الفصل 32
في النّهاية، لم يجد لودفيل بُدًّا من أن يجرّ خلفه أوديل أينما ذهب.
‘لماذا…….’
لماذا لا يستطيع أن يتجاهل هذه المرأة؟
هل لأنّه منحها مهلة نصف شهر؟
هل لأنّه قال بلسانه:
“في تلك الفترة افعلي ما تشائين”؟
أجل، لعلّ ذلك هو السبب.
هكذا أقنع نفسه.
ولم يرد أن يتذكّر أنه رجل اعتاد أن يغيّر كلماته كما يحلو له، طالما رأى في ذلك حاجة.
على الأقل في هذه اللحظة لم يتذكّر ذلك.
ألصق لودفيل بأوديل كظلّ لا ينفكّ عنها، وهو فارسه المخلص وقائد حرسه الخاص إلدرِيك.
“إن لاحظتَ أيّ حركة مشبوهة، فلتبلّغني فورًا.”
“نعم، يا سيدي.”
راقبها جيدًا ولا تدعها تعبث. لا يُسمح لها بالتحرك منفردة. إن أفلتت من ناظريك ولو للحظة، فالمسؤولية كلها تقع على عاتقك.”
“……نعم، سيدي.”
أجاب إلدرِيك بتردّد، فقد بدا له الأمر غريبًا أن يرى لودفيل الذي كان حتّى الأمس يتأفّف من مجرد التنفّس وقد أطلق لسانه فجأة بأوامر مطوّلة.
‘إن كنت تشكّ بي إلى هذا الحدّ، أليس الأجدر أن تبقى بجوارها بنفسك؟’
هكذا فكّر في سرّه…… لكنّه لم ينطق بالامر.
فالقائد، على خلاف النائب، يعرف متى يُمسك لسانه.
ولذلك اضطرّ أن يقضي كلّ الطريق نحو الغابة تحت وطأة نظرات سيده الحادّة ورقابته الثقيلة.
حين بلغوا مشارف الغابة، توقّف ركب الحملة تلقائيًّا.
كان الشمال في عزّ شتائه.
الشمس قصيرة العمر، الرياح عاصفة، والأرض تتلقّى في صمت ثلجًا رماديًّا مشوبًا بهالة شيطانيّة.
غير أنّ مدخل غابة “أركاديا” بدا مختلفًا.
فالهواء هناك مشبع بهيمنة المخلوقات، فلا يستقرّ الثلج طويلًا فوق ترابها، إذ يذوب سريعًا.
الأشجار ملبّدة بسواد كثيف، ومن بين أغصانها يتسرّب ضباب ثقيل رطب.
اصطفّ الجنود بعد أن ترجّلوا عن خيولهم، لكن أحدًا منهم لم ينشغل بتفقد سلاحه.
“حافظوا على التشكيل. وانتظروا.”
ترك لودفيل هذه الكلمات، ثمّ دفع جواده ليخترق الغابة وحده قبل الجميع.
فمنذ البداية، كان وجود الجنود مجرد غطاء شكلي.
كلّما خرج وحده، انهالت عليه الأعين والشكوك، ولذا كان لا بدّ من تسجيل “خروج عسكري” رسمي.
ولم يمانع في مرافقة أوديل معه، لأنّه كان عازمًا منذ البداية على دخول الغابة بمفرده.
“……سيدي!”
ناداه إلدرِيك بقلق، مذعورًا من اندفاعه.
“هل ستتبعني؟ إن كنت ترغب بأن يقطعك سيفي الاعمى، فلن أمنعك.”
لم تكن تلك سخرية ولا تهديدًا، بل كانت حقيقة باردة.
فالذين يعرفون كيف يتحول لودفيل حين يمسك سيفه لم يجرؤوا حتى على التفكير في مرافقته.
ففي الآونة الأخيرة، بدا أقرب إلى كارثة طبيعية نازلة من السماء منه إلى إنسان.
يضرب بلا تمهيد، فلا يترك مجالًا للهرب.
فإن هو اندفع على صهوة جواده مخترقًا الغابة، سقطت المخلوقات الممسوخة مقطّعة الأوصال قبل أن تدرك ما جرى.
لا يُعرف له اتجاه ولا سرعة.
إن لوّح بسيفه انقسم الجسد، وإن اقترب انغرس النصل في الأعماق.
“سيدي…….”
“لا تكثر من النداء. إن كان لديك ما تقول، فقله.”
لكنّ نبرته كانت خالية من أيّ استعدادٍ للإصغاء.
‘لهذا السبب ترك مستشاره إدْوين وراءه.’
إدْوين، وحده، كان يجرؤ على مواجهته بكلمات لاذعة، أما الآن فلا أحد.
وبينما كان إلدرِيك يفتّش عن الكلمات المناسبة، كان سيده قد اختفى عن الأنظار.
