1
“أوديل، اعتبارًا من اليوم، ينتهي عقد زواجنا.”
تسللت كلماته الباردة كحدِّ السيف وغرست نفسها في صدرها دون رحمة.
لودفيل إكسيبسيون.
حاكم الشمال، وبكل برودة أعصاب أعلن الانفصال وكأنه يقطع رباطًا لا لزوم له.
نظرت أوديل إلى عقد الزواج الموضوع على الطاولة أمامها.
لم يُفتح يومًا، ولا تزال أوراقه بيضاء ناصعة كأن الزمن لم يمرّ به.
“هذا ما اتفقنا عليه. تفضّلي.”
ناولها الوثائق ببرود.
شهادة قانونية بإنهاء كل الروابط الأسرية والقانونية بين أوديل كارديل وعائلة كارديل.
إلى جانبها، أوراق ملكية للأراضي، وقائمة ممتلكات القصر، وتعويضات مالية سخية.
توقفت أوديل قليلًا عندما لمحت المبلغ الهائل.
“لم يكن من الضروري أن تمنحني كل هذا. كما تعلم، أنا…”
تقطعت كلماتها للحظة، ثم أخذت نفسًا عميقًا وتابعت:
“…لا أظن أنني سأعيش طويلًا.”
لكن لودفيل قاطعها بجفاف:
“ستحتاجينه.”
رفعت أوديل بصرها نحوه.
وجه خالٍ من التعبير، ملبس أنيق متقن، وقامة مستقيمة لا تعرف الفوضى.
كما لو أن سقوطها أمامه الآن لن يغيّر شيئًا؛ سيطلب طبيبًا بهدوء، ثم يمضي إلى جدوله الزمني دون أن يرتبك.
ذلك هو زوجها بعقد، الرجل الذي ربطها به الزواج لخمسة أعوام.
رجل لا يهدر الوقت ولا المشاعر.
لذا لم تسأله.
لماذا تغدق بكل هذا على امرأة على وشك الموت؟
‘فأنت بلا شك قد حسبتها بدقة، ككل شيء آخر.’
تصفّح لودفيل العقد بنظراته الخالية من الحياة.
الزواج لمدة خمس سنوات.
منع الأحاديث الخاصة.
لا تلامس جسدي.
إقامة منفصلة في الجناح الفرعي…
وقد تم الالتزام بكل بند بدقة.
وحين تأكد من أنه أوفى بكل ما اتفق عليه، ألقى بأوراق العقد إلى النار.
كأنها لم تكن سوى قصاصات بلا قيمة.
احترق العقد بسرعة، حتى الرماد لم يترك أثرًا… كأن خمس سنوات لم تمرّ.
انتهى.
هكذا بكل بساطة، النهاية.
“لقد كنتِ مجتهدة طيلة هذا الوقت.”
قالها الدوق بنبرة جافة، فتجمدت ملامح أوديلي للحظة.
نعم، بالنظر إلى العلاقة التعاقدية الصارمة التي جمعتهما، لم يكن هناك وداع أكثر لياقة من هذا.
هو الطرف الأقوى، وهي الطرف الأضعف.
هو صاحب العمل، وهي الموظفة.
ورغم أنهم قضوا سنوات كزوجين، أما كان بوسعه أن يُودّعها بكلماتٍ أكثر إنسانية؟
راودها هذا الخاطر… لكنها كانت تعلم أن مجرد تمنٍّ كهذا هو في حد ذاته طمع.
“هل تحتاجين إلى شيء آخر؟”
سألها كأنه مستعد لتنفيذ أي رغبة أخيرة.
“لقد أخذتُ ما يكفيني.”
أجابت، تكتم مشاعرها بعناية.
أرادت أن تترك في نفسه انطباعًا جيدًا، حتى النهاية.
لكن…
“النهاية…”
حين أيقنت أن نهايتها الحقيقية باتت قريبة، تملكتها رغبة في أن تترك شيئًا… أشبه بالوصية.
رغبة بائسة.
وفي النهاية، لم تستطع كبح الغصة التي ارتفعت إلى حلقها.
“كنتُ… أحبك.”
تفجّرت الكلمات من بين شفتيها كأنها لم تعد تحتمل.
