كانت أوديل تحدّق في الخاتم بوجه مضطرب بعدما عادت إلى غرفتها.
الخاتم الذي لم يكن يفارق إصبعَه ليوم واحد.
كانت تؤمن تمامًا بأنه رمز عهد تقاسمه مع حبيبةٍ خفيّة.
‘لكن… لماذا نُقِش اسمي عليه؟’
لم يكن هناك سببٌ واحد… حقًّا، ولا واحد فقط، يبرّر ذلك.
“لم يكن يهمّني من تكون.”
“أنتِ فقط كنتِ الأنسب من حيث الشروط.”
“أهذا كل ما في جعبتك من كلام؟”
كان قد طردها بقسوةٍ جعلت حتى الندم مستحيلًا.
إن لم تكن هناك حبيبة في حياته… فلماذا إذًا جاء يبحث عن “أوديل كارديل” بالذات؟
كان ذهنها ممتلئًا به بالكامل.
تلك النظرات الباردة التي ألقاها عليها من علٍ.
خطواته وهو يفتح باب السجن السفلي ويغادر.
قبلة يوم الزفاف.
وتلك الجملة الأخيرة التي نطق بها، بأنه “لن نلتقي مجددًا”…
وسط كل هذه المشاعر المتضاربة، مسحت أوديل الخاتم بأطراف أصابعها دون وعي.
وفي تلك اللحظة تحديدًا.
انبثق الضوء من الغرفة المعتمة.
حين خفَّضت بصرها، كان الخاتم يشعّ بضوء أزرق متوهج.
تحديدًا، كانت الجوهرة الزرقاء المثبّتة في الخاتم هي مصدر ذلك الضوء.
لطالما ظنّت أنها مجرّد ياقوتة زرقاء.
‘هل لم تكن جوهرة عاديّة؟’
إن كان كذلك…
ترددت أوديل للحظة، ثم أدخلت الخاتم في إصبعها بيد مرتجفة.
كان واسعًا جدًا، فلبث بالكاد مستقرًّا على إبهامها.
وفي اللحظة التي استقرّ فيها الخاتم…
تدفّقت إلى وعيها ذكرياتُه.
°°°
تلاشى المشهد من أمامها كما لو أنّ ضبابًا أبيض قد انتشر.
وما إن انقشع الضباب ببطء، حتى ظهرت أمامها مناظر غريبة.
أو بدقّةٍ أكثر… لم تكن غريبة تمامًا.
‘هذا المكان…’
تراجعت أوديل خطوةً إلى الوراء.
وقد شلّها التوتر وأمسكت أنفاسها.
كان المكان هو ذاته قصر آل كارديل.
المختبر السري المتّصل بـغرفة الأسرار التي قضت حياتها محبوسةً فيها.
وفجأة.
لفت انتباهها صوتُ سلاسل حديديّة تصدر طقطقة خافتة.
حين أدارت رأسها، رأت هناك فتى مقيدًا على كرسيٍّ وقد بدا في حالٍ مروعة.
كان جسده قد تلوّث بـ”طاقة الفساد”، فاسودّ جلده وتشقّق في أماكن عدة.
وشعره الأشقر المائل إلى الحمرة كان قد تلطّخ بالدماء حتّى لا يكاد يُعرَف لونه الأصلي.
لكن من بين تلك الخصلات الباهتة، لمعت عينان بنفسجيّتان، أشبه بعيون الوحوش.
‘…لودفيل؟’
اتّسعت عينا أوديلي في ذهول.
‘لماذا هو هنا؟’
تفحصت الفتى الذي بدا في منتصف سنّ المراهقة بنظرات مضطربة.
بالطبع، لم تكن أوديلي الوحيدة التي خضعت لسجن المختبر تحت قصر كارديل.
فآل كارديل كانوا يجلبون عبيدًا بشكل دوري لاستخدامهم كعينات اختبار.
