في كلّ مرةٍ يحاول فيها استرجاع الذكريات، يجتاحه ألمٌ لا تفسير له.
“فقد ذاكرته، تقول؟ لكنني، طوال حياتي، لم أرَى ولو مرة واحدة سيّدنا إلى جانب امرأة ذات عينين زرقاوين. لا، في الحقيقة، لم يكن هناك امرأة واحدة في حياته أصلًا.”
“بل كان ينفر منهنّ. حتى إنّ بعضهم… همم، على كلّ حال، انتشرت شائعات مشينة لا تُقال.”
“منذ أن كنّا جنودًا صغارًا، وقد أخذتموني أنا العبد السابق إلى جانبكم، لم أفارقكم يومًا واحدًا. فإن كنتُ أجهل الأمر، فلن يعلمه أحدٌ في هذه الإمبراطورية.”
كلما تحدّث عن فقدان ذاكرته، كان أتباعه يبدون الحيرة ذاتها دائمًا.
‘إذن، ما الذي أطارده بحقّ؟’
أغمض لودفيل عينيه بتعبٍ ظاهر.
كل ليلة، كانت نساء بعيون زرقاء من كلّ صنفٍ وهيئة يتقاطرن إلى قاعة الحفل، لكنّه لم يجد يومًا ما يبحث عنه.
أحيانًا، كان يشعر بلحظة ارتباك.
‘أهي هذه؟’ يتردّد.
لا، ربّما كان يعلم في قرارة نفسه أنّها ليست هي، لكنه كان قد تعب فقط.
في لحظات سُكرٍ وتشتّتٍ، كان يمدّ يده نحو الشوق المتأجّج داخله، علّه يلمسه.
لكن ما إن تقترب منه إحداهنّ وتحاول الارتماء في حضنه، حتّى يجتاحه شعورٌ لا يُحتمل من النفور، فيدفعها بعيدًا.
كان شوقًا يائسًا ينهش صدره.
كأنّه يطارد سرابًا لا يُمسَك، يومًا بعد يوم.
“…هاه.”
أسند لودفيل ظهره إلى الحائط، ملتقطًا أنفاسه بهدوء.
تحمّل الألم منتظرًا أن ينقضي.
كما اعتاد دائمًا.
لكن…
في تلك اللحظة، لامس جبينه شيءٌ بارد.
وفورًا، تلاشى الألم.
صفا ذهنه.
الرؤية التي كانت ضبابيّة، أصبحت جليّة كأنّها لم تكن معكّرة قبل لحظة.
فتح لودفيل عينيه، مندهشًا.
وأدرك أنّه أثناء معاناته من الصداع، كانت هناك ظلٌّ يخيّم عليه.
رأى طرف عباءة سوداء بالية.
رفع رأسه.
تلك المرأة، التي تجاهلها قبل قليل، كانت تقف على أطراف قدميها، واضعةً يدها على رأسه.
“كنتُ أودّ متابعة الحديث الذي بدأناه بشأن الصفقة.”
“…”
“هل هذا كافٍ كشرطٍ للتفاوض؟”
…الصداع اختفى.
تمامًا.
الألم الحادّ الذي كان يهاجمه يوميًّا منذ ثلاثة أشهر، أثناء المعارك، أثناء الاجتماعات، وحتى في الليالي التي لم يعرف فيها النوم.
ذلك الألم اللعين الذي كان يلاحقه كظله… تلاشى.
وكأنّه لم يوجد أصلًا.
نظر لودفيل إلى أوديل بنظرات مذهولة لبرهة.
ثمّ ما لبث وجهه أن تجمّد.
“…من أنتِ بحقّ الجحيم؟”
ضرب يدها عن جبينه بعنف.
“ما الذي فعلتِه بي؟”
صوته كان خافتًا، أجشًّا، كأنّه يخدش الأرض.
لكن أوديل أجابت بثبات:
“لقد أزلتُ صداعك.”
“…ومن طلب منكِ ذلك؟”
“إذن، ما الذي تريده أنت؟”
“…”
صمت لودفيل.
هل هي تجهل حقًّا ما فعلته؟
أم أنّها تتظاهر ببساطة؟
تجيب وكأنّها أزالت مجرّد صداع، لا أكثر.
لكنّ ما شعر به لم يكن مجرّد زوال ألم.
“أنتِ…”
كاد أن يتفوّه بما احتبس في صدره، لكنه ابتلعه.
أن يقول إنّها شعرت وكأنها مركز هذا العالم.
أن كلّ ما كان مختلًّا قد عاد فجأة إلى مكانه.
لكن إن قالها… فذلك يعني أنّ حيلتها قد نجحت.
أمسك فكّها بقسوة.
“تتسلّلين إليّ بلا أن تكشفي عن هويتك، وتعبثين بي في لحظة غفلة؟! هل تظنين أنني لم أرى مثل أمثالك من قبل؟!”
