الفصل 30
“……لكن هذا لا يعني أنّ الذكريات قد عادت.”
“الأمر ليس بتلك الضخامة، لقد أزلتُ فقط الآثار الجانبيّة للعقار. أمّا علاج فقدان الذاكرة، فهو مستحيل.”
بدا على لودفيل شيءٌ من الخيبة، وهو يُصغي إلى شرح أوديل.
لعلّه، في قرارة نفسه، كان يأمل أن يستعيد ماضيه المنسيّ من خلالها.
‘أحلامه كبيرة، على ما يبدو…’
فمن البداية، هي لا تملك قُدرة سحرية خارقة، وحتى لو كانت تملكها، لم تكن لتساعده بها.
لودفيل… عليه أن يظلّ دون ذاكرة.
دون أيّ شيءٍ يتعلّق بأوديل.
فقط هكذا، سيقدر يومًا ما على التخلّي عن هوسه بالفتاة ذات العينين الزرقاوين…
ويعيش لأجل نفسه.
بعد ذلك، بدأت أوديلي تتبعه…
بهدوء، وبإصرار.
إن تخطّى وجبةً ما، دوّنت بدقّة ما الذي حدث قبلها.
وإن بدا أنّ شهيّته قد تأثّرت بعاملٍ معيّن، أثبتت ذلك في مذكّراتها.
حتى إن شرد أثناء الاجتماع وهو يحدّق في الأفق، سجّلت الزمن بدقّة.
بل وصل بها الأمر، إلى تتبّع عدد المرّات التي أشعل فيها سيجارته على الشرفة.
وفي تلك اللحظة، كان لودفيل متكئًا على حافة الشرفة، يُخرج من بين شفتيه الجافتين سحبًا من دخانٍ رماديّ.
“سمعتُ أنّ الأرق بدأ معك قبل ثلاثة أشهر، لكن… منذ متى بدأتَ التدخين؟”
“……”
“ومنذ متى أصبحت تعتمد عليه؟”
“……”
“كم لفافةً تدخّن في اليوم؟”
رفع رأسه ببطء.
وفي عيني أوديل، لم يكن هناك شيء…
سوى نظرة تحليل، باردة،
تمامًا كما ينظر الطبيب إلى مريضه.
ما إذا كانت تُخفي مشاعرها ببراعة،
أم أنّها بالفعل لا تشعر بشيء…
فذاك ما لم يقدر على معرفته.
“…إلى أين تنوين أن تلاحقيني؟”
“لا أعتقد أنّ الشرفة، التي بهذا الانفتاح، يُعدّ مكانًا خاصًا.”
“وهل هذا وقت هذا الكلام…؟”
قالها بامتعاضٍ وفتور، لكنّه فجأة توقّف.
ثم، بلا وعي، انتزع السيجارة من فمه، وأطفأها بعجل على الحافة.
انطفأت الشعلة بضجّةٍ خافتة،
وكأنّه يحرق شيئًا في صدره.
“ابتعدي من هنا. أنتِ، المريضة أساسًا، لا يجب أن تتعرّضي حتى لنفَسٍ من هذا الدخان.”
وبقلقٍ غريزي، لوّح بيده في الهواء، يبعثر الدخان المحيط بها.
كأنّه خاف، من أن يصل شيء منها إلى رئتيها.
كان يهمّ بطردها بلهفة،
ثم…
‘…ما هذا؟’
عبس، وقد بدأ الشكّ يدبّ في ذهنه.
فما فعله الآن، لم يكن طبيعيًا.
أطفأ لفافته بلا تفكير،بدّد الدخان بيديه،
وقال كلماتٍ تحميها…
كلّها خرجت منه دون إرادة، وكأنّما حُفرت في أعماق دماغه.
في العادة، لو تجرّأ أحد على إزعاجه هكذا، لنفث الدخان في وجهه عن عمد.
ثم نطق بكلمة “ارحل” وهو يبتسم بسخرية.
لكن… هذه المرة، كان جسده ينقلب عليه.
يتصرّف وحده، كأنّه مسلوب الإرادة.
‘سحر سيطرة؟’
لا… لم يكن كذلك.
فسحر السيطرة لا ينفع على لودفيل أصلًا،
وحتى لو أخضع له، لما خطر بباله أنّه مسحور.
هذا…
كان شيئًا آخر.
أشبه بالعادات الراسخة.
***
“أنا فقط أشعر ببعض الدوار، لا تقلق… هذا أمرٌ يحدث لي دومًا.”
“توقّفي عن الحديث، واجلسي. وجهكِ شاحب.”
“سأحرص ألّا أُثقلك بشيء… لكن، أرجوك… لن تتخلى عني، أليس كذلك؟”
“أتخلّى؟ هاه… حتى لو دفعتِني بعيدًا، لستُ واثقًا إن كان بإمكاني التخلي عنكِ.”
