بدأ جسده يُصبح خفيفًا.
أنفاسه، باتت تنساب بسهولة كما لو كانت كذبة.
في الوقت ذاته، كان الجسد النحيل الذي احتضنه يبرد شيئًا فشيئًا.
“… هيه. أوقفي هذا فورًا.”
حاول أن يُبعد يدها عنه، لكن أطراف أصابعها كانت قد بردت ككتلة جليد.
“قلتُ لك توقفي، أوديل!”
“لا يمكن.”
لكن أوديل، وهي لا تزال متشبثة به، هزّت رأسها بيأس.
“إن لم أفعل ذلك الآن… فلن أستطيع أبدًا.”
“توقفي! أنا لم أطلب شيئًا كهذا أبدًا!”
صرخ لودفيل، منتفخ العروق من شدة الانفعال.
لكن صرخته العنيفة لم تدم طويلًا.
فما لبث أن نوسل اليها بشدة.
“أرجوكِ… توقفي. أتوسل إليكِ…”
لكن الوقت كان قد فات بالفعل.
اكتفت أوديل بابتسامة خفيفة، ثم انهارت بين ذراعيه.
“الآن… كل شيء بخير.”
وقبل أن يتمكن من الرد بأن لا شيء على الإطلاق بخير…
“اخرج من هناك مباشرة، وستتمكن من الهرب. … ولهذا السبب، عليك أن تعيش.”
بذلت أوديل ما تبقى لها من قوة، ومدّت يدًا مرتجفة لتشير إلى جهة ما.
“عِش. هذه آخر وصية لي.”
شفتيها كانتا لا تزالان منحنيتين بانسياب خفيف.
حتى لحظة انقطاع أنفاسها الأخيرة.
رغم أنها كانت تتفاخر دومًا بأنها ستعيش أكثر منه، إلا أنها ماتت بطريقة عبثية ومفاجئة.
لقد ماتت في سنّ أبكر بكثير من متوسّط أعمار “الطهرين”.
ومع موت أوديل، لا بد أن يظهر منقٍّ جديد في وقت قريب.
عائلة كارديل ستتنهد وتقول إن عليهم ترويض الفرد الجديد من البداية.
إنه فقط موتٌ جاء أبكر بقليل من المعتاد، لكن مصير المطهرين الذي لم يتغير لقرون، لم يكن ليسير خلاف ذلك.
هكذا… كان يُفترض أن تنتهي القصة.
لكن…
شخصٌ واحد.
رفض تقبُّل مجرى القدر.
“قلتِ إنك ستعيشين أكثر مني…”
ارتجفت شفتاه المتشققتان.
امتدت أنامل لودفيل، ولامست خد أوديل النائمة في حضنه، كما لو كانت تتلمّس أثر دفئها الأخير.
“… كاذبة.”
“أوديل.”
“أجيبيني فقط… رجاءً.”
اهتزّت كتفاه.
لم يحتج الأمر وقتًا طويلًا لتحوّل أنفاسه المضطربة إلى بكاءٍ خافت.
وبمجرد أن انطلقت أول شهقة، انهار باكيًا.
كونه قضى حياته كعينة تجارب، فقد ظل جسد لودفيل نحيلًا وضعيفًا حتى بعدما بلغ سنّ الرشد، لا يُرى فيه إلا العظام.
كان مختلفًا تمامًا عمّا تتذكره أوديل.
لكن، عينيه… كانتا لا تزالان حيّتين.
تتلألآن حتى في أحلك الظلمات.
“سواء أكان إلهًا أم شيطانًا أم أيّ شيء آخر، لا يهم. لا أحتاج معجزة. فليكن عقدًا، فليكن لعنة، فقط… مرة واحدة أخرى، أرجوك…”
انهمرت دموعه الساخنة، تسيل على شفتيه.
راح يتوسّل بمرارة، كما لو كان يعصر قلبه.
“خذوا كل شيء. اسمي، ذاكرتي، روحي. فقط… أعيدوها إليّ، أرجوكم…”
في تلك اللحظة، اهتزّ الفضاء.
كما لو أن الزمن قد توقّف، التوَت الأجواء، وظهر حجر كريم يلمع وسط الهواء.
كان حجرًا أزرقَ بحجم راحة اليد.
ينبض بخفة كما لو كان قلبًا حيًّا.
“هذا هو…”
أحد المقدّسات الكثيرة التي كانت تملكها عائلة كارديل.
لقد بنت كارديل على مدى قرون صورة كونهم “أحفاد التنانين”، وجمعت الكثير من المقدسات وخزّنتها في أعماق الأرض.
وأحد تلك المقدّسات، ظهر فجأة أمام لودفيل.
ثم تغيّر المشهد.
أرض غارقة بالدماء، متناثرة ببقع حمراء في كل اتجاه.
كان لودفيل ملقى على الأرض، مغطى بالدماء من رأسه إلى قدميه.
ويده لا تزال تقبض على الحجر الأزرق.
وقد أحاط به فرسان عائلة كارديل المدرّعين بالفضة، كما لو كانوا يطوّقونه.
صرخ أحدهم بأسنان مطبقة من الغضب.
“هذا الكائن المجنون، كيف تجرأ على سرقة أحد مقدّسات العائلة؟!”
استل الفارس الواقف في المقدمة سيفه. ووجّه نصلَه نحو قلب لودفيل الملقى وكأنه ميت.
ركضت أوديل نحوه من دون أن تدري.
لكن في تلك اللحظة…
أضاء الحجر بشدة، وانفجر وميض أزرقٌ منه.
أحاط الضوء القوي بجسد لودفيل.
