٍ قصير، كانت جسدها يزداد وهنًا، ولم تكن تنتظر إلا الموت.
لكن فجأة، بدأ جسدها يستعيد طاقته، وكأنها تحيا من جديد.
بل أصبحت قادرة على مزاولة الطبّ في قريةٍ استقرّت فيها لاحقًا.
ظنّت أنّ معجزة وقعت.
لكن في الحقيقة…….
“كانت معجزة أنت من صنعتها.”
شيءٌ لا يمكن حتى للحاكم فعله، فعله هو بجسدٍ بشري.
أغلقت عينيها بقوّة، وقبضت على الخاتم.
الضوء الأزرق المنبعث من حجر العودة كان قد بدأ يخفت، وكأنّه سيتلاشى قريبًا.
وكأنّه يعلن نهاية ذكريات، لا، نهاية حياة لودفيل.
“……”
تمنّت أوديل بلا وعي.
إن كان هنالك حياةٌ أخرى.
إن كانت توجد فعلًا.
فليعش فيها من أجل نفسه فقط.
“……ولا ترتبط بشيءٍ مثلي.”
فليكن سعيدًا، من فضلك.
في تلك اللحظة، انفجر الضوء من الخاتم الذي كانت ترتديه في إصبعها.
ثمّ…
“فزززز―”
تشقق حجر العودة، ثم تناثر إلى شظايا لا تُعدّ.
“……!”
شظايا الضوء الأزرق ملأت السماء مثل مجرّة.
اندفعت تلك الأضواء نحو أوديل في لحظة واحدة.
وفي اللحظة نفسها، تغيّر كلّ شيء كالعاصفة.
انتشر الضوء، وتشوه الصوت، وانقلب الزمن.
ثم جاء الظلام.
“……هاه!”
في اللحظة التالية، فتحت أوديل عينيها وهي تلهث على أرضٍ رطبة.
‘أين……’
جدرانٌ حجرية رطبة.
أرضية صلبة وباردة تحت ركبتيها.
الطابق السفلي من قصر كارْديل، الغرفة السرية.
“كح… كح!”
انقلب جوفها بقسوة.
شعرت بشيءٍ يتصاعد من حلقها.
دم.
ساخن، لزج، وطعمه معدني يملأ فمها.
الدم الأحمر الذي سال من بين شفتيها لوّث طرف ثوبها الأبيض.
ألمٌ مألوف.
في تلك اللحظة، ارتجّت الأرض بخفة.
توالت أصوات الانفجارات، كأنها ألعاب نارية، وارتفعت الهتافات من بعيد.
“المجد لعائلة كارديل!”
“يا وريث التنين، يا دم الأبطال، المجد لك!”
“المجد لإمبراطورية لومينير!”
الإشارة التي تتكرّر كلّ عام، في هذا اليوم تحديدًا.
“……لقد عدت.”
إلى اليوم الذي جاء فيه لودفيل، قبل ستّ سنوات، ليقترح عليها زواجًا بعقد.
تنفست أوديل بصعوبة، ونظرت إلى الخاتم المرتخي في إصبع إبهامها.
الخاتم الذي قضت مع لودفيل وقتًا طويلًا منذ أن زُرع فيه حجر العودة.
ذلك الحجر الذي بالكاد بقي منه شيء، اختفى بالكامل دون أن يترك حتى غباره.
أعطاها الفرصة الأخيرة.
“……لماذا.”
كنت قد دعوت ألّا يرتبط بشيءٍ مثلي وأن يعيش سعيدًا……
فلماذا أعادني القدر إلى هذه اللحظة بالذات؟
كلك.
في تلك اللحظة، سمعت صوت قفلٍ يدور.
أوديل رفعت جسدها نصفه بلا وعي.
“تبدين بحالٍ أفضل مما توقعت. كان عليّ أن أُحكم الحاجز أكثر، على ما يبدو.”
هل كنتِ تتمنّين شيئًا؟
بمجرد أن رأت وجهه، تجمّدت نظراتها على الفور.
لأنه كان غاوين.
الابن الأكبر لعائلة كارديل ووريثها الرسمي، غاوين كارديل.
