أديل أعادت بعينيها المرتجفتين استرجاع المكان من حولها.
ظنّت أن العتمة لكونه الليل، أو لعدم إشعال الشموع، لكن كان المطر يهطل.
مطر يمزّق السماء الرمادية. قطرات غليظة تضرب زجاج النافذة بصوت صاخب. تماماً… كما في ذلك اليوم.
“هل تشعرين بالبرد؟”
جسد أديل المرتعش جذبه برفق إلى أحضانه.
لمحت عروقاً بارزة في يده التي أمسكتها. أجل، لطالما ضمّها هكذا.
بتلك القسوة، وكأنها ستختفي فجأة إن لم يمسك بها.
ومع ذلك، كان يحضنها دون أن يؤذيها، برفقٍ يوجع أكثر من القسوة.
“سأستدعي الطبيب.”
لكن وجهها الباهت لم يستعد لونه رغم ما منحها من قوته السحرية. عندها نهض، بعد أن حرّرها من بين ذراعيه.
مدّت يدها، أمسكت معصمه، كأنها ترجوه ألا يتركها.
غير أنها، ما إن التقت عيناه، حتى جمد الكلام في حلقها.
“……”
أي رجاء يمكنها أن ترجوه منه؟ لم يبقَ لها لا حياء ولا حتى خجل.
ابتلعت ما كاد أن يفلت من شفتيها، وتركت يدها تتهاوى.
فجأة، قبض على معصمها الضئيل بقوة.
“إذا كنت قد أمسكتني، فهذا يعني ألا أذهب. فلمَ تركتني إذن؟”
عينيه الذهبيتين اشتد بريقهما في العتمة.
تلك الرغبة المشتعلة في صوته، جعلت كل شيء يبدو كأنه ليس واقعاً، بل حلماً ثقيلاً.
في هذا القرب المرهف منه، ارتفع الحَرّ في جسدها كعادته. من جديد، دون حياء ولا خجل.
“لا تتركني.”
ذكريات الليل الطويل في الحلم تفتحت من لمسة جلده على جلدها.
أديل نظرت إلى يده التي أمسكت معصمها، وهمست:
“لِمَ… جئت تبحث عني؟”
“……”
“لِمَ لم تتركني أعيش شقائي وأموت تعيسة كما أستحق؟”
كانت كلماتها لومًا، لكن الحقيقة أنها عنتها.
كيف يستطيع أن يأتي ليطلب حباً من امرأة خانته؟
كان حرياً به أن يكرهها، أن ينتقم منها. لا أن يضمها بعاطفة كأنها ما زالت ثمينة لديه.
تلاشى الابتسام الطفيف عن شفتيه.
وبوجه خالٍ من التعبير قال ببطء:
“لأنك كنتِ تعيسة.”
“……”
“لو كنتِ قد تركتني لتعيشي، لوجب أن تكوني سعيدة. لوجب أن تحيي أفضل من أي أحد. لوجب أن أجفل حتى من أن أتجرأ على الحلم بك ثانية.”
“لا أفهم كيف تستطيع قول ذلك… أنا التي اقترفت في حقك الخطيئة…”
“أما كنتِ تقولين إن (أديلهايت) في حياتها السابقة لست أنتِ؟ تذكرين؟”
رفع خصلات شعره المبتلة عن جبينه، وقطع حديثها.
“إن صدقتِ قولك، فما الذي اقترفتِه أنتِ في هذه الحياة؟”
“لكنني… الآن أعرف كل شيء. وأنت نفسك قلتَ: إن كنت أحمل الذكريات، فأنا هي نفسها.”
“ليس عليكِ أن تحملي سوى ذكرى واحدة يا أديل… أنّ زوجك، منذ البداية، لم يكن سوى أنا.”
رفع ذقنها بأصابعه حتى لا تهرب بعينيها منه.
“ليس هذا الجسد، بل أنا.”
كانت قبضته أشدّ مما تحتمل، كأنه فقد رباطة جأشه للحظة. بصوت مبحوح متصدّع همس:
“فلا تتهرّبي.”
“……”
“لقد وعدتِ… أن يكون حزنك لي وحدي.”
“……”
“علينا أن نحيا معاً.”
أنا أوفيت بجميع وعودي لكِ.
ارتديت جسداً بشرياً لأكون بجانبك، ناديتك باسمك، شاركتك نظرتك إلى العالم.
حتى وعدتُ أن أبوح لك بكل شيء، وفعلت… مع أني علمت أن ثقل الذنب سيسحقك.
الآن جاء دورك لتفي أنتِ.
كان يطالبها بالوفاء بصرامة مبالغ فيها، كأنه يحسب كل شيء بحسابٍ صارم.
لكن إن أمعنت النظر، لم يكن لذلك الحساب أي منفعة.
