-تنين-
ما إن نزلت أديلهايت الدرج حتى تجمّدت في مكانها.
على الضفة المقابلة من البحيرة، تجاه مبنى الكهنة، كان هناك شيء هائل جاثم.
ولأن الليل كان مضاءً بضوء القمر، استطاعت أديل أن ترى ملامح “ذلك الوحش” بوضوح.
(يا إلهي…)
لقد كان تنينًا. جناح واحد فقط من أجنحته الممدودة كاد يغطي نصف الملاذ، والقرون التي تعلو رأسه كانت بشعة كقرون شيطانٍ في الكتب المقدسة.
مخالبه وأسنانُه الحادة كانت مرعبة، أما قشوره التي غطت جسده فكانت كل واحدة منها بحجم نافذة.
ومع كل شهيق وزفير منه، كان الهواء يرتجف بذبذبات دقيقة.
(فالنتين؟)
كان التنين يتلوّى من الألم. لم يخرج منه أي صوت، لكن أديل أحست كأنها تسمع صرخاته الرهيبة بوضوح.
جسده كان مليئًا بجروح غائرة، ومن تلك الجروح تساقط دم داكن، يصبغ الأرض والبحيرة باللون الأحمر القاني.
أما جناحاه القويان، فقد كان أحدهما مكسورًا وملتويًا، يجر على الأرض ثقيلاً.
لقد انشغلت بالمنظر المهيب حتى لم تنتبه لأشياء أخرى.
لكن أكثر ما كان يعذّب التنين، حتى فوق كل تلك الجروح، هو الهالة السوداء التي التصقت بجسده بأسره.
كان يقاتل بيأس لينزع عنه تلك الطاقة التي تلتصق به.
ومن منظور بشرٍ مثلها، لم تكن تلك الهالة سوى سائل أسود لزج. حتى مع محاولاته المتكررة بانيابه الحادة ومخالبه، لم يفلح في انتزاعها.
(ما هذا بحق السماء؟)
كان مشهدًا غريبًا حد الرعب. فحتى في لحظات وجيزة من المراقبة، بدت تلك الطاقة كأنها تزداد قوة وتنتشر أكثر.
بعد معركة ضارية، لم ينجح التنين في التخلص منها إلا حين مزّق جزءًا من لحمه معها بأسنانه. عندها فقط اختفت الهالة نهائيًا.
[……!]
حين أخذ التنين نفسًا متقطعًا بصعوبة وارتجف جناحه المكسور، خطت أديل نحوه من غير وعي.
فانبعث من تحت قدميها صوت أوراق متساقطة وأغصان يابسة تُسحق.
في تلك اللحظة بالتحديد، وجه التنين نظره إليها، محدقًا مباشرة في مكانها.
“…….”
عندما التقت عيناها بعيني الوحش الصافرتين باللون الأصفر، تجمدت تمامًا في مكانها. كان توترًا كالسيف المشدود.
رغم أن بحيرةً شاسعة تفصل بينهما، إلا أن أديل شعرت بحدة نظره تخترقها بوضوح. فمسحت بكفها المبللة بالعرق راحة يدها على تنورتها.
أغمضت عينيها للحظة بفعل الريح التي هبّت فجأة، وما إن فتحتهما حتى لم يكن للتنين أثر.
“……ما هذا؟”
الدم الذي صبغ البحيرة، الطاقة المظلمة، وحتى القشور السوداء المتساقطة من جسده، كلها اختفت.
كأنها لم توجد أبدًا. هل كان ذلك حلمًا؟ أم مجرد وهم؟ وإلا فلا تفسير منطقي لذلك.
لكن، ما الذي قد يجعل فالنتين، ذاك الكائن السامي، يتألم إلى هذا الحد أصلًا؟
ربما كانت كوابيسها المستمرة في الأيام الأخيرة قد تجسدت أخيرًا كهلوسة أمام عينيها…
[لماذا خرجتِ؟ ألم يكن عليكِ أن ترتاحي أكثر؟]
لكن كلمات فالنتين بدّدت أملها في أن يكون ما رأته مجرد وهم.
