الفصل 22
“منذ متى بدأ في تدخين تلك الأشياء؟”
“منذ شهرين… لا، اقتربت من الثلاثة أشهر. كان يعاني من الأرق سابقًا، لكن لم يكن بهذه الخطورة.”
ثلاثة أشهر.
تمامًا بعد أن عادت أوديل بالزمن.
‘…السبب واضح تمامًا.’
حدّقت أوديل بقلقٍ في العلبة التي رتّبت فيها السجائر الملفوفة بعناية.
هل يمكن حقًّا اعتبارها مهدّئًا للنوم؟
ربّما كانت ضرورةً لا مفرّ منها، إذ لا يستطيع الإنسان الاستمرار دون نوم…
لكنّها كانت أقرب إلى آخر وسيلة تُستَخدم لدفع إنسانٍ يتحلّل دون وعيٍ إلى الفراش، لا أكثر.
“ألم يكن هناك أيّ بديل؟”
“للأسف… لا. وسموّه يعلم جيّدًا أنّها ليست حلاًّ جذريًّا. لكن من دونها… يعاني كثيرًا.”
تردّد كبير الخدم للحظة، وكأنّه اختار كلمة كثيرًا كبديلٍ مُلطّفٍ لكلمةٍ أكثر فظاعة… ربما يخرج عن السيطرة.
“سموّه لا يهتمّ لنفسه على الإطلاق.”
كان خادمًا دقيقًا، يهتمّ حتّى بصحّة أوديل.
فكم من الصراع الداخليّ خاضه ليصل إلى مرحلة يُقرّر فيها أن يُساعد سيّده على تدمير نفسه؟
راقبت أوديل كبير الخدم وهو يعيد آخر سيجارة إلى العلبة بحذر، وتولّد في داخلها تصميمٌ قاطع.
‘مهما كلّف الأمر… عليّ أن أُجبره على توقيع وثيقة الزواج.’
بأيّ وسيلة، بأيّ حيلة.
فقط بذلك، يمكنها الدخول إلى حياته اليوميّة، وامتلاك الحقّ في لمس ما يُحطّمه.
***
تلك الليلة.
ظهرت الأعلام من أقصى الجليد في الغرب.
سلاح الفرسان، بردائه الأسود، شقّ طريقه عبر العاصفة الثلجيّة.
وفي المقدّمة، كان رجلٌ يبدو عليه الكسل، يمتطي صهوة جواده.
لودفيل لودفيل إكسيبسيون.
حتى في عودته هذه، كما في كلّ مرّة… عاد متشحًا برائحة الموت.
دروعه ملطّخة بدمٍ قانٍ متجلّط، وكان السائل اللزج لمخلوقات الظلام يقطر من غمد سيفه.
خلع خوذته بيدٍ واحدة، وقفز عن جواده دون تردّد.
خلع قفّازاته الملطّخة، ولوّح برأسه فقط ردًّا على تحيّة الجندي دون أن ينطق بكلمة.
“هل حدث أمرٌ ما داخل القلعة؟”
“لا، لا شيء يُذكر يا سموّ الدوق.”
كان قائد الحرس على وشك أن يكتفي بالرد، قبل أن يضيف فجأة.
“آه… نعم، لقد وقعَت حادثة سرقة.”
“سرقة؟”
“نعم، خادمٌ تمّ كشفه بعد أن اختلس طوال عشر سنوات. قبض عليه أثناء محاولته سرقة أشياء ثمينة.”
توقّف لودفيل للحظة.
“ولمَ تُبلغني بشأن لصّ تافه كهذا؟”
كان أمرًا يمكن لقائد الحرس أن يُعالجَه وفقًا لقوانين الدوقيّة، دون رفعه إليه.
“من أمسك باللص… كانت الآنسة.”
“……ماذا؟”
بمجرد أن سمع ذلك، خطرت في ذهنه صورة تلك الفتاة التي اقترحت عليه زواجًا بالعقد.
> “الدوق يواجه مشاكل داخليّة وخارجيّة كثيرة، بالإضافة إلى موقعه المتقلقل بين النبلاء… أظنّ أنّني أستطيع مساعدتك، وبقدرٍ ليس بالهيّن.”
تذكّر شفتيها الشاحبتين وهي تتحدّث بتلك النبرة الهادئة الرصينة… الصوت ما زال يتردّد في أذنه.
“أمسكت به وحدها…؟”
استمع لودفيل لتفاصيل الواقعة من قائد الحرس، وظلّ واقفًا مذهولًا.
الشمال هو أرض المحاربين.
جميع من في هذه القلعة، رجالًا ونساء، يعرفون استخدام السيف.
كان بإمكانه إرسال جنديّ مدرّب، أو بوّاب بسيط، أو حتى خادمة مارة… وكلّهم كانوا أقوى من هذه الآنسة المريضة.
