-إلى ذلك اليوم مجدداً-
في ذلك الصوت كانت تختبئ آخر إرادة للحاكم.
حين دفعها فالنتين برفق بعيداً، اندفعت حرارة دافئة من ساقي أديل وانتشرت في جسدها.
أي سحر أطلقه عليها؟
الغريب أنها لم تشعر حتى بالحنين أو الأسى.
قوة عظيمة، دافئة، راحت تحرك جسدها من تلقاء نفسها.
التفتت أديل، التقطت بعض المتاع والحقيبة، ثم اندفعت تجري عبر الممر، إلى خارج المعبد، إلى الغابة الماطرة.
[أنت صغيرة… وأشعر أنني لو ابتلعتك لذبت برفق.]
حتى الحياء لم يعد موجوداً.
[لا أعلم ماذا أفعل بك.]
تلك الليلة.
تلك الحرارة الطرية، وتلك الحركات الحذرة، وتلك النظرات المليئة بالعطف.
أصابعها الرقيقة قد انفتحت حتى أقصاها لتتشابك بعقد أصابعه الغليظة.
[حين ينتهي كل شيء، قد يكون جيداً أن نغادر هذا المكان. لعلنا نجد مكاناً أفضل نعيش فيه معاً.]
شعرت بأن القوة التي طالما احتضنتها بدأت تفارقها شيئاً فشيئاً.
القوة ذاتها التي كانت تحرك ذراعيها وساقيها لتواصل الركض.
لكن… صوت من كان ذلك؟
[اذهبي، يا أديلهايت.]
توقفت خطواتها عند حافة الغابة.
كانت تبكي… لكنها لم تعرف السبب.
كل شيء بدا ضبابياً، كأنه حلم.
ما الذي كانت تصنعه هنا؟
إلى أين كان ينبغي أن تذهب؟
بل حتى من يكون والد الطفل في أحشائها؟
لم يبقَ في ذهنها سوى فكرة واحدة:
أن تختفي من هذا العالم… إلى الأبد.
وبعد ثمانية أشهر، وضعت أديلهايت طفلاً ميتاً.
وما زالت في الحلم.
الزمن يمضي، والعالم يتبدل سريعاً.
السهول التي التهمتها النيران بدأت تعود إليها الخضرة،
ومن الخرائب المهدمة وُلدت مدينة.
وفي تلك الأثناء، ماتت أديلهايت، وماتت، وماتت، وماتت.
ثم وُلدت من جديد، ومن جديد، ومن جديد، ومن جديد.
فالنتين لم يستطع أن يفصل روحه عن جسده المختوم بيده،
إلا بعد أن عادت أديلهايت للحياة للمرة السادسة.
منذ ذلك الحين، راح يراقبها.
كان يرجو لها السعادة.
لكنها في أي حياة وُلدت، لم تجد سوى البؤس.
كثيراً ما مرضت، وعاشت حياة قصيرة ثم ماتت.
أسباب موتها كانت تتغير… لكن العلة واحدة.
مورغ. أخوه كان دوماً يحوم حولها.
كان ذلك مراقبة شرسة، لاصقة، بلا سبب معلوم.
وذات يوم، استدعاه مورغ.
«أيها الأخ البائس، الأحمق، الذي لم يُمنح حتى اسماً…أتظن أنها سترى وجودك وأنت على هذه الحال؟»
وجود فالنتين في تلك الحقبة كان باهتاً جداً.
ضعيفاً، كأنه سيذوي في أي لحظة.
ومع ذلك، لم يكن مورغ قادراً على قتله مهما صبّ عليه من قوته.
رغم سقوطه، ما زال العالم يعترف به كحاكم.
وهذا ما أثار امتعاض مورغ.
سخريته كانت جارحة حد السم.
«لا تملك سوى جسداً بالكاد يتماسك، ومع ذلك تجرؤ بلا خجل.»
ضحكاته الساخرة كانت كطعنة.
لكن فالنتين لم يجد جواباً… فلم يسأله إلا سؤالاً واحداً:
[لماذا تؤذيها؟]
«لقد حملت منك. ولتطهير ذلك الإثم، لا بد من العقاب.»
ابتسم مورغ ابتسامة خبيثة وأردف:
«حين تتحطم الروح التي وسمتها بها، ويتهرأ جسدها البائس حتى العظم، ستعرف حينها من كان مخلّصها حقاً.»