رفعت أديل رأسها وحدّقت في الفراغ حولها، تبحث عنه، لكنه لم يكن في أي مكان.
آنذاك فقط شعرت بطاقة سحرية غير طبيعية تحيط بها. بدا أنه نشر حولها وهمًا سحريًا.
[ظننتُ أنك غطستِ في نوم عميق منذ زمن.]
وإذ لم تكن إرادته مجرد صوت، لم تستطع أن تحدد المسافة، لكن شعورًا ما أوحى لها أنه ليس بعيدًا.
“…أرجوك، أظهر نفسك.”
[تبدين مرهقة.]
شعرت بنسيمٍ دافئ يلامس جبهتها ووجنتيها.
هل كان لمسة من يده؟ أم زفرة من أنفاسه؟ لا تدري، لكن جسدها ميّز أنه فالنتين، فمدت يدها تحاول الإمساك به.
لكنها لم تمسك إلا بالهواء الفارغ.
“أين أنت؟”
[لماذا؟]
“لأن الأمر أشبه بالحديث مع فراغ.”
[ألم أخبركِ أن رؤية هيئة التنين ليست أمرًا محمودًا؟ كيف تجرأتِ بلا خوف؟]
“أتظنني سأرتعد من فالنتين الآن؟”
[أحقًا؟]
تسللت نبرة سخرية باردة إلى صوته، فاخترقت صدر أديل كسكين.
لقد كان محقًا؛ في الآونة الأخيرة ساد بينهما جفاء بارد. ينامان في المكان نفسه، تتناول طعامه بصعوبة… وهذا كل شيء.
لامبالاته تجاه الطفل كانت تُثير قلقها ومرارتها، مثلما كان فتورها يترك في قلبه جرحًا من الأسى.
إنه حاكم لا يُولد من جديد، وبالتالي فلن يكون بشرًا أبدًا، ومصيرهما أن يسيرا في خطين متوازيين لا يلتقيان، غير قادرين على فهم بعضهما بعضًا.
وهذا بالضبط كان رعب أديل الجوهري. رعبٌ متأصل، غرس جذوره في أعماق روحها، يمتص رطوبتها، ويُيبس أخصب أجزائها.
“…….”
أديل أدركت فجأة رائحة فالنتين.
ذلك العطر الذي يشبه غابة باردة لا يتسلل إليها الضوء، كان يذكّرها دومًا بأنه ليس بشرًا.
وبينما تتنفس ببطء، التقطت مع رائحته أثر الدم والرماد العالقين في الهواء. لقد كان قريبًا جدًا.
صدرها أخذ يعلو ويهبط بخفة.
[حتى إنك لا تحاولين إنكار الأمر.]
اهتز الهواء من حولها ثانية، خفيفًا. هل كان ضحكة؟ أم تنهيدة؟ همست أديل بتبرير واهن:
“بالطبع… ليس أنني لا أخاف أبدًا. لكن… كلماتك هي التي ترعبني.”
ماذا كان عليها أن تقول؟ أن من تجاوز الحدود منذ البداية هو هو؟ أن خوفها الأكبر أن يقتل طفلها؟ أن لو ماتت وهي تضع “المقدّس”، فهل سيعتني حقًا بذاك الطفل؟
كانت واثقة أن فالنتين، إن بلغت حياتها حدّ الخطر، فلن يتردد في “انتزاع” الطفل منها.
ربما لهذا، كلما رمق بصره بطنها مطولًا، كان الرعب يجمد أطرافها حتى تعجز عن الوقوف.
[لا حاجة لتبرير نفسك، أديل.]
اخترقت إرادته تيه أفكارها فجأة، فرفعت رأسها مدهوشة.
[حتى لو كنتِ تخافين مني، فلن أتركك أبدًا.]
مع ذلك الحكم البارد، ارتجف الهواء من حولها.
