لم تُجب أوديل، لا بالإيجاب ولا بالنفي.
بل، كانت تكتفي بالتحديق فيه بنظرة فاحصة تستقصي مكنونه.
وكان ذلك كفيلًا بأن يثير اشمئزاز لودفيل بشدّة.
“إذن، ما دمتِ ستحصلين على السُّلطة، فلا بأس عندكِ في الجلوس بجوار رجلٍ مجنونٍ يتقلّب كلّ يومٍ بين امرأة وأخرى. طموحٌ عظيم، بحقّ.”
همس لودفيل بسخرية بصوتٍ خفيض، وهو يستهزئ علنًا بطلب زواجها.
ثم أطلق جملته التالية… وكانت.
“كما هو متوقَّع من أحد أفراد تلك العائلة.”
كانت تلك كراهيةً واضحة، وغضبًا صارخًا موجّهًا نحو عائلة كارديل.
حدّقت أوديل فيه بوجه متحيّر للحظات.
لقد بدأ تجمّد ملامحه، وامتلأ صوته بالاحتقار، منذ لحظة سماعه لاسم عائلتها.
لم يكن يحاول إخفاء ذلك البتة.
‘هل يمكن أن يكون قد استعاد شيئًا من ذاكرته؟’
لو أنّه قد فقد كلّ الذكريات المتعلقة بأوديل، فكان من الطبيعي ألّا يعرف حقيقة عائلة كارديل أيضًا.
فمن أين نشأت هذه الكراهية إذن؟
سألته أوديل بهدوء.
“هل يزعجك كوني من عائلة كارديل؟”
ربّما لأنّها قالتها مباشرةً.
“هاه.”
ضحك لودفيل ضحكةً قصيرة وكأنّه عاجز عن التفاعل، مستهزئًا كعادته.
“وما المشكلة إن كان الأمر كذلك؟”
“هل لي أن أعرف السبب؟”
“……”
تقلّصت عضلات جبينه قليلًا.
سبب كرهه لعائلة كارديل؟ هل يجب أن يُقال مثل هذا الشيء بالكلام؟
عائلة كارديل الدوقيّة.
دمٌ نقيّ، أحفاد الأبطال، بركة الإمبراطورية…
منذ قرون، ظلّت عائلة لا يجرؤ أحد على مسّها.
لكن متى بدأ ذلك الكره يترسّب بداخله؟
لا يذكر السبب الدقيق، ولا اللحظة التي بدأ فيها كلّ شيء.
فقط، بدأ يسمع أقوالهم فتبدو له كلها زيفًا ونفاقًا.
كراهية متجذّرة.
مجرد رؤيتهم كانت تكفي لتثير فيه الاشمئزاز والغثيان.
كانوا كأنّهم نجاسات تعيش وسط البشر، طفيليات ما كان ينبغي لها أن توجد أصلًا على هذه الأرض.
أراد أن يمزّق أنفاسهم جميعًا.
أن يسحقهم كما يُسحق القُمامة، ويمحو نسلهم إلى الأبد.
وكان السبب، دون شك…
“آه…”
أمسك لودفيل رأسه، وكأنّ ألمًا مفاجئًا دبّ في رأسه.
كأنّ مجرد النظر إليها يُحدث ذلك الصداع المريع.
“هل أنت بخير؟”
اقتربت أوديل منه بخفّة، تحاول كما في السابق أن تُطهّر ألمه.
“لا داعي لأن تُرهق نفسك بتذكّر شيء يؤلمك.”
“……”
“أحيانًا، نكره أمورًا بلا سبب. أليست هذه طبيعة البشر؟”
نبرتها الهادئة، ونظرتها القلقة، وتلك الرقة التي انطلقت منها دون وعي، كلها كانت كفيلة بأن توخز أعصاب لودفيل بقوة.
ارتعشت عيناه الأرجوانيتان، وانبعث منهما شرر من غضبٍ مكبوت.
وفي اللحظة التالية، أمسك بذقنها بعنف.
“أميرةٌ فُقدت لثلاثة أشهر، وفجأة تظهر في أرض الشمال، تعرض الزواج على رجلٍ غريب، وتقول إنه لا بأس بشتيمتي لعائلتها…؟”
قالها بصوتٍ خفيضٍ أجش، وهو يطبق على فكّه بأسنانه.
“كفى تمثيلًا. أظهري وجهك الحقيقي. هذا أكثر إثارة للفضول.”
في عينيه الأرجوانيتين، التي كانت دومًا فارغة، بدأت الآن تتراقص شظايا من مشاعر لا يستطيع السيطرة عليها.
حرّك شفتيه ببطء:
“ذلك الأسلوب… تلك الملامح…”
لكنّه لم يُكمل.