كان ذلك مقززاً.
أبغض من دودة تمتص عصارة شجرة صفصاف خضراء.
أراد أن يقتلعها فوراً، أن يسحقها سحقاً،
لكن قوته لم تسعفه.
وإذ يرى غضبه المتأجج، ضحك مورغ برضا.
«فلنقم برهان.»
[رِهان.]
«أنا لم أفعل سوى أن التقطت إلهيتك الممزقة، وصرت بها إلهاً في أعين البشر. حتى إرادة لا أستطيع أن أظهرها.
في كل مرة أريد أن أنقل وحياً، أضطر أن أتنكر في هيئة كاهن أو أسيطر على عقولهم. كم هو مزعج ذلك.»
في عينيه لمع بريق فرح وحشي،
كأنما يستعرض ممتلكاته المسروقة.
«ولم أعد أرضى بنصفك. فلنتراهن على عرش الحاكم.»
[قل.]
«… إن كان كذا، أنا من يفوز. وعكس ذلك، يكون النصر لك. وحينها أنسحب بلا رجعة.»
[تنسحب؟]
«أعني… أفنى. فناءً تاماً.»
ابتسم مورغ.
«لكن عليك أن تراهن على الشيء نفسه أيضاً.»
أرادت “هي” أن تصرخ في وجه فالنتين ألا يقبل.
لم تكن تعرف حتى ما مضمون ذلك الرهان، ومع ذلك كانت ترفضه.
لكن صوتها لم يتخطَّ الحاجز الشفاف.
وفي عينيها التي أخذت تبتعد، رأت فالنتين يومئ برأسه.
[بدء الرهان سأحدده أنا. سيكون يوم أذهب إليك بنفسي.]
وانقلب المشهد فجأة.
وبدا الزمن قد مضى طويلاً.
بات مورغ الحاكم الأوحد.
راح يلوّح بالمعجزات وقوة التطهير التي سرقها من إلهية فالنتين، كأنها ملكه.
تنامى سلطان كنيسته يوماً بعد يوم،
حتى أن الملوك أنفسهم جثوا عند قدميها.
وفي تلك العملية، غدا “تنين فيتشلِبِن”
رمزاً للشرّ والدنس.
أما قوى الشفاء، وهي أيضاً جزء من الإلهية، فقد توزعت بعد تجارب كثيرة وفشل متكرر، حتى استقرت في بعض البشر القلائل.
ومن الفتات المتبقي،
من “الفتات” الذي لم يجد له موضعاً،
وُلدت الكائنات الممسوخة من رحم الفساد.
واحتاج فالنتين لزمن طويل قبل أن يسيطر على تلك “الفتات”.
فالإلهية التي لم يمسها منذ دهر
قد تبدلت على هيئة مورغ.
وصارت تهاجمه كغريب يوشك أن يبتلعه.
بذل جهداً كبيراً ليتغلب عليها.
لكن ما إن تمكن من استخدامها، حتى جمع المزيد من “الفتات”.
فلمواجهة الوحش، لم يكن أمامه سوى أن يصير وحشاً بدوره.
ومع ذلك، ظلّت قوى الحاكم المهجور لا تسكن إلا في أشياء ضئيلة.
كتغيير اسم طفل لم يولد بعد عبر وهم صغير،
أو تعديل ملامح الرجل المقدر أن يكون رفيق أديلهايت في هذه الحياة.
أو حتى، كما يفعل مورغ،
بأن يرسل إلى آذان البشر وساوس خبيثة.
«أيها الظل… طوال حياتي…كنت أسمع همساتك في أذني…»
وفي يوم من الأيام، ناداه ثمر حلو.
“لا بد لي… أن أنتصر في هذه الحرب… أريد شرفاً لا ينكسر… أبداً.”
فتح فالنتين عينيه ببطء. بعد انتظار طويل، عتيق، خانق.
✦✦✦
في اللحظة التي فتح فيها فالنتين عينيه في الحلم، فتحت أديلهايت عينيها في الواقع أيضاً. كان كل شيء غارقاً في الظلام.
شعرت وكأنها كانت مغمورة في الماء ثم استيقظت، فجسدها لا يملك ذرة من القوة.
أين تكون يا ترى؟ في حلم؟ أم في خدعة قاسية أو وهم؟ حتى هويتها، أي “أديلهايت” هي، لم تعد تعرف.