رغم أنّه وُلد من نفس الرحم الذي وُلدت منه، فقد كان محظوظًا بما فيه الكفاية ليولد بلا أيّ قدرة.
بفضل ذلك، أصبح يُلقّب برسول الإله، وبطل الإمبراطورية.
دم أوديل، كان مجرّد حجر يُمهد له طريق المجد.
“لا تظني أن الطقوس انتهت وأنكِ ستحصلين على راحة. من الآن يبدأ كلّ شيء. أمامك جبلٌ من الأرواح لتطهّريه.”
كانت أوديل بالكاد تصغي إلى كلماته، فقد كانت تحدّق نحو الباب.
كلّ تركيزها كان منصبًا على لودفيل.
عندها، سخر غاوين بابتسامة ساخرة.
“ما الأمر؟ تظنين أن أحدًا سيأتي لينقذكِ؟”
“……”
“لا تكوني أنانية. إنْ صبرتِ وحدك، تنجو الإمبراطورية بأكملها. هذه هي مسؤولية المطهّرين التي وُلدت بها.”
تابع غاوين خطواته ببطء، وهو يراقب الغرفة التي تفوح منها رائحة الدم.
كان صوته هادئًا بلا نهاية، لكنّ في داخله تكمن برودة ساخرة.
“من أجل العائلة، من أجل الإمبراطورية…… لا تخيّبي تضحيات عشرات الأجيال من أسلافكِ الذين قدّموا حياتهم.”
“……”
“إن عجزت المطهّرة عن أداء واجبها، فلن يبقى شيء، لا من هذه الإمبراطورية، ولا منكِ.”
ضحكت أوديل بسخرية علنيّة.
فتجمّد وجه غاوين فورًا.
“ما المضحك إلى هذا الحدّ؟”
كانت قد صدّقت سابقًا.
رسالة كارديل، وقدَر المطهّرة.
لكن ليس الآن.
الآن، تملك أوديل كلّ شيء.
ذاكرة ما قبل العودة، وذكريات لودفيل جميعها.
تعلم الآن أنهم يجمّلون التضحية، ويزيّنون الخضوع ويجعلونه واجبًا.
“الإمبراطورية ستسقط بسببي؟”
“أجل، ولهذا……”
“كأنكم لا تستطيعون فعل شيء بدوني، أليس كذلك؟ وأنت، أيها البطل المزعوم للإمبراطورية.”
“……”
“تبدو وكأنك تعترف بأنك عاجز تمامًا.”
انطلقت الشرارات من عيني غاوين.
امتزج الغضب بالارتباك، وجرح الكرامة، فأشعلوا نيرانًا مستعرة.
“……تجرأتِ.”
زمجر وهو يحدّق بها.
خطواته الثقيلة دوّت على الأرض.
وقف غاوين أمامها مباشرة، ثم همس بصوتٍ منخفض كالأفعى:
“لا تتوهّمي. أنتِ أضعف مخلوقةٍ في هذا العالم. بينما أنا وريث هذا البيت، أنتِ مجرد أداة.”
قبض على ياقة ثوبها ورفعها بقوّة.
“أمثالكِ، إنْ قتلتُهم ودفنتهم، سينتهي الأمر. ستولد مطهّرة جديدة في الجيل القادم. كما كان الأمر دومًا…… هل تفهمين ما يعنيه ذلك؟”
ابتسم بسخرية.
ابتسامة متعجرفة لا يعرفها إلا من لم يعرف الخسارة قط.
“هذا يعني أنّ الإله دائمًا معي.”
في تلك اللحظة، فكّرت أوديل.
لقد سُلِبَت حياتها، واستُنزِفت سنوات عمرها، وانتهكت حتى أبسط حقوقها كإنسانة.
ورغم كلّ ذلك، لم تنتقم منهم ولو لمرّة واحدة.
‘……أجل، الآن فهمت.’
أخيرًا، جاءتها فرصة واحدة فقط، لتمزّق أغلال الماضي وتتّخذ قرارها بنفسها.
رفعت رأسها ببطء، وقالت بصوتٍ ساكن.
“حقًّا؟ إذًا فلتُثبت ذلك.”
التعليقات لهذا الفصل " 6"