لكن عندها…
تلاقت نظراتهما، أخيرًا.
تحت رموشها البيضاء، تألّقت عيناها بلون السماء.
شفافتان على نحوٍ مؤلم.
ارتجف قلب لودفيل بشدّة.
‘هذه العينان…’
مرّت في رأسه ذكريات… لم يكن لها وجود أصلًا.
نظرات حزينة خفيّة، متخفّية تحت رمشٍ مرتجف.
نظرات مسمومة بالحذر، كأنّها على استعدادٍ لخسارة كلّ شيء.
نظرات ناعمة، رقيقة، تحاول أن تخفي ألمًا.
نظراتٌ باسمة، خجلة، تطلّ عليه بحياء.
نظراتٌ غارقة في الدموع، تنفجر أخيرًا بعد طول كبت.
‘ما هذا بحقّ السماء؟’
لم تكن كما رأى من قبل.
تسلّل الاضطراب إلى أعماقه.
وبيدٍ مرتجفة، سحب قلنسوتها.
سقط شعرها متهاديًا فوق كتفيها، يشبه ضوء القمر على سهولٍ مغطّاة بالثلج.
“…”
امرأة بأكملها كانت بيضاء، باردة.
لو مدّ يده، لتبخّرت قبل أن يلمسها.
كأنّها مشهدٌ من حلم، يقف على حافة الواقع.
ابتلع لودفيل ريقه بلا وعي.
كأنّ عقارب الساعة المعطّلة قد بدأت تتحرّك.
تسارع نبضه مع دقات الزمن.
لكن…
“اسمي أوديل كارديل.”
هدمت كلمتها تلك اللحظة بأكملها.
‘كارديل…’
أدرك الآن بوضوح، شعرها الأبيض كالثلج، شعار آل كارديل المعروف.
جميع الذكريات التي كانت تمرّ في ذهنه منذ لحظات، اختفت خلف زجاجٍ ضبابيّ.
وما تبقّى… هو اسم العائلة الكريه “كارديل”، والشكّ.
‘الأميرة الثالثة التي اختفت مؤخّرًا…’
لم يكن ذلك مجهولًا.
الإمبراطور أمر بنشر مرسوم اختفائها في جميع أنحاء الإمبراطورية.
وقد كثرت الشائعات.
اختطاف، هروب، فرارٌ بعشيق…
وبعضهم قال إنها ربما ماتت.
مرّ على اختفائها ثلاثة أشهر، بعد كلّ شيء.
ولكن…
“لم أكن أتوقّع أن تأتي إلى الشمال.”
بهذا المظهر الرثّ.
نظر إليها لودفيل من أعلى إلى أسفل، ثم سألها ساخرًا:
“زهرة الدفيئة النقيّة لعائلة كارديل، ما الذي جاء بها إلى هذه الأرض القاحلة؟”
لكن رغم سخريته، لم تهتزّ أوديل.
لم تهرب، ولم تنكمش.
بل واجهته بعينين ثابتتين، وقالت.
“أرغب أن اتزوجك، يا صاحب السمو.”
“…”
وصمت.
“…”
“…”
الصمت طال.
‘هل هذه المرأة مجنونة؟’
حدّق فيها لودفيل مطولًا.
كارديل.
اسمٌ يعرفه كلّ من وُلد في الإمبراطورية.
أبطالٌ من نسلهم ملأوا صفحات التاريخ.
فارس اللهيب الذي أوقف الكارثة، القدّيسة التي طهّرت لعنة الإمبراطور، الحكيم الغربي الذي أعاد إحياء الحاجز القديم…
ومن نسل هذه العائلة “النقيّة”، تأتي أميرة مدلّلة، لتطلب الزواج من رجلٍ مجنونٍ مجهول الأصل والماضي؟
ضحك لودفيل بسخرية.
هل هي حمقاء؟ أم… انها كارديل بكلّ ما في الكلمة من تكبّر؟
“هل قلتِ زواجًا؟”
في كلمته الأخيرة، خفّت نبرته، لكنه لم يبتسم بعينيه.
مال برأسه بتكاسل.
“لقد دخلتِ متخفّية إلى هنا… وأظنّ
كِ حتى الجرح على عنقكِ اختلقتهِ عمدًا، أليس كذلك؟”
“…”
“كم هو مثيرٌ للشفقة. يا صاحبة الأيادي النقيّة لعائلة كارديل… هل أوحى لك الربّ بأن تُنقذي هذا المجنون ببركتكِ؟”
وإلا…
انخفض صوته أكثر:
“هل بلغ بكِ الطمع إلى هذا الحدّ في مقعد دوقة الشمال؟”
ترجمة:لونا
واتباد:luna_58223
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 10"