حتى لو طُردت من القصر بعد نصف شهر، بدا وكأنها كانت تُعدّ له الطعام مسبقًا، كي لا يُضطرّ لتجويع نفسه.
على الأقل، هذا ما بدا عليه الأمر من الظاهر.
‘…مُنافقة.’
ما الذي تُخطّط له؟
ذلك التصرّف الغامض، الذي لا يُظهر شيئًا من باطنه، كان أكثر ما يُثير أعصابه.
كان إدْوين يُراقب لودفيل بطرف عينه، ثم فتح فمه بحذر:
“هل تشكّ في أمرها؟”
“تسأل عن أمرٍ بديهيّ.”
“إنك نادرًا ما تهتمّ بأمر أحد إلى هذا الحد، لذا بدا الأمر غريبًا.”
“…”
“لماذا لا تذهب إليها بنفسك؟”
دارَت نظرة لودفيل الحادّة نحو إدْوين كالسهم.
رفع إدْوين كتفيه بلا اكتراث، وأكمل قائلًا:
“لا أظنّ أنّ ثمّة داعيًا لأن تنتظر قدومها إليك، يا صاحب السمو. لا يوجد مكانٌ في هذا القصر محرّم عليك.”
“…ومن قال إنني أنتظر؟”
“ها أنت تعود وتقولها مجددًا. إظهار الاهتمام أولًا لا يعني الخسارة. ففي العلاقات بين الرجال والنساء، ليس التقدّم دائمًا هو الخيار الصائب… أحيانًا، يكون التراجع هو ما يصنع الفارق.”
“اخرس.”
“نعم.”
“أعتذر، لقد تماديت قليلًا.”
ضمّ إدْوين يديه باحترام، وتراجع خطوة إلى الوراء بصمت.
حوّل لودفيل نظره عنه، ثم أمسك بفنجان الشاي الذي كان يتصاعد منه البخار الحار.
كان شايًا قيل إنّه يُساعد على النوم ويُهدّئ الأعصاب.
‘يبدو أنّها سمعت عن إصابتي بالأرق من مكانٍ ما.’
شرب منه رشفة بلا اهتمام، ثم أنزل الفنجان ببطء.
أرقه لم يكن من النوع الذي يمكن تهدئته بكوب شاي فقط.
‘أمرٌ عديم الجدوى.’
لكن، ولسببٍ ما، الحرارة التي تركها الفنجان على أطراف أصابعه لم تكن تتلاشى بسهولة.
عبس لودفيل قليلًا، وهو يفرك أطراف أصابعه.
***
“…لم تأتِي لزيارتي ولو لمرّة.”
في مكان بالكاد يُمكن تسميته بغرفة استقبال، كان يُحدّق بالجدران المتقشّرة والأثاث القديم الذي يئنّ مع كلّ حركة.
تجعّد جبينه بشكلٍ واضح.
كان وكأنّه يقول: “أحسنتِ الاختيار في المجيء إلى مكانٍ كهذا.”
“لقد قلتِي إنّكِ ستُسلّيني لمدّة نصف شهر. وهذا يعني أنّكِ ستفعلين ما يحلو لكِ أمامي، أليس كذلك؟ من المستحيل أن تجهلي هذا المعنى…”
حوّل لودفيل نظره ببطء نحو أوديلّ وأضاف:
“هل استسلمتِي بهذه السّرعة؟”
وضعت ليونا الفنجان أمامه بيدٍ ترتجف، ثمّ اختبأت خلف ظهر أوديلّ بسرعة.
‘لا يُعقل ذلك.’
بدلًا من الرّد، رفعت أوديلّ الفنجان الموضوع أمامها بكلّ هدوء.
كانت صادقة إلى هذا الحدّ لأنّها كانت تعرف الحقيقة كلّها.
فقط، ارتأت أنّ من الأفضل ألا تُثير انتباهه إذا كانت ترغب في تسليته”
الرجاء، التملّق، الإغراء، البكاء… لا شيء من هذا كان سينجح معه.
ألم يَسأم من هذا كلّه؟
فهو، بعد أن فقد ذاكرته، أصبح يبحث بجنون عن “العيون الزرقاء”، لكنه في ذات الوقت أصبح يطرد كلّ من يقترب منه بسبب تشويشه من الزيف المحيط به.
لهذا السبب، جعلته يأتي بنفسه.
“…بعد أن رأيتُ مئات العيون الزرقاء، أدركت كم أنّ هذا اللون رخيص ومنتشر.”
قال لودفيل بتحدٍّ، مُحاولًا استفزاز ردّة فعلها.
“معظمهم كانوا لا يستحقّون حتى عناء التذكّر. لذا، لمجرّد أنّكِ كارديل، أو أنّكِ صادفتِي أن نلتي استحساني، لا يجعلكِ مميّزة بأيّ شكل.”