ذلك لأنّ “عمليّة التطهير” التي يُحقَن بها جسد أوديلي كانت بحاجة إلى خطوات تمهيديّة.
‘لكن لو كان قد عاش طفولته هنا في مختبر آل كارديل، لما غاب ذلك عن ذاكرتي.’
فقد رأت رودفيل للمرّة الأولى منذ ستّ سنوات، في يوم الحماية.
قبلها، لم تكن تسمع عنه سوى في الأحاديث كـ”دوق الدم والحديد”.
وبينما كانت تائهة في ذهولها، بدأت تسمع حوار الباحثين:
“جسده لا يتحمل التلوّث… حضّروا العيّنة التالية.”
رنّ الصوت البارد في المكان الخالي.
وكانوا ينادون رودفيل باسم “عي-39”.
بمعنى “العينة رقم 39” التي توشك على الانهيار.
لكن الفتى لم ينطق بكلمة.
لم يصرخ، لم يتوسّل للنجاة.
كان فقط… يفتح عينيه ثم يغمضهما بصمت.
عندها.
“ولماذا لم تُعالج لعنة آل كارديل بعد؟”
“إنها تنتشر تدريجيًّا… وإن تأخّرنا، قد يبدأ آل لوينديل بالشك في حكاية الحاجز القديم.”
“علينا استخدام المُطهِّرة قبل أن يفوت الأوان.”
تتبعت أوديل أنظار الباحثين، ثم أدارت رأسها.
وهناك، كانت فتاة صغيرة ضئيلة الجسد جاثية على الأرض.
كانت… هي نفسها، في صغرها.
‘لعنة آل كارديل… أذكرها جيدًا.’
لطالما استخدموها لتطهير كل ما هو “فاسد”.
وكان معنى الفساد يتّسع لكل شيء:
اللعنات، الأمراض، الجنون، بذور الكوارث، وكل ما يُعتبر ضررًا في هذا العالم.
وفي تلك المرّة، حُقنت أوديل بلعنة آل كارديل مباشرةً.
ليتمّ تطهيرها من الداخل.
وقد ظلت تتذكرها جيدًا لأنّها كانت من أشدّ التجارب ألمًا.
تشعر وكأنّ جسدها يحترق من الداخل، وعندما تفتح عينيها تجد نفسها في مكانٍ مختلف.
المختبر… غرفة الأسرار… المختبر… وهكذا دواليك.
ملابسها البيضاء دائمًا ملطّخة بالعرق البارد، وكان من الصعب تحريك حتى إصبع واحد.
لكن…
‘لماذا لا أذكر لودفيل؟’
لم تدري متى أصبح الاثنان حبيسيْن في غرفتين تفصلهما جدار واحد.
وهو شيء لم تتذكره أبدًا.
لكن عدا تلك النقطة، كل الأحداث التي رآها كانت حقيقية وحدثت بالفعل.
كل لعنة، كل مرض، كل طاقة فاسدة…
كل تجارب التطهير التي خضعت لها…
‘هل كان لودفيل هناك فعلًا حينها؟’
قررت أن تراقب الاثنين بصمت.
لودفيل وأوديل كانا يشعران بوجود بعضهما البعض من خلف الجدار.
يتبادلان أنفاسهما.
بعض الأيام كانت صامتة، وأيامٌ أخرى كانت مليئة بالأنين.
وفي الأيام التي كانت أنفاس أحدهما فيها متقطعة، كان الآخر يعرف أنّ اليوم كان يوم تجربةٍ قاسية.
وذات يوم.
“طَرق.”
كانت أوديل جاثية على الأرض حين طرقت الجدار بأطراف أصابعها.
كانت حركةً بلا معنى.
لكن ذلك الطَرق لم يكن نهاية الأمر.
“طَرق.”
ردّ الطرف الآخر الصوت نفسه.
تجمّدت أوديل للحظة، ثم التصقت بالجدار وأعادت الطَرق، هذه المرة بقوة أكبر.
