الفصل 36
‘لعلّ حالتي تُشبه حالة لودفيل…الذي يبحث عنّي بجنون، عن إنسانة مُلغاة الوجود، لا يذكرها أحد… ولا يذكرها هو نفسه.’
دفنت اوديل وجهها في صدره، كأنّها تخفي وجنتيها المتوهّجتين حُمرةً.
ثمّ همست بصوت أخفض من النسيم:
“لا أعرف…لا أعرف ماذا يجب أن أفعل معك.”
إلى النهاية…
هل عليها أن تمثّل الجهل حتى النهاية؟
لقد وُلد بجسدٍ قويّ كهذا، وكان عمره الأصليّ يتجاوز المئة عام.
ولكن كيف حصل أن تشابك قَدَره مع شيءٍ مثلي، ليعيش آلاف المرات من الموت المتكرّر؟
وأوديل وحدها… وحدها تملك القدرة على إنهاء تلك اللعنة.
كان عليها أن تتجاهل كل شيء.
ألا تفهم مَن ينتظر.
ولا لما يشعر بالانجذاب كلما نظر إليها.
وكما فعلت دائمًا…
عليها أن تتابع تمثيل الجهل، وأن تعطيه سببًا جديدًا ليعيش… بعيدًا عنها.
‘لقد قرّرتُ هذا من قبل.’
لا يجوز أن تضعف…
لا يجوز أن تتهاوى فقط لأنّها احتضنته للحظةٍ قصيرة.
وكيف لها أن تتظاهر بالعجز ثمّ تجرّه معها إلى طريق الموت مجدّدًا؟
لقد فعلت ذلك آلاف المرّات… وهذا يكفي.
الآن… حقًّا، عليها أن تتركه يرحل.
أرخَت ذراعيها ببطء عن ظهره.
“…آنستي!”
وفي تلك اللحظة، كان جنود فرقة المطاردة يقتربون منهما وهم يركضون.
“يا إلهي! ما الذي حدث هنا؟!”
“صاحب السموّ فقد وعيه… وسقط باتّجاهي.”
ومسحت أوديل كل أثر للمشاعر عن وجهها، وأخبرتهم بالوضع ببرود مُحكم.
***
بشقّ الأنفاس، فتح جفونه الثقيلة.
بدأت زخارف السقف الباهتة تتّضح في الرؤية…
سقفٌ يعرفه جيّدًا.
‘……غرفتي؟’
الغرفة يغمرها ضوء خافت.
أشعة الصباح تتسلّل بين الستائر السميكة وتلامس طرف السرير.
ملأ لودفيل صدره نفسًا طويلًا…
إلا أنّ شيئًا غريبًا في ناحية قلبه كان فارغًا… باهتًا…
كأنّه فقد العالم بأسره.
مع أنّه… لم يفقد شيئًا.
“……”
شعور مزعج… لا يمكن وصفه.
رفع يده، يلامس موضع قلبه بلا وعي.
هل سرق أحدهم قلبه بينما كان نائمًا؟
فكرة سخيفة مرت بعقله، لكنه كان… حيًّا كما هو واضح.
سقف مألوف، تعب مألوف، ألم مألوف.
كل شيء كعادته، ومع ذلك.
كل شيء بدا غريبًا اليوم على نحو لا يُحتمل.
كأنه كان يمسك شيئًا بكل قوته…لكنّ يديه الآن فارغتان تمامًا.
حدّق في كفّه، فتحها وأغلقها ببطء.
كان يظنّ أنه قبض على شيء حقًّا…
لكن، كما تنفلت حبّات الرمل من بين الأصابع، أدرك أنّه كان يمسك بالسراب مرّة أخرى…….
الشعور الوحيد الذي بقي…نبض جلده.
نبض هو وحده الحقيقة.
‘…كان هناك شيء.’
طمأنينةٌ مذهلة، كأنّ شيئًا انطبَق في مكانه تمامًا.
كأنّ الألعاب الناريّة انفجرت فوق رأسه قبل لحظة.
لكن ذهنه الآن… صفحة بيضاء.
ماذا كان ذلك الشعور؟
عمّ كان يتمسّك؟
ما الذي أراد ألّا يدعه يرحل؟
كل شيء… اختفى.
ولم يبقى إلا شوق مجنون يكاد يقتله.
أغلق لودفيل عينيه، ووضع يده على جبينه، وأمال الأخرى باحثًا في الأدراج.
يبحث عن علبة سجائره الفضيّة.
