“……ما هذا؟”
الوزن الذي كان يسحق أطرافه، أصبح خفيفًا بشكل لا يُصدّق.
أعضاؤه المتعفّنة بدأت تتعافى، ولحمُه الذائب نبت عليه جلدٌ جديد.
كان ذلك، بلا شك، تعافيًا.
أيعقل أنّ هذا الجسد القويّ بشكل سخيف بدأ مجدّدًا يُرمّم نفسه تلقائيًّا؟
كان قد غطّى نفسه عمدًا بسمٍّ قاتل، فقط ليرى الهلوسة التي تحمل عيونًا زرقاء… فهبّت عليه موجة من الغضب المفاجئ.
لكن… لم يكن ذلك هو المهمّ.
ما يهمّ…
لودفيل قبض على صدره بغريزة فطريّة.
شيءٌ ما، شيءٌ ما كان يوشك أن يتلاشى من داخله.
لم يعرف كنهه.
لكنّه كان بكلّ تأكيد إحساس الفقدان.
شيءٌ عزيزٌ للغاية، كان يتسرّب من بين أصابعه دون استئذان…
شعور وكأنّ عموده الفقري يُنتزع.
وكأنّ مركز العالم يهتزّ.
كان الوحش يصدر زمجراتٍ أمامه وينفث نفَسه، لكن أذنه لم تلتقط شيئًا.
كان يمدّ يده إلى مكانٍ ما في أعماق ذاته، مدفوعًا بالبديهة.
يجب أن يمسك به.
لا يجوز أن يدعه يفلت.
لم يعرف شيئًا، لكن كان هناك أمرٌ واحد مؤكّد.
ذلك الشيء الضئيل والضعيف، الذي يحاول الهرب منه بإرادةٍ خاصّة، لا يجب أن يتركه يذهب.
لودفيل، وهو يقاتل الوحوش، كان يخوض معركةً أخرى في ساحة غير مرئيّة.
لا يعرف ما الذي يحاول التمسّك به.
ثمّ…
حين أحسّ بشيءٍ بالكاد يتعلّق بأطراف أصابعه…
“وجدتُه.”
قبض عليه بقوّة، على شيءٍ يكاد ينقطع بين يديه.
كمخالب الذئب، تمسّك به.
وحتى وقد أحسّ بأنّه يوشك على التحطّم، جذبه إلى صدره بحدسٍ ملتهب.
وفي اللحظة نفسها، دبت حرارةٌ من جديد في أعماقه.
الارتباط بينهما لم ينقطع.
أخذ لودفيل نفسًا عميقًا.
كما لو أنّه خرج للتوّ من تحت الماء، واستنشق الأوكسجين بعد طول حرمان.
“هاااه…!”
ضحك بسعادة، ورفع سيفه عاليًا.
ثمّ، بعينين تتوهّجان بالجنون، سحق الوحشَ أمامه سحقًا.
الوحوش، الرازحة تحت ذلك القوّة الكاسحة، لم تعد ملامحها تُعرَف.
“لا، لا يصحّ هذا.”
ضحك بصوت منخفض.
ضحكة غريبة، فيها مزيج من الابتهاج والارتياح.
“تظنّ أنّني سأدعك تهرب؟”
تمتم بكلمات لا يدري إن كانت موجّهة إلى الوحش… أم إلى أحدٍ آخر… أم إلى نفسه.
ثمّ، تمامًا كما كان مقررًا، راح يقطع الوحوش واحدًا تلو الآخر.
تحت شعار تطهير المقاطعة، أمطرهم بعاصفة من الضربات.
رغم أنّ أيّ ناظر كان سيُسمّي ما يراه مجزرة لا غير…
إلّا أنّه، إن كان القضاء على كلّ شيء يُعدّ تطهيرًا… فذلك كان تطهيرًا كاملًا، بكلّ المقاييس.
*
**
‘يبدو أنّه… يجب أن أردّ له الجميل.’
منذ أن خرجت أوديل من قصر آل كارديل قبل ثلاثة أشهر، راحت تدّخر النقود بهدوء.
نالت بعض المساعدة من لودفيل.
أو بالأحرى، من ذكرياته.
جرارٌ نادرة من خزّاف القصر الإمبراطوري، كانت مدفونة في التراب…
كتبٌ عتيقة تُباع ببخس في أحد المتاجر…
عملاتٌ ذهبيّة فُقدت من أصحابها…
‘كنتُ أنوي استخدامها للاستقرار…’
لكنها لم تعد بحاجة إليها.
باسم الزواج بعقد، كان عليها أن تظلّ بجانب لودفيل، تراقبه وتحرسه حتى لا ينهي حياته.
أخرجت المال القليل الذي جمعته، وبدأت في إعداد هدايا لهما.
طلبت خيوطًا حريريّةً وثوبًا فخمًا من أجل ليونا…
‘…لكنه لا يليق بها.’