سوى هي… وحدها.
إبهامه مرّ على شفتيها الشاحبتين، كأنه يفتح لها طريق التنفس.
“إن كنتِ حقاً آسفة، فلا تهربي. اثبتي يا أديلهايت… أمامي، وبجواري.”
آه… عضّت على فكها تكتم شهقتها.
لقد كان خلاصاً يشبه الخلاص الأبدي.
دموعٌ نقية امتلأت في عينيها الخضراوين.
وما لبثت أن انهمرت، قطرات متساقطة على خديها ويديه.
لم تستطع أن تقول شيئاً، غير ممسكة بثوبه.
راح يربت على كتفها المرتجف، كأنما يواسيها.
فرفّت جفونها المبتلة.
“لِمَ… تعاملني بهذا القدر…”
“لأنني أحبك، يا أديل.”
الحب. ما من كلمة أقل ملاءمة لها من هذه.
حاولت أن تطلق ضحكة ساخرة، لكن شفتيها تجمّدتا كأنهما قد التصقتا بالجليد.
عيناها، التي كانت تحدق في فالنتين بذهول، انكسرت ملامحهما فجأة.
منذ لحظة ولادتها، كان كل شيء خطيئة.
ولادتها كانت خطيئة، وكونها لم تعش بفخر أمام العالم كان خطيئة، وعجزها عن أن تولد بما يكفي من قوة كان خطيئة، حتى ظنّت أن الكراهية أمر بديهي تستحقه.
وأحياناً، كان الشعور بالذنب الغامض يجعل حتى التنفس عبئاً ثقيلاً.
حتى عندما لم تكن تعلم أن كل هذا لعنة صبتها على نفسها باسم “الخطيئة الأولى”.
عاشت حياة كالجثة، لا أكثر من أنفاس متقطعة تمسك بخيط البقاء.
وكل مرة وُلدت وماتت، كانت تعيد نفس التعاسة المرسومة سلفاً، كلوحة لا تتغير.
استسلام منقوش على روح بالية، كما أراد مورغ. لم يكن مسموحاً لها أن تطمع في شيء، ولا أن تحب أو تكره، بل أن تكتفي بأرض تضع جسدها عليها وتراها فردوساً عظيماً.
لكن تلك لم تكن حياة. بل كانت قيداً على عنق دابة مربوطة إلى قدرها.
الشفقة التي سُمِّيت حباً، والشتائم التي سُمِّيت تربية، والخداع الذي سُمِّي عطفاً… أرادت الآن أن تودّع تلك السنين التي لم تستطع تحملها إلا وهي تغطي عينيها.
“أنا…”
صوتها المشقوق بلهاث ونشيج كان حطاماً.
“هل أستطيع… أن أجرؤ…؟”
كبراعم خضراء في برد الشتاء، خرج صوتها مرتجفاً.
وحتى بعد أن لفظت الكلمة، انكمشت كأنها ارتكبت خطيئة أخرى.
أما فالنتين، فرسم ابتسامة في هذا الموقف المستحيل.
أن تسأله إن كان مسموحاً لها أن تحيا بجواره، وتستجمع لذلك كل شجاعة حياتها… بدا الأمر له طفولياً، وفي عينيه مسحة حنان لا تُقاوم.
“افعلي ذلك، أرجوك.”
“……”
“بل أريد أن أراك تجرئين لا على العيش فقط، بل على الرغبة أيضاً. أن تبتسمي للجميل، وتنفرين من القبيح، أن تنجزي، وأن تطمعي، وأن تتدللي.”
“……”
“أريد أن أكون معك في كل لحظة من حياتك.”
ولم يقل أحد من قبل إنه يريد أن يراها تعيش هكذا.
ولم يقل أحد من قبل إنه يريد أن يكون معها في تلك اللحظات الصغيرة. حتى في الذكريات التي رآها من حياتها السابقة المليئة بالعذاب، لم يكن هناك أحد.
أصابعه لامست وجنتيها المبللة برفق.
“والآن… توقفي عن معاملتي كما لو كنت حاكماً.”
“آه…”
لقد نسيت تماماً.
هل كان هذا من أثر بقائها عالقة في الحلم طويلاً؟ حتى عزمها الأخير، ألا تهرب من مشاعره، بدا وكأنه يتلاشى.
“أنا…”
اقترب أكثر، كما لو أراد أن يسمع صوتها المرتجف واضحاً.
العينان التقتا. والآن، استطاعت أن ترى في وجهه صورة الحاكم الذي رأته في الحلم. وكيف لها أن تجرؤ أمامه؟
“لا أستطيع… حقاً لا أستطيع…”
أرادت أن تقول: ارفع عني هذا الأمر.
لكن قبل أن تتم عبارتها، انحنى فالنتين، وابتلع شفتيها.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 99"