“لكنّني… لا يمكنني فعل ذلك.”
“…يوماً ما، ستفعلين. لكن حين تندمين، سيكون الأوان قد فات.
فقد قرّرت أن أعيش… وأنا أحتضن جثّتك.”
***
‘…من جديد.’
ذاك الهوس…
تسلّل إليه مرة أخرى.
أتُراه ماضٍ سحيق قد نُسي، أم مجرّد حلمٍ أو خيال، أم أنّها هلوسات تسبّبت بها مخدّرات نورمالين؟
لكنه يعود،كلّ مرة، بذات الوجه، وذات المشهد.
ما يعرفه على وجه اليقين…
أنّ تلك الفتاة كانت ذات عينين زرقاوين.
وأنّ عينيها كانتا دومًا تستنجدان به بلهفة.
كانت شيئًا يريد احتضانه للأبد.
لا يتركه، ولا يُسلّمه حتى للموت.
كأنّها ستنهار إن لم يُمسك بها.
كانت تسعل الدم كثيرًا، حتى اعتاد أن يحمل معه مناديل احتياطيّة في كل مكان.
صغيرة، هشّة، صامتة…
عكس أوديل تمامًا.
فلماذا، إذًا…
يرى وجهها في وجه أوديل؟
لا يفهم نفسه.
‘لا يمكن أن تكون هي.’
كلّ ما يجمع بينهما هو مرض غامض،
وعينان بلون البحر.
فقط هذا.
ولا شيء سواه.
ربّما…
ذلك المرض.
هو ما يُربكه، ويسبّب كلّ هذا الاضطراب.
“لكن، هل أنتِ حقًا مريضة؟”
بدأ بمساءلتها.
“يُقال إنّكِ لا تستطيعين مغادرة القصر…
لكنّكِ تجرّئين على إغواء اللصوص، وضربهم، وتجوبين الممرات وكأنّكِ في نزهة!”
توقّفت يد أوديل، للحظة، عن تدوين الملاحظات.
لكنّها، سريعًا، عادت لتتحرّك من جديد، كما لو أنّ شيئًا لم يُقال.
“الإشاعات دومًا تحمل شيئًا من المبالغة.”
تلك الشائعة بأنّها ضعيفة ومريضة،
لم تكن إلا حيلة من عائلتها، لإخفاء وجودها.
صحيحٌ أنّ قدرتها كانت تقتلها ببطء،
لكنّها لم تولد ضعيفة.
ما كان يبدو متماسكًا في الخارج،
كان يتآكل بصمتٍ من الداخل.
وربّما، حين يقترب موعد النهاية…
لن تقدر على إخفائه بعد الآن.
“أنا أقوى مما تظنّ. وأجل… أستطيع الإيقاع باللصوص، وضربهم أيضًا.”
قالتها بهدوء.
لودفيل، بدوره، كان يظنّ أنّها من ضرب زيك، لكنّها لم تُصحّح خطأه.
“يعني… لستِ مريضة.”
“لستُ كذلك.”
رغم أنّها تحتضر.
لو لم تُستنزف منذ صغرها، ولو لم تُجبر على استخدام التطهير…
لكانت اليوم فتاة معافاة.
لكن، هذه هي الضريبة.
فأجابت إجابةً تحمل الحقيقة… دون أن تُفصح عنها كاملة.
ابتسم رودفيل باطمئنانٍ خافت، كأنّ قوله “كما توقّعت” ارتسم على وجهه.
بل ربّما، شعر بالارتياح.
‘إذن سيكون هادئًا لبعض الوقت.’
على الأقل، لن يتشاجر معها مجددًا حول هذا.
خداع؟
‘مقارنةً بما فعله بي لودفيل عبر آلاف الدورات الزمنية…هذا لا يُعدّ شيئًا.’
صحيح أن أغلب أكاذيبه…
كانت من باب الحماية.
‘خاف أن اعرف، فاهرب.أن اعلم، فأيئس.
أن ارى الحقيقة… وافقد الرغبة في الحياة.’
لكن، مع الوقت…
سئم.
و صار يكذب بكسل ولامبالاة..
وكانت تعرف ذلك.
“على أيّ حال…أجبني عن سؤالي.
أريد تقييم حالتك بدقّة.”
“…لكنّنا لم نُوقّع العقد بعد.
لِما هذا التدخّل المبكّر؟”
رفعت أوديل دفترها، كأنّه ملفّ طبّي، وقالت بنبرة لا تتزعزع:
“حتى لو لم توقّع بعد…ما دمتَ وعدتَ بالبقاء لأسبوعين،فلا يمكنك طردي.”
“……”
رابط قناة الفصول تبعي
https://t.me/+qYEu3UlKRFJjMjk0
التعليقات لهذا الفصل " 30"