ومع ذلك… استدرجت اللصّ، وأمسكت به.
بل وكان اختلاسُه خفيًّا طوال عقدٍ من الزمن.
عندها، أضاف قائد الحرس بتحفّظ.
“…لكن يبدو أنّ اللص حاول قتل الآنسة أثناء الواقعة.”
في تلك اللحظة، بدا كأنّ العالم سكن تمامًا.
صوتُ التنفّس، ملامحُ قائد الحرس المقابل له… كلّها انزاحت كأنّها خلف زجاجٍ ضبابيّ.
كلّ ما تبقّى في ذهنه هو تلك الجملة.
أنّ الآنسة كارْديل كادت تُقتل.
مدّ يده ببطء إلى القفّاز الذي رماه، وأخذه.
ضغط أصابعه داخله بقوّة، إصبعًا إثر إصبع.
“ذلك اللص… سأستجوبه بنفسي.”
ابتلع الجنود أنفاسهم.
الرجل الذي لا تهتزّ شعرة منه أمام وحوشٍ ضارية، لم يُخفِي هذه المرّة نيتَه في القتل.
دون أدنى تعبير على وجهه، مشى باتجاه السجن السفليّ.
وفي أثناء طريقه، طرأت فكرة على عقله، كوميض.
‘…لماذا يزعجني هذا الأمر إلى هذا الحد؟’
إنه مجرّد خادم خائن.
لم يكن قاتلًا مأجورًا، ولم يكن يستهدف الآنسة بالذات.
إنسانٌ جبان، مدّ يده لضعيفٍ يراه أدنى منه.
نفاية، لا أكثر.
فلماذا… هذا الغضب الحارق؟
‘حتى لو كان قاتلًا يستهدفها، فما شأني أنا؟’
كان قد قرّر حمايتها لأسبوعين فقط.
وإن وقع لها مكروه، فسوف يُزعجه الأمر فحسب.
وحتى لو كانت تلك مشاعره، فببساطة، عليه أن يُصدر عقوبة مشدّدة فحسب.
لكن… لماذا يشعر وكأنّ دمه يغلي؟
أغمض عينيه بهدوء.
مشاعر لا يمكن تفسيرها عقلًا… كانت ترفع رأسها رغما عنه.
ثمّ… عادت تلك الصّداع المألوفة، المزعجة.
“……”
فتح لودفيل عينيه.
وكانتا خاليتين تمامًا من أيّ تردّد.
ثمّ أكمل سيره، يهبط إلى سجنٍ غارقٍ في الظلمة.
‘هل كانت الأسباب مهمّة أصلًا؟’
منذ متى أصبحت لتلك الأمور قيمة؟
حين تريد… فقط افعل.
وفي منتصف الليل، لم تكن هناك صرخات استغاثة أو توسّلات تتردّد من الزنزانة.
بل… فقط صوت التمزّق.
عظامٌ تتكسّر، لحمٌ يتمزّق.
ثمّ صمتٌ مهيب… كقبرٍ نُسي في ظلامٍ أبدي.
***
وصل خبر عودة لودفيل في صباح اليوم التالي، مع بزوغ أولى خيوط الشمس.
“على ما يبدو، لم يكد يصل حتى صنع مأثرةً أخرى.”
تجنّبت ليونا ذكر التفاصيل.
كانت تتحاشى وصف ما حدث لجايك في الزنزانة.
تردّدت قليلًا، ثمّ قالت بتحذيرٍ لطيف.
“إن كان سموّه قد تدخّل بنفسه… فمهما حصل، لا تقتربي من السجن السفليّ.”
وهزّت رأسها بيأس.
‘…على الأغلب كان تعذيبًا.’
ولم تسأل أوديل أكثر.
لم يكن هناك داعٍ، فقد شعرت أنّها تعرف الجواب سلفًا.
لكن ما أثار فضولها… هو تدخّل لودفيل في أمرٍ تافهٍ كهذا.
في حياته السابقة، كان يقيّم البشر كموارد، ويتّخذ القرارات الأمثل بلا رحمة.
صحيح أنّه لم يكن أمرًا ممدوحًا، لكنّه كان واضح الهدف.
الهدف كان إنقاذ أوديل.
أما الآن… فلا هدف له. فقط يدور في دوّامة فقدٍ وغضب.
هشّ، مهدّدٌ بالانهيار في أيّ لحظة، دون سابق إنذار.
وكأنّه قد ينهي حياته بهدوء، وسط يومٍ عاديّ تمامًا.
وهذا ما كان يُرعب أوديل بشدّة.
‘عليّ أن أبدأ بحلّ مشكلة الأرق… بأيّ شكل.’
التعليقات لهذا الفصل " 22"