قضت يومًا كاملًا في تطريز شيءٍ على القماش، لكن النتيجة كانت… كارثيّة.
لو قدّمته كهدية، لأوحت وكأنّها تُعلن نهاية العلاقة.
تردّدت أوديل قليلًا، ثمّ طوت المنديل بعناية مجددًا.
لكن، ويا لسوء التوقيت، دخلت ليونا إلى الغرفة في تلك اللحظة.
“ياااه، ما هذا؟”
“لا شيء… مجرّد قطعة خرقة…”
“لكن… اسمي مطرّز عليه!”
“……”
أخذت ليونا المنديل بكلّ احترام، وقالت بجدّيّة نادرة:
“سنجعله إرثًا يتوارثه أبناء عائلتنا.”
ضحكت أوديل بخفة وهزّت رأسها، وكأنّها تقول.
‘لا فائدة من محاولة إيقاف هذه الفتاة’.
نعم، هكذا كانت دائمًا. لا تتغيّر.
ثمّ، حملت أوديل الهدية المُعدّة لثيودور وتوجّهت إلى مكتبه.
طرقت الباب.
“هل لديك دقيقة؟”
“……آنسة؟”
ظهر وجه ثيودور خلف الباب، وبدت عليه لمحة من الدهشة.
ناولته الصندوق بحذر.
“شكرًا على المعطف. لا أعلم إن كانت ستفي، لكن… أعددتُ لك هذه.”
أخذ الصندوق دون كلمة.
فتح الغطاء… فظهر سنّ قلمٍ محفور بدقّة من حجرٍ سحري.
نُقشت عليه تعويذات دقيقة، وكان نواة الطاقة تتوهّج بنورٍ لطيف داخل الذهب الأسود.
“إنّه أداة سحريّة للكتابة. يُخفّف من آلام المعصم، وإن ضغطت هذا الزر، تتغيّر الألوان لفرز المستندات بسهولة.”
ربّما لم يتوقّع أن تردّ له المعروف.
ظلّ يحدّق في القلم طويلًا دون أن ينبس بكلمة، ثمّ انحنى بخفوت.
“……شكرًا لكِ، آنستي. هذه هدية لا أستحقّها.”
نبرةٌ مخنوقة خرجت منه.
أكثر تأثرًا ممّا كانت تتوقّع.
شعرت أوديل بشيء من الحرج، فحرّكت عينيها… لتشمّ عندها رائحةً غريبةً خفيفة داخل الغرفة.
نظرت حولها… فرأت على الطاولة صينيّة وأدوات مجهّزة.
أوراقٌ جافّة، ورقٌ رقيق، خيط، وعدد من السجائر الملفوفة مسبقًا.
“ما الذي كنتَ تفعله؟”
سألت بحذر.
بفضل عملها السابق كمعالجة، كانت معتادة على الأعشاب.
الأوراق تلك كانت من نبتة “نورمالين”.
عشبة شهيرة في علاج الأرق الشديد، لكنّ آثارها الجانبيّة كانت فادحة إلى درجة نادرة الاستخدام.
تردّد ثيودور قليلًا، ثمّ تنفّس باعتراف مضطرّ.
“يبدو أنّ جرعات الدوق قد نفدت، فبدأت بتحضير كمية جديدة قبل عودته.”
“…لكنها ليست عقارًا بل… سجائر؟”
اقتربت أوديل خطوة، ونظرت في الصينية.
من الواضح أنّها للتحميص والاستنشاق.
” العقارات لم تُظهر نتائج فعّالة ضد أرق سموّه.”
قال ذلك بتنهيدة، بينما كان يُنهي لفّ سيجارة بالخيط.
“يبدو أنّه لا يقدر على النوم إلّا باستنشاق الأعشاب بهذه الطريقة.”
“لكن نورمالين… أليس من المعروف أنّ آثاره الجانبيّة مروّعة؟”
“بلى، هذا صحيح.”
أومأ كبير الخدم بإذعان، كما لو كان يعلم الأمر مسبقًا.
ثمّ تابع، وقد غاص صوته في تنهيدةٍ ثقيلة.
“التخَدر، وغياب التركيز، وفي حالاتٍ متطرّفة… فقدان الذاكرة. ومع ذلك، بدون هذه العشبة، لا يستطيع النوم بدونها إطلاقًا…”
سادت لحظة صمت.
‘إلى هذه الدرجة…؟’
كانت حالته أسو
أ بكثير ممّا كانت تتخيّل.
‘…حتى حين كان يُكرّر الزمن لآلاف المرات، وقال إنّه فقدَ صوابه، لم يكن بهذا الشكل.’
ذلك الرجل في ذكرياتها أيضًا عانى ليالٍ بلا نوم.
لكنّه لم يكن منهارًا إلى حدّ أنه بحاجة إلى تخدير عقله ليُغمض عينيه.
التعليقات لهذا الفصل " 21"