ساد صفوف الجنود صمت ثقيل بدل الهمهمة.
وكأنّهم اعتادوا على هذا المشهد، فلم يتجرّأ أحد على السؤال.
“……هل يفعل هذا دائمًا؟”
سألت أوديل بدهشة، فتنفّس إلدرِيك تنهيدة طويلة وأومأ.
“نعم، هكذا على الدوام.”
“يذهب وحده؟”
وأومأ بعض الجنود القريبين أيضًا.
لقد صار ذلك لهم أمرًا مألوفًا.
“سوف يقتلع جذور “غراوتر” وحده كما فعل في كلّ مرّة. وإن نحن خالفنا أوامره وتقدّمنا، لن نكون إلا عائقًا.”
لكن، على الرغم من كلماتهم، بدت في ملامحهم غصة خفية من إرسال سيدهم وحده.
لم يكن ذلك بدافع القلق بقدر ما هو إخلاص وولاء.
“منذ ثلاثة أشهر بدأ الأمر، أليس كذلك؟”
سألت أوديل، فتوقّف إلدرِؤك متفكّرًا قبل أن تتّسع عيناه بدهشة.
“نعم. قبلها، كانت “حملات صيد الوحوش” مجرد عمليات عسكرية عادية… “
الصيد.
في أصله، هو حملة لصدّ المخلوقات التي تتسلّل عبر الحدود لحماية البشر.
لكنّ ما يفعله سيّدهم الآن شوّه المعنى نفسه، وصار سيفه يفتك على غير هدى.
رفع إلدرِيك بصره نحو الغابة السوداء التي سُمّيت “غابة المخلوقات”، وقال بوجه غائم:
“إنّه…… تعذيبٌ لنفسه.”
أوديل لم تتردّد في وضع الكلمة المناسبة.
‘لهذا جئتُ معه.’
حين التزمت الصمت، أسرع إلدرِيك يُضيف كمن يريد طمأنتها:
“لكن لا داعي للقلق، سيّدتي. إنّ سيدنا في قمّة المهارة. بل ربّما كان على المخلوقات أن تقلق هي.”
لكن أوديل لم تُبدي أيّ ردّة فعل.
ربما لأن كلمات الطمأنة لم تكن قادرة على محو ما في صدرها من شعور.
ولم يحتمل إلدريك هذا الصمت، فاندفع يحكي تفاصيل آخر حملاتهم.
“قبل أسابيع قليلة دمّر قرية كاملة كانت وكرًا للـ”بيلّوسا”. لم تمضي ساعة على اقتحامه حتّى انقلبت تضاريس المكان، ولم ينجو هناك كائن حيٌّ ولا دابّة.”
“…….”
هل يُسمّى هذا عملا بطوليا؟
أم لعلّه أقرب إلى أسطورة رعب تُروى في الظلام؟
قصص يختلف الحكم عليها باختلاف من يستمع إليها.
“……حدّثني أكثر.”
“ماذا؟ آه، نعم…….”
وبقيت أوديل تصغي بصمت إلى ما اقترفه لودفيل طوال الأشهر الثلاثة الأخيرة.
“سوف يعود ومعه رؤوس الغراوتر، كما يفعل كلّ مرّة…….”
قال إلدرِيك ذلك، فقرّرت أن تنتظر خروجه بسلام.
حتى الجنود المختصّون بالصيد أيقنوا أنّ تدخّلهم لن يزيد الأمر إلا سوءًا. فما عساه يُجدي دخولها هي؟
‘ما إن يخرج، سأطهّر جسده فورًا.’
كان القلق يعصف بها، لكنّها كتمته تحت وجه ثابت.
عندها شقّ سكون الغابة صراخ مروّع.
لم يكن صراخ بشر، بل عويلًا من وحش مذبوح، وتلاه اهتزاز الأرض.
لقد بدأ القتال.
ورغم أنّ الصوت بدا بعيدًا، إلا أنّ صورة ما يجري ارتسمت بوضوح في ذهن كلّ من سمعه.
فقد كان دويّ مذبحة من طرف واحد.
‘إذن لا داعي للقلق…….’
لم تكد أوديل تطمئن في داخلها، حتّى تبدّل وجه الخطر.
“……آه!”
شهق أحد الجنود القريبين من الغابة، وقد تمايل وكاد يخرّ.
إنّها “الهالة المسمومة”.
لقد تسلّل أثر المخلوقات خارج حدود الغابة.
“……!”
قفزت أوديل من فوق الصخرة التي كانت جالسة عليها، وخطت دون تردّد نحو المصدر.
“سيّدتي! إنّ الامر خطير!”
صرخ إلدرِيك وهو يمدّ يده ليوقفها، لكنّه توقّف فجأة.
فالضباب الرمادي، الذي أخذ ينتشر كاللعنة، بدا وكأنّه ينفر منها، ويتراجع مبتعدًا عن جسدها.
التعليقات