فردّ لودفيل، المستند إلى الجدار هو الآخر، الطَرق ذاته.
“طَرق، طَرق.”
بمرور الوقت، أصبحت هذه “المحادثة” الهادئة طقسًا يوميًّا لإثبات أنهما ما زالا على قيد الحياة.
إذا طرَقَ الآخر، ردّت هي.
لم يكن بينهما كلامٌ أو نظرات.
لم يعرفا حتى أسماء بعضهما البعض.
لكنّ كل يوم كانا يشعران ببعضهما من خلف ذلك الجدار.
الرباط الوحيد المسموح به.
الطريقة الوحيدة ليقولا.
“أنا ما زلت على قيد الحياة.”
وذات يوم، غاب الباحثون للحظات.
وبعد الطَرق المعتاد، سُمِع صوت غريب.
“…لا تموتي.”
لم تكن توسّلًا للنجاة، ولا عهدًا للبقاء معًا.
بل كان فقط لا تموتي.
كانت تلك أوّل كلمات لودفيل.
كانت أوديلي مستندة إلى الجدار تتنفس بصعوبة، فضحكت بخفة وأجابت:
“أنتَ من سيموت أولًا.”
“…”
“أنت لست سوى أداة تجريبية لأجلي. جلبوك فقط حتى يطيلوا عمري. …كنت تجهل ذلك، أليس كذلك؟”
تمتمت بكلماتٍ فيها شيء من الاعتراف، وكأنّها تعترف بذنوبها.
ساد الصمت.
“إذن… هذا مطمئن.”
خشيت أن يكون قد كرهها بسبب ذلك.
كانت تقضم شفتيها وتغلق عينيها بقوة حين سمعت جوابه، فتجمدت.
“…ماهو المطمئن في الأمر؟”
“يعني أنّك ستعيشين أطول مني.”
فقالت وهي تضحك بسخرية.
“وما الفائدة من العيش طويلًا في هذا الجحيم؟”
“لا أعلم… لكنكِ ستعيشين طويلًا على أيّ حال.”
كان صوته بلا أيّ نبرة، كأنّ حياته لا تساوي شيئًا.
ومضت الأيام.
كان لودفيل أحيانًا يضحك بصوت عالٍ، وأحيانًا يبكي خفيةً دون أن تسمعه.
ومنذ أن بدآ الحديث، بات أكثر تعبيرًا عن مشاعره كلّ يوم.
كل ذلك عبر جدارٍ، وصوت تنفس، وقليل من الكلمات الهمس.
وهكذا، مرّت عشرة أعوام.
أصبحت أوديل في الخامسة والعشرين من عمرها، وأحسّت بأنّ وقتها قد أوشك على الانتهاء.
وفي إحدى الليالي، بعد تحمّل جميع التجارب.
في ليلةٍ تهاون فيها الباحثون بالحراسة.
دخلت أوديل مختبر لودفيل.
“…أوديل؟”
كانت تلك المرّة الأولى التي يرى فيها وجهها.
لكنّ وجهها كان ملطخًا بالدماء حتى لم تعد ملامحها واضحة.
“أوديلي!”
ترنّحت أوديل فجأة وسقطت، فاحتضنها رودفيل تلقائيًا.
لكنها كانت تبصق الدم مع كل شهيق، وكانت أنفاسها تنهار شيئًا فشيئًا.
ومع ذلك، لم تتوقف.
“ابقَ…
فقط ابقَ ساكنًا.”
أسندت جبينها إلى صدره، ثم وضعت أطراف أصابعها على قلبه.
تألقت هالة ذهبيّة من النقاء.
سموم الدم.
آثار التجارب في أعمق الأنسجة.
كسور الطاقة، وتلف الأعصاب.
كل الألم الذي كان يشعر به عند كل نفس، اختفى في لحظة عبر “التطهير”.
ظلّ لودفيل جامدًا في مكانه، يحدّق فيها بذهول.
التعليقات لهذا الفصل " 4"