“في ذلك اليوم، لم أمسك بيدك لأني أردتُ البقاء… بل لأنك كنتَ أنت.”
“وحين أتذكر الآن… أدرك أن هذا ما كان.”
لم يكن اعترافها رجاءً أو طمعًا في شيء…
فهي امرأة ميّتة لا محالة.
لكنها، فقط للحظة، أرادت أن تكون متغيرًا غير محسوب في معادلاته المثالية.
أرادت أن تخبره أن هناك مشاعر لم تدخل ضمن خططه.
أنها أحبته… ببساطة.
وربما، في قرارة نفسها، تمنّت أن يتفاجأ… حتى لو للحظة.
لكن…
“كان بإمكاني أن أختار أي شخص.”
“أنتِ فقط كنتِ الأقرب إلى الشروط المطلوبة.”
قالها بهدوء… وكأنه سمع مثل هذا الاعتراف مئات المرات من قبل.
وكأنها لم تكن أول ولن تكون الأخيرة.
‘كنت تعرف… منذ البداية.’
حتى مشاعرها التي ظنّت أنها أخفتها جيدًا، كانت جزءًا من معادلاته.
“هل انتهيتِ؟”
انحنت أوديلي برأسها، وابتسمت بمرارة.
كل شيء أصبح سخيفًا فجأة.
نعم، إنه رجل مثالي… حتى في اللامبالاة.
قاسٍ، لا يسمح لشيء أن ينفذ إلى داخله.
“نعم… لا شيء بعد الآن.”
وخز في القلب، كشوكة غُرست بلا رحمة.
لكنها قررت أنه لا بأس.
حب أول، إعجاب طفولي، شيء كهذا.
لم يكن استثنائيًا… فقط جاءها متأخرًا.
“شكرًا… على كل شيء.”
نظر إليها بوجه خالٍ من أي تعبير، ثم قال:
“لن يكون هناك لقاء آخر.”
ردّ رسمي لا يترك مجالًا للوهم.
ولهذا، شعرت بالارتياح أنها تخلّت عن كل مشاعرها قبل أن تموت.
هكذا، انتهت العلاقة التي استمرت خمس سنوات.
أوديل بدأت رحلة جديدة، تبحث فيها عن قبر لها.
كانت تشعر أن أجلها يقترب، ولذا اختارت قرية نائية لتقضي فيها أيامها الأخيرة كمعالجة.
عاشت بهدوء، تنتظر نهايتها.
لكن…
‘…لماذا لا أزال حيّة؟’
تلك الأيام التي بصقت فيها دمًا أسودًا من شدة الألم لا تزال محفورة في ذاكرتها.
جسدها الذي كان يحتضر… بدأ يستعيد عافيته شيئًا فشيئًا.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد.
‘بل أصبحت… أكثر صحة من ذي قبل.’
ولم يكن ذلك مجرّد شعور.
جسدها كان يُعاد بناؤه… كأن قوة خفية أعادته إلى حالته المثالية.
‘هل هذا… ممكن؟’
كان معجزة.
لم تفهم كيف أو لماذا، لكنها لم تشك في شيء: كانت لا تزال حيّة.
فعاشت كما جرفها التيار.
أيامها باتت عادية…
تُعالج المرضى، تجمع الأعشاب، تتجول في القرية، وتزور السوق أحيانًا.
هدوء، سكينة، واستقرار.
ربما لأول مرة منذ تركت عائلتها… شعرت بالسعادة.
‘الحياة بهذا الشكل… ليست سيئة.’
وفي لحظات الوحدة القاسية، كانت نار الذكرى تتوهج بداخلها.
ليس حبًا… بل مجرد حنين غبي.
لكنها كانت تملك “غدًا”، ولذا لم تسمح لتلك المشاعر بابتلاعها.
ومرت سنة كلمح البصر.
حين بدأت تعتاد الحياة مجددًا… زارها رجل يرتدي زي الحداد الأسود.
“لقد توفي الدوق.”
جاء يحمل خبر وفاة زوجها السابق.
“ماذا…؟”
“هذا مستحيل…”
قبل عام فقط، كان بصحة ممتازة.
لم يكن مريضًا، ولم يكن يحتضر.
فجأة يخبرونها أنه مات؟!