كان يُريد أن يقول: “هل تظنّين أنّه بإمكانكِ التصرّف براحة هكذا؟”
لكن…
“وفي النهاية، أتيتَ بنفسك، أليس كذلك؟”
ردّت أوديلّ بهدوء.
من دون أيّ اضطراب أو انفعال.
كان من الواضح من انتصر في هذه الجولة.
فهو من تحرّك أوّلًا، وهو من بدا منزعجًا الآن ويُعبّر عن مشاعره.
سواء كان دافعه فضولًا، ضيقًا، أو اهتمامًا… فإنّ مجرّد إثارته لتلك المشاعر يعني أنّها ربحت هذه المعركة.
“لقد قلتَ إنّ بإمكاني فعل ما أريد خلال نصف الشهر، لذا قمتُ بما أريده أنا.”
عندها، ارتفع حاجب لودفيل بامتعاض.
“…هل أنتِ راضية؟ لأنّني وقعتُ في الفخّ بسهولة.”
كان يعلم بأنّه يُستدرج، ومع ذلك لم يستطع مقاومة المجيء.
لا بدّ أنّه كان فضوليًّا.
فقد نجحت في إرضاء ذوقه بدقّة، رغم أنّ لا هو ولا الطّاهِ عرفاه.
“كيف عرفتِي؟”
رفعت أوديلّ كتفيها بخفّة.
‘…لأنّني كنتُ زوجتك آلاف المرّات.’
تعرف ما يُحبّه وما يكرهه.
وتستطيع تخمين معظم الأمور حتى وهي مغمضة العينين.
‘وما دُمتَ تعرف عنّي أكثر ممّا أعرفه عنك، فهذه المعرفة لا تُعدّ شيئًا.’
فهو كان تعرف ليس فقط ذوقها، بل أيضًا عاداتها الصغيرة، أنفاسها، خطواتها، نبرة صوتها، وتفاصيل تفكيرها.
ربّما لا يوجد شيء عنها لا يعرفه.
كان يستطيع قراءة تعبيرٍ عابر على وجهها ويعرف ما تفكّر به، ثمّ يُخمّن تصرّفه التالي، ويُقرّر ما الذي يجب أن يفعله ليُرضيها…
كان يحلّلها في كلّ ثانية.
ولكي يُغويها في كلّ عودة، استخدم كلّ وسيلة مُمكنة.
ولهذا، كان الأمر مُضحكًا ومُثيرًا للدهشة في الآن نفسه.
فمن كان يُخطّط لكلّ كلمة ونظرة لإغوائها، أصبح الآن يستجوبها بارتباك وشكّ.
رغم أنّه فقد ذاكرته، فلا مفرّ من هذه المفارقة.
“حدسي.”
أجابت أوديلّ بتهرّبٍ بسيط.
كان يُشاع أنّ لودفيل هو الابن غير الشرعي لعائلة ارينهارد التي سقطت قبل عشرات السنين.
‘لكن كونه كان عبدًا في الماضي، فذلك سرّ لم يُفشَ أبدًا.’
مع ذلك، لم يخفِي سوى هويّته، أمّا حقيقة أنّه بدأ من القاع حتى وصل إلى مكانة الدوق فكانت ثابتة.
“بدا لي وكأنّك قد أكلتَ حساء الشعير في الماضي. ظننتُ أنّه قد يُحرّك شيئًا من حنين الطّفولة.”
حتى إن افترضنا أنّه من نبلاء سقطوا ولم يملكوا شيئًا، فمن الطبيعي أن يكون قد عاش حياةً بسيطة وأكل حساء الشعير.
“لكن طعم ذلك الحساء لم يكن عاديًّا.”
“عند مزج الحلاوة مع الملوحة، يكون المذاق عادةً مُرضيًا. إنّه نوعٌ من الحِيل.”
عندها ضاقت عيناه.
يبدو أنّه لم يستوعب كيف أنّ فتاةً مثلها -من نسل كارديل- تعرف تلك الوصفات الشعبيّة.
“إذن، فالشّيف لم يكن يملك هذا النوع من الحدس طوال الوقت، ولهذا لم يُرضِي ذوقي، أليس كذلك؟”
“…”
هل يُحاول… تحميل الشّيف الخطأ الآن؟
“شيفٌ بلا حدس؟ لا يليق بقصر الدوق. لابدّ من طرده وتعيين شخصٍ جديد.”
“…”
“همم، من الأنسب؟ هل أرشي طاهي القصر الإمبراطوري؟ أم ربّما… شيف عائلة كارديل الذي علّمكِ هذه ‘الوصفات الخاصّة’؟”
انعوجت عينا لودفيل بمكرٍ واضح.
كان يتحدّث بنبرة فكاهيّة، لكنّ التهديد في كلماته كان واضحًا.
‘هل هو جادّ؟’
حدّقت أوديلّ في عينيه مباشرة بقلقٍ خفيّ.
تلك العينان اللامعتان بالجنون.
‘…إنّه جادّ.’
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 26"