الفصل 24
صمت الطاهي الرئيسي لحظة، وكأن لسانه قد عقد.
لكنه سرعان ما قرأ في عيني أوديل الزرقاوين يقينًا لا يتزعزع.
‘لا بد أن لديها سببًا يجعلها واثقة هكذا.’
وحين أعلنت أوديل أنها ستتحمّل كامل المسؤولية، تردّد الرجل قليلاً… ثم اتخذ قراره بنبرة عزيمة ثقيلة:
“……حسنًا. سأُعدّ الطبق كما طلبتِ، آنستي.”
ثم التفت إلى مساعديه وأمرهم.
“جهّزوا التوت الأسود، وتوت العليق، والشعير.”
اللحم المدخّن كان متوفّرًا، لكن التوت البري والشعير لم يكونا من المكونات المعتادة في مخزن القصر، مما استدعى سرعة في توفيرهما من الخارج.
أما أوديل، فغادرت المطبخ بهدوء حتى لا تُعيق عملهم.
فهي، رغم كل شيء، تبقى غريبة في هذا القصر، ولا يمكنها التدخّل أكثر من ذلك.
لم يتبقَّ إلا شيء واحد…
أن يُقدم لودفيل على تذوّق تلك الملعقة الأولى.
وما عدا ذلك… لم يكن لها سوى أن تراقب بصمت.
***
طرقٌ خفيف.
“قلتُ إنني لا أريد شيئًا.”
قالها لودفيل بنبرة باردة، وكأنه كان يعرف مسبقًا من الطارق، ولم يُخفِ ضيقه.
“……سموك.”
كان الداخل هو الطاهي، كما توقّع تمامًا.
دخل حاملًا صينيةً فضية بحذرٍ ظاهر، لكنّه توقّف عند العتبة عندما لم يجد ترحيبًا.
أما لودفيل، فلم يرفع حتى رأسه عن الوثائق أمامه، ولوّح بيده بإهمال:
“أخرج.”
عندها، اشتعلت عينا إدوين، سكرتيره الشخصي، بنفاذ صبر.
“ألم تتناول فطورك بعد؟ على الأقل افعل الآن! كيف تطرد الطاهي كما لو كان حشرة؟!”
وقع بصره على الزجاجة والكأس شبه الفارغ فوق الطاولة.
خمر بدلًا من الطعام… مجددًا؟!
بلغ الغضب حلقه، وكاد أن ينفجر… لولا أن الطاهي تردّد قليلًا، ثم قال بصوت حذر:
“لا رفضت الطعام مجددًا… فقد طلبت الآنسة كارديل أن أقدّم لك هذا الطبق.”
بمجرد ذكر هذا الاسم، تغيّرت ملامح الرجلين معًا.
اتّسعت عينا إدوين، وارتفع حاجبا راشيلفيل بدهشة طفيفة.
“…الآنسة كارديل؟”
همس كأنما يخاطب نفسه.
تلك الفتاة التي منحها فرصة ممتعة لمدة أسبوعين، فحبست نفسها في الجناح الجانبي ولم تُرَى منذ أيام.
سخر ضاحكًا.
“ها!”
ظنّها اختبأت من الرعب… لكنها، بدلًا من ذلك، ألقت القبض على لصّ؟
تتحرّك هنا وهناك بفضول، لكن لا أحد يعرف ما الذي تفعله بالضبط.
“يبدو أنها… قلقة بشأن سموك.”
أضاف الطاهي، بنبرة خافتةٍ لم تخلُ من رأي شخصي نادر.
حتى هو نفسه، لم يستوعب الأمر بدايةً.
ظهور فتاةٍ من الخارج فجأةً في مطبخ الدوق، وبدأت تتحدث عن قائمة الطعام؟ أمر لا يُصدّق.
لكنها قالت إنها ستتحمّل المسؤولية كاملةً، وبدت واثقة…
أما نيّتها، فكانت مسألة أخرى.
الطاهي، في قرارة نفسه، لم يهتم إن كانت جاسوسة أو لا…
ما دام الدوق سيتناول طعامه.
“هاه.”
ضحك لودفيل بسخرية من نبرة الطاهي المتعاطفة.
هل فقد الجميع كرامتهم؟
كيف يقبل طاهٍ أن تتدخّل فتاةٌ غريبة بالكاد وطأت القصر؟
‘كبير الخدم بدأ يفقد صوابه، والآن حتى الطاهي صار يطيعها؟’
سخيف.
