الفصل 25
“……لماذا.”
وضع لودفيل يده على جبينه، وهمس بنبرة منخفضة.
“لماذا بحق الجحيم… شيءٌ كهذا…”
عقله لا يستطيع تقبّله، لكن جسده، غريزته، تخبره ألا يقلق.
كأنما هناك شيءٌ مألوفٌ في هذا الطبق يهمس له.
‘اطمئن، هذا آمن.’
هو، الذي لا يعرف وطنًا ولا بيتًا، لماذا يشعر بشيء يشبه الحنين؟
ومع ذلك، لم يدفع الطبق بعيدًا.
بل، كأن يدًا خفيّة جذبته إليه… فأكله حتى آخر لقمة.
لم يتوقّف إلا عندما صدر صوت الملعقة وهي تلمس قاع الطبق الفارغ.
“…….”
ساد صمتٌ كثيف في المكتب.
تأمل لودفيل الطبق الخاوي.
رغم أنه أنهى كل شيء، ظل الطعم الدافئ باقٍ في فمه.
بل، وتوغّل إلى قلبه.
لم يُشبع بطنه فقط… بل تجرأ على لمس مشاعره أيضاً.
بشكل مزعج.
“……أتراها وضعت فيه دواءً ما؟”
أن يكون الطعام لذيذًا… مفهوم.
لكن أن يؤثّر على شعوره؟ هذا غريب.
“ألم تقل إن الطاهي هو من أعدّه؟”
“نعم، بناءً على وصف الآنسة.”
فكرة أن الطاهي قد تمّ شراؤه… حتى هو نفسه لم يجدها معقولة. فسكت.
حينها، قال إدوين بحذر:
“سأطلب منهم إعداد طبقٍ آخر مماثل.”
لم يرد لودفيل بشيء، لكن إدوين لم ينتظر، وخرج مسرعًا.
ظل لودفيل جالسًا مكانه، عابس الوجه.
هل جُننت؟
شعر بالغثيان، لا من الطعام… بل من اضطراب مشاعره.
لا بد أن ذلك الطبق الغريب سبّب هذا.
فوضع الملعقة على الطاولة بنفاد صبر.
***
منذ ذلك اليوم، بدأت أوديل ترسل الطعام كل يوم.
بدأت بالوجبات الخفيفة لتهدئة معدته، ثم تدريجيًا، أصبح طعامه أكثر تنوعًا وتغذية.
من الحساء إلى الحلويات، حتى الشاي…
حساء بالأعشاب وماء الغزلان، دجاج مشوي محشو بالتين والمشمش المجفف، كعكة ليمون بالروزماري، خبز بالعسل والكريمة، شاي مزيج من الكاموميل والزنجبيل…
رغم أن الطاهي هو من أعدّ كل شيء، لكن من الواضح من أين جاءت الوصفات.
“مجرد خبز عادي… فكيف تحرّك فيّ شيئًا؟”
لطالما أكل دون رغبة.
حتى عندما يكون جائعًا، الطعام لم يعد له طعم. كان يأكل فقط ليستمر على قيد الحياة.
لكن الطعام الذي ترسله أوديل… كان مختلفًا.
أمامه الآن سكون دافئة، ما زالت تفوح منها رائحة الزبدة.
نظر إليها بتمعن.
“ما الذي وضعته فيه؟”
فردّ الطاهي، وكأنه كان ينتظر السؤال:
“زبدة من مزرعة ‘مورنينغ بيل’، عسل من متجر ‘هانيليان بوتيك’، وكريمة من مصنع ‘هايمبير’.”
“كل هذا أوصت به بنفسها؟”
“نعم، أليس مذهلًا؟ يبدو أنها جرّبت الوصفة مرارًا… فهي تحفظ كل شيء عن ظهر قلب.”
النكهة كانت غريبة لكنها مألوفة.
وفي كل مرة، يتردّد لودفيل قبل أن يبدأ الأكل.
لكنه في النهاية… ينهي كل شيء.
ويأتي ذلك الشعور الغريب بالسكينة.
الفراغ والغضب، اللذان كانا ينهشان روحه كل يوم، يختفيان للحظات.
وكأن هذه الوجبة… تغطّي شيئًا مكسورًا داخله.
اللعنة.
لم يعد يستطيع إنكار أنه اعتاد طعامها.
هل هذا أسلوبها في التسلل؟ تبدأ بالمعدة؟ ماكرة…
أن تُسقط حصونه من المطبخ؟ هذه خيانة!
شعر وكأنه خُدع.
عندها، سأله إدوين، وهو يراقبه:
“لا أظنني رأيتك تستمتع بطعامك من قبل، سيدي.”
“كنت آكل جيدًا سابقًا أيضًا. لم أكن صعب الإرضاء.”
أجاب لودفيل، ونظره ثابت. لم يكن يكذب.
حتى قبل ثلاثة أشهر، كان يأكل بشهية جيدة.
لكن إدوين هز رأسه وقال:
“نعم، كنت تأكل، لكن لم يكن يبدو أنك تستمتع. أما الآن…”
توقف لحظة، ثم أضاف بابتسامةٍ .
“أظنّك تنتظر موعد الوجبة القادمة، أليس كذلك؟”
أراد لودفيل أن ينكر.
لكنه… لم يجد ما يقول.
فالتزم الصمت.
أشار إدوين إلى السكون، وسأله بفضول:
“أهي لذيذة حقًا؟”
تأمّل لودفيل القطعة، ثم مدّ يده وقدّم واحدة لإدوين.
“جرّبها.”
“حقًا؟! شكرًا جزيلًا!”
تناولها فورًا، وقد اشتعلت عيونه بفضول صادق.
ما الذي يجعل سيده، الذي كان يعيش على الخمر، يعود إلى الطعام؟
أخذ قضمة… ثم عبّر عن رأيه.
“هممم… طيبة.”
كانت فعلًا شهية. دافئة، ناعمة، زبدانية.
لكن…
“لذيذة، لكن لا أظنها مذهلة.”
رفع حاجبيه بحيرة، فلم يفهم لماذا بدت تلك السكون استثنائية لسيده.
“أبدو الوحيد الذي يشعر بذلك، إذن.”
“لا! لا أقصد أنها ليست شهية!”
لوّح إدوين بيديه سريعًا.
لكن لودفيل لم يكن يختبره.
بل أراد أن يعرف…
هل أنا وحدي أشعر بذلك؟
“إذن ليست نكهة يفضّلها الجميع.”
“نعم، يمكننا قول ذلك.”
“ذلك يعني… أن تلك الفتاة ركّزت على ذوقي أنا فقط.”
كل طبق، بلا استثناء، كان مثاليًا بالنسبة له.
هل… درست ذوقي؟
ثم توقّف تفكيره فجأة.
على أي أساس؟
من أين عرفت هذه التفاصيل؟ حتى الطاهي لا يعرفها.
كان من الأفضل لو أنها جاءت بنفسها، وادّعت أنها الوحيدة القادرة على إشباعه… لكان تفهّم.
لكنها كشفت كل الوصفات.
والطاهي ينفّذ بدقّة.
يعرف كل المقادير وكل الخطوات.
ومع الوقت، سيستطيع إتقانها دون الحاجة لها.
وهذا ما لم يفهمه لودفيل.
أوديل تتصرّف وكأن كل ما يهمّها هو أن… يأكل فحسب.
التعليقات لهذا الفصل " 25"