2:
كانت سماء الشّمال رماديّة كعادتها، تتساقط منها ندف الثّلج متناثرةً مع ريحٍ عاتية.
كان العَلم الأسود يهبط ببطءٍ على أنغام مرثيةٍ متقشّفة.
“أليست هي ابنةَ أسرة كارديل؟”
“ألم يقولوا إنّها اختفت بعد الطّلاق، ولم يُعرف ما إذا كانت حيّة أو ميّتة؟”
“يبدو أنّها كانت على قيد الحياة. حين كان والدها يبحث عنها بجنون، لم تُظهر حتّى ظلّها…”
“أليس علينا إبلاغ دوق كارديل بذلك؟”
“لكن… ما ذلك المظهر؟”
لم تدرك أوديل ضجّةَ من حولها إلّا بعد فوات الأوان.
لكن مهما تفوّهوا به من هراء، لم يكن لذلك أيّ معنى.
كانت عينا أوديل مثبتتين فقط على التّابوت الموضوع وحيدًا في وسط القاعة.
وكأنّ شيئًا ما يجذبها إليه، بدأت تخطو نحوه بتردّد.
وحين اقتربت، طُبع في عينيها مشهدٌ لا يكاد يُصدّق.
كان مُسجًى بين زهورٍ بيضاء نقيّة، وكأنّه نائم لا أكثر.
لودفيل إكسيبسيون، طليقها.
لم يتبقى أيّ أثرٍ من الدماء والغبار الّتي لطّخت جسده في ساحة المعركة، بل بدا هادئًا ومنظّمًا.
وكأنّه لم يعرف السّلام والرّاحة إلّا بعد الموت.
تذكّرت أوديل حديثها في العربة مع المساعد.
“قال جميع الخبراء إنّهم عاجزون عن تحديد سبب الوفاة بدقّة.
هناك من يقول إنها انتحار، وآخرون يرونها جريمة قتل، لكن الحقيقة… لا يعلمها سوى صاحب السّموّ الدّوق.”
قال المساعد ذلك وهو يحدّق بها متأمّلًا، وكأنّه يتوقّع أن تكون على درايةٍ بشيءٍ ما.
لكن أوديل لم تكن تعلم شيئًا عن لودفيل.
منذ البداية، لم يكن بينهما سوى عقد زواجٍ صوريّ.
وبالتالي…
فهو ليس سوى غريب عنها.
‘لكن… لماذا فعلتَ ذلك؟’
لم تستطع أوديل فهم سبب ترك لودفيل لها كامل ميراثه قبل رحيله.
حتى في هذه اللحظة، وهي واقفة وسط مراسم جنازته.
“أوديل، من هذه اللّحظة ينتهي عقدنا.”
“هذا ما وعدتُكِ به. خذيه.”
“بالنّسبة لي، لم يكن يهمّ من ستكون.”
“لن نلتقي مجدّدًا.”
هل كان هذا ما عنته كلماته؟
أرادت أن تسأل.
لكن لم يَعُد ثمّة من يجيب.
لم تستطع أوديل الاعتراف بحقيقة وفاته إلّا بعد أن هبط التّابوت الأسود إلى باطن الأرض ببطء.
حتى انتهت مراسم الجنازة، بقيت واقفةً في مكانها كأنّ مسمارًا قد ثُبّت تحت قدمها.
لم يتحرّك سوى طرف تنّورتها السّوداء، تراقصه نسائمُ الريح الباردة بخفّةٍ باهتة.
°°°
أوّل مرّةٍ التقت فيها أوديل به، كانت قبل ستّ سنوات.
في ذلك اليوم، كانت السّاحة الكبرى تعجّ بالحماس والاحتفالات.
ففي مثل هذا الوقت من كلّ عام، كانت تُقام طقوسٌ مهيبة.
“أنظُر هناك!”
كان السّحرة المرتدون زيًّا أبيض واقفين على سور القلعة، مصطفّين ضمن دائرة الطّقس السّحريّ.
“يا مَن تحمل فيك دماء القدماء، يا شعلة التّطهير المقدّسة…”
“احمِي هذه الإمبراطوريّة من الدّنس والفاسدين.”