ربما لو دخّن…
سيتمكّن من النوم ثانية،فيرى تلك الأحلام العذبة…
ويمسك ولو خيالًا ممّا فقده.
لكن قبل أن تلمس أصابعه العلبة…أمسك أحدهم بمعصمه.
“صاحب السمو.”
كانت أوديل.
“……”
حدّق بها للحظة، ثمّ انخفض ببصره صوب يدها.
يد صغيرة… ناعمة…كأنها لم تعرف التعب يومًا.
مرّر إبهامه بغير قصد على ظهر يدها…
“…ماذا تفعل؟”
“أنتِ مَن أمسكتِ بيدي أولًا يا آنسة.”
“لأنّ صاحب السموّ، ما إن استيقظ، صار يفتّش عن شيء كمدمن يبحث عن سُمّه.”
قالت أوديل بحدّة صامتة.
“مدمنٌ إذن… ولهذا أمسكتِ بيدي؟”
“ولو كان كذلك.”
“إذن… هل ستكونين البديل؟”(اغععععع😭)
“ما… ماذا؟”
لحظة واحدة فقط…واختلّ اتزانها.
فقد اقترب لودفيل منها، يقارب شفتيه من يدها، كأنه سيقبّلها.
انتفضت أوديل كمن لامست النار،وسحبت يدها بسرعة.
“يبدو أنّك لم تستيقظ جيدًا بعد. أفق.”
لكنّ نظر لودفيل اتّجه نحو طرف أذنها…
بيضاء… نقية…وتتلألأ بحمرة خفيفة كبتلات خجولة.
…حقًا؟
الرماد الميت في عينيه اشتعل ببطء ..وتلألأ بلمعة صيدٍ لذيذ.
ابتسم بوقاحة خفيفة، كصيّاد وجد فريسته.
“أحم.”
في تلك اللحظة…
أطلق الطبيب الواقِف في زاوية الغرفة سعالًا قويًّا، يقطع الصمت.
“صاحب السمو، التدخين ممنوع في الوقت الحالي.”
فتغيّر وجه لودفيل، الذي كان يفكّر للتوّ كيف يلتهم ذلك الاحمرار اللطيف إلى الاشمئزاز .
“هاه؟ ومن أنت لي كي تحظر ما يعجبني؟”
“أنا طبيبك، يا صاحب السمو.”
ردّ بقسوة لا تتزحزح.
كان الطبيب حازمًا.
لكي يعمل طبيبًا لدى دوقٍ يعامل جسده كسلعةٍ مستهلكة، فلا بدّ أن يتحلّى بهذه الجرأة.
“تظنّ أنني سأستمع لهذا؟”
لكنّ لودفيل لم يكن أقلّ حدّة.
التوت شفتاه بابتسامة ملتوية… تحمل حدّة خبيثة.
وبينما تراجع الطبيب خطوة بلا وعي…
“القاعدة الخامسة من العقد:
في حال المرض أو الإصابة، يجب الإبلاغ فورًا..”
نظر لودفيل إلى أوديل بصدمة خفيفة.
وأكملت ببرود:
“القاعدة السابعة:
تُخزَّن الأدوية غير المميتة في موقعٍ مُحدّد، ولا يجوز استخدامها دون إذن مُسبق.”
وبنظرة باردة… هبطت عيناها على وجهه.
“إن كنت تريد حقًّا إبرام العقد معي… فعليك الالتزام به.”
“لم أوافق بعد.”
قالها، لكنّ عينيه لم تعد نحوها… بل نحو الطبيب.
“……قلت مؤقّتًا، صحيح؟ حسنًا، فلنمضي بهذا.”
تنفّس الطبيب بعمق، منهكًا.
لو لم تكن الآنسة تساعده…لما تحرّك هذا الرجل قيد أنملة.
ومضى يقول، متردّدًا:
“صاحب السمو…هل تتذكّر ما حدث قبل أن يغمى عليك؟”
عاد لودفيل إلى تبلّد البرود في وجهه.
“كنت أهاجم المخلوقات الشيطانية. أتذكّر أنني قتلتها كلّها.”
“…لقد كنت، بحسب رواية الآنسة، في حالة تعرّض شديد لسُموم تلك المخلوقات.
ووصلت إلى المرحلة التي تسبق التحوّل الوحشي مباشرةً.”
—-
أدعوا لي بالنجاح😭❤️
ترجمة:لونا
التعليقات لهذا الفصل " 36"