اسمي أديلهايت، ديزيريه باتيلديس نيرنبركيان…
لا، ليس كذلك. أديلهايت فالتر، أديلهايت كيرستين، أديلهايت…
“أديل.”
أغمضت عينيها بشدة، وسدت أذنيها بيدين مرتجفتين. لا مزيد من الحلم، لا مزيد من ذلك الصوت.
“أديلهايت.”
آه.
شعرت بجسد مظلم يقبض بقوة على معصمها.
لأنها حاولت أن تغرز أظافرها في وجهها.
لم تكن تريد أن تؤذي نفسها، لكن الإحساس بالواقع كان طاغياً جداً. كانت ترجو لو أنه مجرد حلم تستطيع أن تستيقظ منه من جديد.
شعرت أن جسدها ينطوي داخل صدر واسع وصلب. كما في الحلم.
نعم، كان إحساساً مألوفاً جداً. تمسكت أديل بقبضة مرتجفة بثياب فالنتين الأمامية، وانفجرت باكية. “لا تسامحني، أرجوك…”
“اهدئي، كل شيء بخير.”
لن يكون بخير. كيف يمكن أن يكون بخير؟ الذنب المتأخر كان خانقاً.
تحول كرهها لذاتها إلى خنجر مسموم يغرس أنيابه في جسدها كله.
لقد طعنتك بيدي، فقط لأجل أن أنقذ طفلنا. كنت أرجو أن ينجو ولو متّ أنا ممزقة إرباً.
ومع ذلك كنت جاهلة، عاجزة، حتى أنني لم أستطع أن أحميه.
فالنتين تلقى شهقاتها العاصفة كلها بصمت هادئ.
“فكيف لي… أن أجرؤ… بأي وجه… أن أطلب…”
“لقد مضى الأمر كله.”
كان صوته، كما كان دوماً، عميقاً وأزرق، بلا ذرة يأس أو قلق. يخبرها أن الماضي قد انتهى، فلا حاجة إلى اعتذار.
لكن الذنب الذي لا مهرب منه ظل يتمدد في صدرها حتى اختنقت.
“ما زلت تبكين.”
طبع على خدها المرتخي وعلى جبينها قبلات خفيفة. تناثرت أنفاسه الدافئة على بشرتها.
شيئاً فشيئاً أدركت. الكلمات التي تتردد في أذنها لم تكن “إرادة”، بل كانت صوتاً حقيقياً، يحمل دفئاً.
“فال… لينتين…”
نادته باسمه بصعوبة. وفي أطراف رؤيتها المبللة، لمحت وجهه أخيراً.
عينان ذهبيتان، وجه نحيل بعض الشيء، أنف مستقيم وشفاه أنيقة. تماماً كما كان قبل مئات السنين، وكما هو الآن.
“نعم. أنا هنا.”
مد فالنتين يده الكبيرة ليمسح برفق ظهرها الهزيل.
كان دفء جسده شديد السخونة على جسدها البارد.
حين اضطربت في حضنه، أعاد احتضانها بحرص أكبر.
“تذكري شيئاً فشيئاً. لا تتعجلي.”
أسندت أديل جبهتها المتعبة إلى صدره القوي. كان يخبرها أن الأمر لا بأس به، أن بإمكانها أن تستعيد كل شيء ببطء.
مع صوته الحنون بدأت بقايا الحلم تتلاشى.
رفعت رموشها المبتلة الثقيلة بخفة.
“هنا… أين…”
“في القصر الإمبراطوري. هل تتذكرين حتى مهرجان الصيد؟”
القصر. راحت ببطء تستعيد ذاكرتها.
اليوم الثاني من مهرجان الصيد.
بحثت عن هيلدا، تلقت خاتم ناساو، سمعت النبوءة، استخدمت سحراً فوق طاقتها، كُشف أمر استخدامها للسحر…
بدأت الذكريات المتناثرة تتلحم شيئاً فشيئاً.
آخر ما تتذكره توقف عند اللحظة التي شربت فيها دم فالنتين، محاولة استعادة أصل السحر الممزق.
بعد ذلك، غرق كل شيء في عتمة حالكة.
حرّكت شفتيها الشاحبتين بصعوبة.
الانستغرام: zh_hima14
التعليقات لهذا الفصل " 98"