كانت التّعاويذ تتردّد بنغمةٍ أقرب إلى التّراتيل.
وفي المركز، كان يقف رجلٌ جذب الأنظار دون منازع.
شَعره الفضّيّ المقدّس يتطاير مع الرّيح، وصوته المنخفض الرّصين يدوّي بين الحشود.
“بموجب العهد الأوّل…”
غاوين كارديل، وريث أسرة كارديل، والمُلقّب برسول الإله.
قبل قرون، كانت إمبراطوريّة لومنير على حافة الانهيار بسبب مخلوقاتٍ مشوّهة تحمل طاقةً شرّيرة.
وفي خضمّ تلك الأزمة، بسط التّنين المقدّس، الّذي عُبِد كوحشٍ إلهيّ، حِجابًا سحريًّا عظيماً على كامل الإمبراطوريّة، حاميًا إيّاها من الأخطار الخارجيّة.
لكن مع مرور الزّمن، أخذ ذلك الحجاب يضعف شيئًا فشيئًا…
وحين بدأت مخاوف النّاس تتزايد، ظهروا.
أسرة كارديل.
العائلة الوحيدة القادرة على استخدام السّحر القديم.
ومنذ ذلك الحين، تولّت كارديل إقامة طقس التّجديد كلّ عام، وسمّى النّاس ذلك اليوم بـ “يوم الحِماية”.
وما زال ذلك التّقليد قائمًا حتى الآن.
“انهضْ مجدّدًا، أيّها الحجاب المقدّس.”
تألّقت الأحرف القديمة تحت قدميه كأنّها تنبض بالحياة، وانطلق عمودٌ ذهبيّ من الطّاقة السّحريّة نحو السّماء.
وفي تلك اللّحظة، ظهرت الحمايةُ في السّماء.
قُبّةٌ ضخمة متلألئة كأنّها زجاج، تغلّف الإمبراطوريّة بأسرها.
برهانٌ على أنّ الحماية الإلهيّة لا تزال قائمة.
حدّقت الحشود بتلك الصّورة بعيونٍ يغمرها الإجلال.
“بسلاسلَ أبديّة، أربط هذه الإمبراطوريّة.”
كانت تلك الكلمات ختام التّعويذة.
تجمّعت أنوار السّحرة عند أطراف أصابعهم، ثمّ امتدّت متّصلة لتشقّ السّماء.
امتدّ البرق الذّهبيّ على طول السّور، وتجلّى شكل الحماية واضحًا حتى أبعد حدود السّماء.
ثمّ تلاشت الأضواء، واختفت الحماية عن الأنظار.
لكنّ الجميع كان يعلم…
ذلك الحجاب سيحفظ السلام عامًا آخر.
“عاشت أسرة كارديل!”
“يا ورثة التّنين! يا دماء الأبطال! عاشت الإمبراطوريّة!”
غمر الهتاف والاحتفال أرجاء السّاحة.
لكن في أعماق الأسفل، بعيدًا عن الأنظار.
في غرفةٍ سريّة لا يُمكن الوصول إليها إلّا بعد عدّة مراحل من الأمان.
كانت أوديل محتجزة هناك.
“كح…!”
تلطّخت ثنايا فستانها الأبيض بلونٍ أحمر قانٍ.
وحين مسحت فمها بظهر يدها، سال الدّم من بين أصابعها.
ذلك كان دور أوديل.
ورثة التّنين؟ سحرٌ قديم؟
إنّها كذبةُ أسرة كارديل المستمرّة منذ قرون.
لا يوجد سحر يحمي الإمبراطوريّة، بل مسرحيّة متقنة.
ومجردُ أضحيةٍ تُستنزف لأجل جعل تلك المسرحيّة تبدو واقعيّة.
‘هذا العام… الأسوأ.’
تمتمت أوديل في داخلها، وابتلعت الدّم.
حلقها كان يحترق.
في كلّ جيل، تُولَد شخصيّة واحدة في عائلة كارديل تحمل “قدرة التّطهير”.
أولئك القادرون على تطهير كلّ ما هو دَنِس، أُطلق عليهم اسم “المطهِّرين”.
وفي كلّ سنة، يتمّ ضخّ كلّ ما يُعدّ شرًّا داخل جسد المطهِّر.
