انفجار الجسد؟ تذكرت جسد فالنتين الذي رأته قبل أيام عند ضفاف البحيرة.
جروح عميقة كادت تكشف العظام، آثار لتمزق متكرر والتئام متكرر.
حتى قدرة التنين العجيبة على الشفاء لم تستطع محوها تمامًا، والآن لم يبقَ له سوى الاحتماء بالأوهام ليستر عجزه.
قالت ناديا:
“لو لم يكن الأمر كذلك، لكنا قد متنا منذ زمن كما قالت الأميرة. لكن على أية حال، غايتنا ستكون غدًا. مع طلوع الشمس سيبدأ القتال الأخير.”
القتال الأخير. ما إن سمعت أديل هذه الكلمة حتى استفاقت، وتراجعت خطوة إلى الوراء كما لو أن ناديا قد هددتها.
“لكن كيف وجدتِ الطريق إلى هنا؟ في هذه الغابة الواسعة، كيف عرفتِ المكان؟”
ابتسمت ناديا بخفة:
“حين طرقتِ الحاجز، بدا من الخارج صاخبًا للغاية. خلفه يتجمع جيش التحالف من نيورمبرغ والملَكيات الثلاث المجاورة. صدر المرسوم السادس لاصطياد التنين، لكنه في الحقيقة ليس سوى آخر مقاومة.”
لم تستطع أديل أن تصدّق. لو كان هناك جيش، لما كان السكون يلف الأرجاء بهذا الشكل.
لم تشعر بغير وجود ناديا. لا حتى صوت خافت أو وقع أقدام.
(التنين مورغ بارع في التحوّل، يقلّد هيئة البشر بمهارة).
لماذا خطر ببالها فجأة كلام فالنتين؟
ابتسمت ناديا بمرارة:
“كنت آتي كل عام مع كتائب الصيد وأنا أرجو لقاءك. منذ البداية لم يكن هدفي سوى أنتِ، يا أميرة.”
اتسعت عينا أديل:
“أنا؟ كنتُ هدفك؟”
“كنت أوقن أن الحاجز سينكسر يومًا ما. وإن حدث خلل، فسوف يكون بسبَبك. الناس يظنون التنين مجرد مخلوق مسعور، لكن قلة قليلة يعرفون السبب الحقيقي.”
انخفض صوت ناديا فجأة. (قلة قليلة؟) لم يكن أحد يعلم حقيقتها وعلاقتها بالتنين سوى ميخائيل وناديا.
بدأ الشك يتسلل إلى نفسها، حتى العثرات البسيطة في الكلام صارت تثير الريبة. بدا صوت أديل متوتّرًا، يشوبه حذر خافت:
“ألا توجد وسيلة أراها بعيني؟ أو برهان قاطع؟”
رفعت ناديا حاجبها:
“ترغبين أن تري بنفسك؟”
“ما أسمعه منك صعب التصديق. حتى مرور ثلاث سنوات لا أستطيع تقبّله.”
قهقهت ناديا بفتور:
“وهل كنتِ أصلًا تنوين أن تصدّقي؟”
تلوّن صوتها بالعصبية.
ترددت أديل ولم تجد ما تقول، فاكتفت بالصمت، فتنهدت ناديا طويلًا:
“آسفة، نفد صبري. أعرف أنه يبدو ككلام مبهم بالنسبة لك، لكن هناك وسيلة لأريك. تنحّي قليلًا جانبًا.”
ترددت أديل، ثم خطت خطوتين إلى الجانب.
وفجأة دوّى صوت تمزق هائل.
اخترق نصل أسود طويل الحاجز الشفاف، مغرزًا في الموضع الذي كانت تقف فيه قبل لحظة. كادت أديل تصرخ.
“يا إلهي…”
قالت ناديا:
“تمزيق الحاجز بالقوة يجعل السحر يتصادم فتتصاعد حرارة هائلة. أنتِ في مأمن، أليس كذلك؟”
“ن-نعم، لكن… هذا السيف، أهو…؟”
“أجل. حديد أسود من جبل فالوا. لا تسأليني كيف حصلتُ عليه الآن. يكاد جهدي ينفد.”
وببطء شديد أخذت تسحب النصل إلى الأسفل. كان صوت تمزق الحاجز أقرب إلى صراخ مروّع.