كأنّه لا يعرف هو نفسه ما كان سيقوله بعد ذلك.
وبدت الحيرة واضحة على ملامحه.
أدركت أوديل أنّه على وشك التوصّل إلى طرف من ذكرياته عنها، فسارعت لتشتيت انتباهه:
“نعم، هذا صحيح.”
“نعم؟ ماذا تعنين؟”
“أقصد، أنّك أصبتَ تمامًا، فلا حاجة لأن أُنكر.”
“ما الذي…؟”
“أنا أملك طموحًا.”
كان كلّ ما تحتاجه لتبقى بجانبه هو ‘ذريعة منطقية’.
لأنّها إن قالت إنها فقط تريد حمايته، لقال عنها إنها منافقة.
“أريد أن أستخدمك يا صاحب السمو، لنيل السُّلطة التي أرغب بها.”
لم تفكّر أوديل ولو للحظة أن تُخبره بأنّها كانت مُستغَلّة في عائلتها طوال حياتها.
فهو لن يصدّقها، وسيتّهمها بالكذب لاستدرار عطفه.
فضلًا عن ذلك…
تذكّرت صورة “المرأة ذات العيون الزرقاء” التي يبحث عنها لودفيل.
امرأة هشّة، ضعيفة، ذات ماضٍ حزين، قابلة للكسر في أي لحظة…
‘لا عجب في ذلك.’
فبالنسبة له، كانت تلك المرأة دائمًا تموت، مهما حاول إنقاذها.
والآن وقد فقد ذكرياته، فليس ما تبقّى لديه عنها سوى انطباع هش ومؤلم.
‘إذًا، عليّ أن أُظهر العكس تمامًا.’
عليه ألا يربطني أبدًا بصورة تلك المرأة.
سأتصرّف ببرودٍ واحتسابٍ مدروس، فيما أعمل من الداخل على إصلاح ما فسد في قلبه.
بحذر، ومن أقرب مسافة ممكنة.
“لن أصل إلى ما أريد إلّا إن أصبحتُ دوقة الشمال.”
“……”
كلماتها لم تكن خاطئة.
فما تريده حقًا، هو سعادته وسلامه الداخلي.
أخفت أوديل صدقها خلف وجه بارد وقالت:
“لذا قلت إنّه ‘اتفاق’. أنا أعرض عليك زواجًا تعاقديًّا، يا صاحب السمو.”
وللحظة، مرّت بذهنها ذكرى من حياتها السابقة.
حين طلب منها لودفيل الزواج بمجرد أن رآها.
الكلمات التي قالتها الآن، كانت غريبة الشبه بكلماته حينها.
‘هل كان يشعر بذلك أيضًا وقتها؟’
هل كان يخفي مشاعره خلف كلماته الباردة، بينما يتألم في الداخل فقط لإنقاذي؟
“أُعطيك مهلة خمس سنوات. إن رأيتني عديمة الجدوى بعدها، فيمكنك إنهاء العقد متى تشاء.”
لم تبعد أوديل بنظرها عنه.
بل حدّقت فيه مباشرة، وأكملت.
“أنوي مساعدتك في مشكلاتك الداخلية، وفي التعامل مع الأنظار الخارجيّة التي تراقبك، وفي تحسين موقعك بين النبلاء… أعتقد أنني أستطيع أن أساعدك كثيرًا.”
وأضافت بابتسامة خفيفة وهي تطرق بإصبعها على رأسها:
“وأيضًا في صداعك، يا صاحب السمو.”
“……”
ظلّ لودفيل يستمع إليها بذهول، ثم فجأة انفجر ضاحكًا.
كانت ضحكة مشوبة بسخرية ملتوية، لا بالسرور.
حدّقت فيه أوديل في صمتٍ من الدهشة.
فهي ترى لودفيل يضحك لأوّل مرّة.
رأته في ذكرياتها مرارًا، لكن أن تراه في الواقع…
“هاه، الآن بدأ الأمر يصبح ممتعًا.”
رفع يده ليلتقط خصلة من شعرها الفضيّ.
لفّها على إصبعه ببطء وهو يبتسم.
كانت حركته مزيجًا من السخرية، والتحفّظ، وتوقّعاتٍ مشؤومة.
“أم
نحك مهلة نصف شهر.”
“……”
“إن نجحتِ خلال هذه الفترة في جذب اهتمامي…”
ضاق عينيه البنفسجيتين، وفيهما جنونٌ مظلم لم تُطفئه الذاكرة المفقودة.
ثم مال نحوها، وهمس عند أذنها:
“سأمنحك الزواج الذي تريدينه.”
ترجمة:لونا
واتباد:luna_58223
التعليقات لهذا الفصل " 11"