كما لو كان نجمًا مشتعلًا.
متلألئًا… وقاسيًا.
ثم…
اختفى كل شيء.
لا دم، ولا ألم، ولا نصلٌ يخترق الجسد.
وفي سكون الظلام، بدأ الزمن لأول مرة بالانسياب إلى الوراء.
الدماء المنتشرة على الأرض عادت تتسلل إلى جسده، والفرسان الذين كانوا يطوّقونه سحبوا سيوفهم وتراجعوا إلى الخلف.
كلّ شيء انساب كعقارب ساعة تُدار عكسيًّا.
وحين فتح عينيه من جديد…
كان لودفيل قد عاد عشر سنوات إلى الوراء.
إلى اليوم الذي بيع فيه في سوق العبيد، وسُحب إلى مختبرات عائلة كارديل تحت الأرض.
‘… حجر العودة.’
الخاتم الذي لم يكن لودفيل يخلعه أبدًا.
ذلك الحجر المدمج فيه، كان هو.
ولا أحد يعلم ما الذي جعله يعمل.
فقط، حين جثا لودفيل على ركبتيه أمام جثة أوديل في ذلك اليوم، واستغاث بصوته… استجاب الحجر.
وقد اختير، وحصل على قدرة إعادة الزمن.
“هذا مستحيل…”
عندما خاض تجربة العودة لأول مرة، أنكر لودفيل الواقع.
“… يمكنني إعادة كل شيء.”
ثم شعر بالأمل في المرّة التالية.
“يمكنني إنقاذك.”
ضحك لودفيل بفرح غامر.
“يمكننا أن نعيش معًا.”
وفي هذه المرة، فرّ بأوديل.
لكن، كعبد ضعيف بلا حول، تم الإمساك به قبل أن يغادر أراضي كارديل، وقُتل في الحال.
أما أوديل، فقد أعيدت إلى تحت الأرض.
فعاد الزمن مجددًا.
وكان الحجر قد تقلّص قليلًا.
‘عليّ أن أُقوّي نفسي.’
اختار لودفيل الهرب أولًا من عائلة كارديل.
وخدم فارسًا متقاعدًا، وهناك لأول مرة أمسك بسيف.
كان لا يقوى حتى على حمله، لكنه تدرّب حتى صار أقوى من أقرانه.
ومع ذلك، لم يكن ذلك كافيًا ليصبح فارسًا.
كرّس هذه الحياة لتعلُّم فنون السيف، واستمر في التدرّب حتى شاخ.
ثم مات، فعاد الزمن مرة أخرى.
وكان الحجر قد تقلّص أكثر من المرة السابقة.
في حياته الجديدة، أصبح فارسًا تابعًا لعائلة كارديل.
وحين حانت الفرصة، هرب بأوديل.
تسللا إلى سفينة شحن وفرّا إلى دولة أخرى، وبنيا كوخًا صغيرًا في إحدى المقاطعات الريفية.
“أوديل.”
أخرج لودفيل من جيبه زوجًا من الخواتم الفضية التي اشتراها حديثًا.
“لا أستطيع أن أقدّم لكِ شيئًا فاخرًا، ولا وعدًا عظيمًا…”
أنفق كل ما جمعه من مال ليشتري أغلى خاتم قدر عليه.
بيدٍ مرتجفة، ألبس الخاتم الأصغر في إصبع أوديل، وارتدى الأكبر في إصبعه هو.
“إنه عهد بأن أبقى بجانبك إلى الأبد.”
ثم قبّل خاتمها ببطء، وعمق.
وبوجه عاشق حتى النخاع، همس.
“… أحبكِ، أوديل.”
كان اعترافًا صادقًا، لا زخرفة فيه، مليئًا بمشاعر طاهرة.
ضمّها لودفيل بشغف، كما لو أن هذا هو آخر لحظة لن تتكرّر أبدًا.
لكن جسد أوديل، الذي عانى طيلة عمرها من الاستغلال، كان قد تحطّم تمامًا.
وفي عمر التاسعة والعشرين، رحلت.
شعر لودفيل باليأس، لكنه لم ينهَر.
لا يزال أمامه الكثير من الفرص.
‘… عليّ أن أجد طريقة لعلاج جسدها.’
بدأ يتنقّل في أنحاء الإمبراطورية، باحثًا عن علاجٍ لجسد أوديل.
لكنّ كفارس من أصول وضيعة، محدودٌ بما يمكن أن يصل إليه من معلومات.
‘أحتاج إلى قوة.’
فعاد الزمن مجددًا.
وتقلّص الحجر أكثر.
شارك في الحرب كجندي صغير.
ألقى بنفسه في المعركة دون تفكير.
لكن، وبطريقة عبثية، طُعن بسيف العدوّ ومات على الفور.
فعاد الزمن مرة أخرى.
رائحة الدم التي ملأت ساحات القتال.
صرخات تتلظّى في ألسنة اللهب.
أسماء رفاق سقطوا تحت حدّ السيوف.
مات مرارًا.
وانهار مرات لا تُحصى.
نال ألقاب البارون، والكونت، والدوق.
حتى لقب “الدوق الأكبر” بدا تافهًا مقارنةً ببعض إنجازاته التي نالها آلاف المرات.
أنقذ هذه الأرض، واحتلّ دولًا متقدّمة طبيًّا، وتعلّم السحر محاولًا صنع المعجزات.
بل وصل به الحال ليصبح زعيمًا في عالم الظلام، وارتكب أفظع المحرّمات من أجل هدفه.
لكن لم يستطع إنقاذها.
مهما فعل.
التعليقات لهذا الفصل " 5"