شقّت براحتيها مقدار شبرين تقريبًا، ثم سمعت أديل صوت ناديا تلهث بتعب.
ومن ذلك الصدع انبثق الضوء والصوت دفعة واحدة. أخيرًا استطاعت أديل أن ترى.
أول ما وقع بصرها عليه كان السماء القانية تعجّ بالدخان.
الغابة الجميلة لم يبقَ منها شيء، احترقت حتى صارت أرضًا قاحلة. وعلى البُعد، في السهل الفسيح، احتشدت جيوش لا تُحصى.
أعلام ممزقة ملطخة بالدماء ترفرف فوق رؤوسهم. كان المشهد جديرًا باسم “المقاومة الأخيرة للبشر.”
تمتمت ناديا بغلظة:
“لقد أنجبت فعلًا…”
لكن أديل لم تكن في وعيها لتلتقط كلماتها.
مدّت ناديا يدها عبر الصدع فجأة.
“أعيريني قوتك. سأريك كيف تبدّل العالم.”
ترددت أديل، ثم مدت يدها وقبضت عليها. وفي اللحظة ذاتها، اندفعت طاقتها السحرية كلها إلى جسد ناديا بقوة.
اهتز جسدها، شعرت بدوار وكادت تسقط، لكنها تماسكت بصعوبة.
وحين رفعت رأسها من جديد، انكشفت أمامها صورة “العالم”.
شهقت أديل بصوت مرتجف:
“يا إلهي…”
المدينة الخرِبة والمباني المنهارة، السهول والحقول المشتعلة، البشر المشوّهون والأطفال الهائمون في الطرقات باكين…
الأكواخ المرقّعة بألواح خشبية كيفما اتفق، والأقمشة المبتلة المتهدلة من المطر لم تكن تصلح حتى كمكانٍ يستريح فيه المرء.
الوجوه القليلة التي نجت بالكاد كانت تفيض حذرًا وشكًّا.
أينما وقع البصر لم يكن هناك سوى الشقاء والحزن.
“كذب…”
تمتمت وهي نصف غائبة عن وعيها. لكنها، أكثر من أي أحد، كانت تدرك أن هذا ليس كذبًا.
فإن كانت أوهام السحر العادية باهتة وغير واضحة كالحلم، فإن “العالم” الذي أرتها إياه ناديا كان متقنًا، واضحًا، ومفعمًا بالحياة.
ومن هنا عرفت: هذا واقع.
قالت ناديا وهي تترك يد أديل:
“ما أريتُك إلا أطرافًا من هنا وحسب. الطاقة التي أعرتِني إياها لم تسمح بأكثر من ذلك.”
رمشت أديل بصعوبة وهي تلهث. دموع انهمرت منها دون وعي فجعلت خديها مبتلَّين.
“…سأحاول إقناعه. حتى لو اضطررت للتوسل إلى فالتين…”
“لا. حتى لو تجاوزنا هذه المرة، فلن يظل الناس يحبون تنينًا مضطربًا كحاكم. ستصدر أوامر القمع دوريًّا. وأنت لا ترغبين في رؤية التضحية تتكرر كل مرة، أليس كذلك؟”
بالطبع لا. مطلقًا.
“إذًا أصغِي جيدًا من الآن. هذا هو السبيل لتعيشي أنت وطفلك.”
“طـ…فلي؟”
“الذي يسكن أحشاءك هو رغبة الحاكم ذاتها. تلك الرغبة التي أرادت أن تصنع للأميرة ‘قيدًا’ تجسدت في هيئة طفل.”
كان هذا أول ما تسمعه عن الأمر.
“لكن… لو كانت مجرد طاقة مقدسة منسكبة في الطبيعة لكان أمرًا آخر. أما أن تكون ‘رغبة حاكم’ بهذا القدر، فجسد طفل بشري هش للغاية ليحتملها. إن استمر الوضع هكذا فلن ينمو الجنين في أحشائك، سيسقط قبل أن يولد.”
حدّقت أديل في ناديا بعينين شاردتين.
جسد ناديا النحيل بدا وكأنه سيتفتت مثل ورقة جافة، ومع ذلك كان صوتها صارمًا لا يتزعزع.
أمسكت بيد أديل المرتجفة وفتحت كفها لتكون إلى الأعلى.
ثم وضعت فوقها سيفًا أسود طويلًا يشبه شوكة حادة.