منحها فرصةً لأسبوعين، لكنها تلهو بتجنيد الآخرين؟
قالت إنها تسعى خلف السلطة، فهل هذا نوع من المناورة؟ لكن…
‘لا يمكن أن تكون بهذا الغباء حتى تظن أن القرار ليس بيدي.’
لو كانت مثل باقي النساء، لألحت عليه يوميًا ولم تفارقه لحظة.
‘أقلّه كانت ستحضر الطعام بنفسها، وتتباهى بأنها أعدّته لي.’
رمق لودفيل طبق الطعام المغطّى بازدراءٍ صامت.
طويلًا… دون حركة.
وأخيرًا، قال بفتور:
“…ضعه واغرب عن وجهي.”
انحنى الطاهي صامتًا، ثم غادر.
وساد الغرفة صمت ثقيل.
لم يبقَى سوى طبق حساء الشعير، وحيدًا على الطاولة.
رفع الغطاء.
انبعث منه بخارٌ دافئ، وانتشرت رائحةٌ لذيذة ببطء في الغرفة.
كان الحساء صافياً، حبيبات الشعير لم تذب لكنها كانت لينة، وفوقها شرائح رقيقة من اللحم المدخّن موضوعة بعناية.
عند الحواف، بضع حبات من توت العليق والتوت الأسود… ويُغمر كل ذلك بخيط رفيع من العسل اللامع.
“…ما هذا، طعام كلاب… كح.”
كاد إدوين أن يتفوه بتلك الكلمة، لكنه تدارك نفسه وسعل فجأة.
لم يُكمل، لكن المقصود واضح.
“هل هذا حساء كلاب؟”
حقًا، كان الطبق يبدو فقيرًا لا يليق بمائدة دوق.
لا بطبق نبلاء، بل كوجبة فطور لفلّاح بسيط.
أن تأتي فتاة من عائلة كارديل، وتقترح بنفسها طبقًا كهذا؟ مستحيل.
إنها بلا شك مؤامرة حقيرة-
“همم… سموك، هل أخطأت بشيء كبير بحق الآنسة؟”
“…….”
“أعني، ربما… تكنّ لكم كراهيةً دفينة؟”
لكن لودفيل لم يُجبه.
شعور غريب، مألوف ومزعج في آن، تسلل إلى أعماقه.
شيء ما في هذا الطبق، في هذا المنظر… يحرّك شيئًا قديمًا في داخله.
وبعد صمتٍ طويل، التقط الملعقة.
أخذ أول لقمة.
فجأة، انفجرت نكهة اللحم المدخّن المملّح، وأغمرت لسانه بأمواجٍ عميقة.
تلاها طراوة الشعير وسلاسته، تملأ الفم بلطافة.
ثم تسلّل طعم التوت بخفة، محدثًا توازنًا مدهشًا.
تفجّرت حبيباته على اللسان، ومنحت الطبق حيوية ناعمة، واختتمت بلمسة خفيفة من عسلٍ ذاب كالحلم.
كل النكهات-المالحة، العطرة، الحمضية، الحلوة-امتزجت بانسجام.
لا شيء نافَر الآخر.
“لماذا…؟”
لماذا هذا لذيذ؟
عبس لودفيل، وتناول ملعقة أخرى.
صحيح، حساء الشعير مألوفٌ منذ أيام العبودية.
لكنه لم يذق مثل هذا المزيج من قبل.
غريبٌ… ومريح.
غريبٌ… ومألوف.
ليس لديه ذكرى بهذا الطبق، لكنه مع ذلك… لم يشعر بأي نفور.
بل، بدا له وكأنه يذكّره بموطنٍ لم يعرفه قط.
بحنينٍ لا يعرف مصدره.
رفع الملعقة مجددًا. ثم مرة أخرى.
طراوة.
دفء ينزل في حلقه.
ثم… توقف فجأة.
جسده ارتعش بخفّة، كما لو كان شخصًا جائعًا منذ دهور وتذوّق أوّل لقمة حقيقية في حياته.
لكن ما أحسّ به… لم يكن جوعًا.
بل كانت… شظايا مشاعر ضائعة، لا تعرف طريقها، تتخبّط بلا هدى داخل قلبه.
التعليقات لهذا الفصل " 24"