انتظرت أن يشرح أكثر، لكن المبعوث ظل واقفًا، يخفي مشاعره بصعوبة.
ناولها لفافة مختومة.
بيدين مرتجفتين، فتحتها أوديلي… كانت وثيقة إرث.
ومعها… وصية تركها الدوق بنفسه.
[أنا، بعد موتي، أُورث جميع أراضي وأسقُف ونُبل وثروات عائلة إكسيبسيون لأوديل كارديل.]
“لِماذا…؟”
كل ما في داخلها تشوّه… الأفكار، والمشاعر، وحتى المنطق.
بقي سؤال واحد يصرخ في قلبها.
“لماذا؟”
ما المعنى من أن يورثها كل شيء بعد موته؟
لماذا الآن؟ بعد أن انتهى كل شيء؟ بعد أن مات؟ بعد أن قالت وداعًا؟
كل الأسئلة كانت تتزاحم في صدرها، تتصارع، تخنقها.
لكن شيئًا واحدًا ظلّ واضحًا، راسخًا، لا يقبل التأويل.
أنه، رغم كل شيء، ترك كل شيء لها.
رجلٌ حسب كل خطواته بدقة، رجلٌ لا يفعل شيئًا دون غاية،
فلماذا… لماذا منحها إرثًا لا يُقَدّر بثمن؟
هل كانت هذه أيضًا ضمن حساباته؟
أم أن شيئًا آخر… شيء أعمق، لم تتمكن من قراءته؟
في اللحظة التي أنهت فيها قراءة الوصية، خفق قلبها بعنف.
شيء ما في داخلها انهار… ثم اشتعل.
‘هل كنتَ… تحبني؟’
تساؤل وُلد من رماد الألم، تساؤل ما كان لها أن تسمح له بالوجود…
لكنّه خرج، رغماً عنها.
‘أم أنك فقط شعرتَ بالذنب؟’
ولكن إن كان ذنبًا… أكان سيترك لها كل شيء؟
حتى قلبه البارد… أكان يمكن أن يلين للحظة؟
أكانت كلماتها الأخيرة قد تسربت إليه؟
لم تجد الجواب، لكن اللحظة لم تمنحها مزيدًا من الوقت للتفكير.
كان لا بد أن تعود…
إلى القصر، إلى كل ما هربت منه.
لا لتستعيد مكانة، ولا ميراثًا…
بل لتواجه الحقيقة التي دفنها الموت.
أعدّت أوديلي نفسها بهدوء،
تخلّت عن الثياب الريفية التي اعتادتها، وارتدت السواد.
لم تكن الأرملة… لكنها كانت شيئًا آخر.
شيئًا لا اسم له… إلا “التي بقيت”.
بعد أيام، وصلت إلى قصر إكسيبسيون.
كان كما هو… لا شيء تغيّر فيه.
لكن داخله… كل شيء تغيّر.
الخدم ينحنون لها بصمت، الحراس يفتحون البوابات بلا سؤال.
هي الآن، رسميًا، سيدة القصر.
دخلت القاعة الكبرى، حيث كان تابوته مسجّى وسط السكون.
شاحب الوجه، ساكن كما لم يكن يومًا.
كأن الزمن أخيرًا توقّف أمامه.
اقتربت بخطى بطيئة، والدم يتجمّد في عروقها.
ركعت أمام التابوت، مدّت يدها نحو الغطاء…
لكنها لم تفتحه.
“لماذا تركتني؟”
همست بصوت بالكاد يسمع.
“وأخيرًا، حين بدأتُ أعيش… أتيتَ لتأخذ كل شيء.”
عينها اغرورقت بالدموع،
لكنها مسحتها فورًا.
لن تمنحه دموعًا بعد الآن.
يكفيها أنها منحته قلبها… ولم يلتفت إليه.
أرادت أن تقول الكثير، أن تصرخ، أن تعاتبه، أن تبكيه…
لكن بدلًا من ذلك، اكتفت بالهمس:
“أنت رجل لا يمكن هزيمته… حتى بعد الموت.”
ثم وقفت، بخطى ثابتة، وخرجت.
لكن شيئًا ما كان ينتظرها… شيئًا لم تتوقعه.
وفي تلك الليلة… تغير كل شيء.
التعليقات لهذا الفصل " 1"