“هذا ما أقترحه. أن نُقيّد الطاقة المقدسة مؤقتًا. لتهدأ غضبة التنين، وليُمحى كره الناس له من ذاكرتهم ريثما يولد طفلك وينشأ قادرًا على حمل رغبة الحاكم.”
انمحى التعبير عن وجه أديل تدريجيًا.
“أتريدين مني أن أقتله؟”
“لا، ليس القتل. فالعالم لا يحوي إلا سلاحًا واحدًا قادرًا على قتل حاكم. وللأسف، ذلك السلاح بحوزته.”
“…”
“لكن حديد فالوَا الأسود له خاصية امتصاص القوة وتحييدها. وهذا السيف هو أثمن وأقوى ما صُنع من ذلك الحديد. اغرزيه في قلب التنين.”
“…”
“الاختيار لكِ. إما أن تطعنيه فتنقذي طفلك والناس، أو تبقي صامتة وتشاهديه يفقد عقله ويسقط إلى مرتبة الوحش.”
كان صوت ناديا حلوًا كالعسل، حتى بدا وكأنه يقدّم حلًّا كاملًا. لكن أديل عرفت أن هذه الهمسات سمّ.
ومع ذلك ظلّت تنظر إلى السيف في كفها. المعدن البارد لم يوحِ لها إلا بالوحشية.
“…وبيتيتا؟ هل هي بخير؟”
“ماتت قبل شهر. سقط عليها مبنى منهار.”
“مـ، ماتت؟!”
“بما أن المبنى أسقطه التنين، فكأن التنين هو من قتلها.”
أخرجت ناديا من صدرها منديلًا.
وعرفت أديل أنه نفس المنديل الذي أهدته لبيتيتا. بداخله كان…
“احتفظت به عمدًا لأجل إقناعك.”
شعر أسود مضرّج بالدماء وأسنان صغيرة.
كان حقًّا يشبه بيتيتا… فغامت الدنيا أمام عينيها. كادت أن تختنق من العجز عن التنفس. تشبثت بيد ناديا كي لا تسقط.
“آه…”
عادت بذاكرتها إلى أنفاس بيتيتا الدافئة على عنقها.
إلى ابتسامتها المشرقة وهي تضمها، إلى خصل شعرها المتطايرة مع الريح، إلى أسنانها الصغيرة اللامعة كحبات لؤلؤ حين تضحك…
كل ذلك محطَّمًا أمامها.
“هناك أمر واحد عليكِ أن تحفظيه في هذا الوضع. هو لا يعنيه أحد غيرك. حتى في مسألة الحياة والموت.”
آه… ذلك. بكت أديل دون أن تدري أنها تبكي.
ولم تلحظ الابتسامة القاسية، غير اللائقة، التي ارتسمت على شفتي ناديا.
رفعت ناديا ذقنها المرتجف وأمالتها لتهمس بخبث في أذنها:
“وفي النهاية قد يصبح طفلك الذي في بطنك هكذا أيضًا.”
✦✦✦
لم تعرف بأي عقل عادت إلى المقر الكنسي. التحفت الفراش وانكمشت طويلًا حتى غلبها نوم عميق.
هل كان الشعور بالسعادة ترفًا يفوق ما تستحقه؟ لم تعد تريد سوى أن تنسى كل شيء.
حتى الدموع جفّت. أحست وكأنها ذابلة، يابسة وهي ما زالت على قيد الحياة.
[أديل.]
فتحت عينيها على لمسة تمسح جبهتها برفق. الليل قد حلّ. القمر المتسلل من بين الستائر المواربة أضاء ملامح فالتين الوسيمة.
[نمتِ طويلًا فأقلقني الأمر. هل تناولت شيئًا؟]
رأت أنه يُخرج من صدره فراولة وثمارًا خشبية. كان قد خبّأها طويلًا فصارت فاترة، لكنها بقيت ناضجة بلا خدش. ذلك اللطف أوجعها.
“…”
كم أرادت أن تنسى كل شيء وتهرب لتعيش معه فقط.
أن تتوسل إليه وتتشبث به… حتى لو أشار الجميع إليها بالعار. حتى لو فقد هو قواه المقدسة، حتى لو سقط لعنةً ووحشًا بلا عقل.
“عانقني.”
تمنت لو تموت معه في هذه اللحظة.
الانستغرام: zh_hima14
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 95"