تضحيةٌ أحاديّة الجانب من أجل مجد العائلة.
وذلك هو سرّ الحجاب القديم.
“غغ… كح، كح!”
سعلت أوديل، وتدفّق الدّم مجدّدًا.
أعمار المطهّرين قصيرة.
نادراً ما يعيش أحدهم أكثر من ثلاثين عامًا.
وبعد موتهم، يولد مطهّرٌ جديد.
وكأنّ السّماء نفسها تؤيّد هذه الدّائرة القاسية.
‘كم سأصمد بعد؟’
استندت إلى الجدار، وأغمضت عينيها ببطء.
كانت بقايا الضّوء تشتعل تحت جفنيها كشرارات.
ثمّ…
طَق.
صوتُ قفلٍ يُفتح.
لا أحد يفترض أن يدخل هذه الغرفة.
‘هل هو غاوين؟’
ما الّذي ينوي فعله هذه المرّة؟
فتحت أوديل عينيها بصعوبة.
ومن خلال رؤيتها المهتزّة، بدأت ملامح الدّخيل تتّضح تدريجيًّا.
ثمّ…
“…”.
رغم أنّها تراه لأوّل مرّة، لم تشعر أنّه غريب.
لودفيل إكسيبسيون.
دوق الشّمال الحديديّ، الحاكم بقبضةٍ دمويّة.
رجلٌ مشهورٌ لعدّة أسباب.
لم تفهم أوديل سبب وجوده هنا، ولم تكن تملك القوّة لسؤاله.
نظر إليها طويلًا، ثمّ قال ببساطة:
“لديّ عرض.”
“…”.
“مدّته خمس سنوات.”
كان يتحدّث كأنّما سبق له أن قدّم هذا العرض مئة مرّة.
صوتٌ جافّ خالٍ من أيّ عاطفة، مملوء بالملل.
“إن نجحتِ في أداء دور سيّدة بيت إكسيبسيون طيلة هذه المدّة، سأقطع لكِ كلّ صلاتكِ بعائلة كارديل.”
“…”.
هل يعرض عليّ الزّواج؟
بدت كلماتُه جنونًا. لا تُصدّق.
لكن ما قاله تاليًا جعلها تتوقّف.
“إن بقيتِ هكذا، ستموتين خلال عام.”
رمشت أوديل بعينيها. الرّجل لم يتلاشَ.
إذًا، لم يكن وهْمًا.
‘خمس سنوات؟’
في وقتٍ لا تدري فيه إن كانت ستنجو حتّى نهاية هذا العام؟ يبدو رقمًا خياليًّا.
لكن رغم ذلك…
“لا يبدو أنّ لديكِ مجالًا للتّردّد.”
إن استطاعت، قبل الموت، أن تقف تحت الشّمس الدّافئة، وتشعر بنسيمٍ عليل.
إن استطاعت أن تعيش يومًا عاديًّا واحدًا…
“…نعم. لا مجال للتردّد.”
“جيّد.”
لم يكن يحمل صفات النّور أو الخلاص.
“هل تستطيعين الوقوف؟”
“نعم.”
“إذاً، فلتنهضي.”
“…حسنًا.”
لم يمنحها مواساةً لطيفة، ولا مدّ لها يده.
ومع ذلك، كان حضوره جليًّا على نحوٍ غريب.
نهضت أوديل ببطء من حيث كانت جالسة منهارة.
لم ينتظرها لودفيل، بل استدار فورًا.
ومشى بلا تردّد، حتّى بلغ الباب المقفل وفتحه.
“!…”
اندفع نورٌ ساطعٌ كاد أن يُعميها.
أغلقت عينيها لا إراديًّا.
وحين استطاعت أن تفتحهما أخيرًا، رأت غبارًا ذهبيًّا يعوم في أشعّة الضّوء.
“…”.
لقد تخلّت عن الأمل والرّغبة في الحياة.
لكن فجأة، ولسببٍ تجهله، راودها شعور بأنّها… تريد أن تعيش.
لأوّل مرّة، تنفّست بعمق.
وكان في نَفَسها… أملٌ خافت.
ضعيف، نعم.
لكنّه كان هناك
التعليقات لهذا الفصل " 2"