مثل حصاة سقطت على سطح ماء ساكن، انتشرت دوائر من الاضطراب ثم ما لبثت أن سكنت.
وانحسر الحجاب عن عينيها ببطء، ليظهر هو أمامها، في هيئة إنسان.
“يا إلهي…”
كان منظره مروّعًا. جسده غارق بالدماء والرماد والجراح.
لحم ممزق متدلٍّ، وعظام بارزة.
حدّقت به مرتجفة، عاجزة عن الكلام. منذ متى وهو بهذا الحال؟ منذ متى تجرّع كل هذا الألم؟
[قلتُ لك إنك ستُفاجئين.]
ارتسم ظل ابتسامة على إرادته. لكنها لم تفُتها النظرة الجريحة في عينيه حين رآها تتملكها الصدمة.
“طبعًا…! وقد أصابك كل هذا الأذى…”
[أتفهم أن منظري قد ينفرك. لذلك أنذرتك مسبقًا.]
“لا… ليس الأمر بشعًا، بل إنه… فظيع حدّ الوجع.”
[آه… وهل أصبحتُ الآن مثيرًا لشفقتك؟]
“ما الذي تفعلونه بحق السماء؟ أي حياة هذه التي تعيشها؟”
اتسعت عيناها بمرارة وهي تمسح بصرها على جسده. حتى الأسمال الممزقة كانت سترحمه أكثر من هذا الإهمال.
[من يدري.]
تفادى الجواب، واتجه نحو حافة البحيرة. ثم مزّق ما تبقى من قميصه الملطخ وطرحه أرضًا.
راقبته أديل وهو يغمس قماشًا في الماء، ويمسح ببطء الدم اليابس العالق بجسده.
كانت حركاته ثابتة، معتادة، كأنها طقس متكرر.
كم مرة تكررت هذه المشاهد في الأسابيع التي غابت هي فيها عن الوعي؟
“…فالنتين.”
[قلت لك، لن أجعل في حياتك ما يثقلك. كلمتي عندي.]
لكنها قرأت في وجهه ما لم تمحه المياه: إرهاق ثقيل متجذر.
وما إن انتهى من تنظيف الجراح حتى أغلقت بشرته، كأنها لم تُجرح قط.
هل يمكن أن يكون تعافيه بهذه السرعة فعلًا؟
“…”
تقدمت منه فجأة، وأمسكت بذراعه بقوة.
كانت الذراع نفسها التي انكشفت فيها العظام لحظات قليلة من قبل.
إن كان ما رأته مجرد وهم، لاهتز جسده من لمسة يدها، أو تراجع متألمًا.
لكنه لم يطرف له جفن، بل رفع شفتيه بابتسامة هادئة.
[منذ متى لم تمسكيني هكذا؟]
“…”
[يبدو أنكِ دومًا ضعيفة أمام ما يثير الشفقة. وبما أنني لست مثيرًا لشفقتك، فأنت لا تتورعين عن معاملتي بقسوة.]
“إلى متى سنبقى هنا؟”
[إلى حين. لماذا؟]
“الأمر يخنقني قليلًا.”
[حين تنقضي هذه الأمور، يمكننا الرحيل. سنبحث عن مكان أفضل لنعيش فيه.]
ثم جذبها إلى صدره عناقًا سريعًا، وأفلتها.
[هيا، أديل. لنعد إلى مأوانا.]
وقفت واجمة، تتابع ظهره وهو يتقدم داخل المقر الكهنوتي.
حين أفاقت، رمقت كفها اليمنى… فإذا بالدم يغمرها.
دم فالنتين.
غشّاها نذير شؤم ثقيل، يطبق صدرها.
✦✦✦
“إلى أين أنت ذاهب؟”
كان الفجر قد أطلّ، فانتبهت أديل لحركة حذرة إلى جوارها. فتحت عينيها بلمعان القلق.
[هناك مكان عليّ زيارته. الخارج خطِر، فابقي اليوم داخل المقر.]
“كما تشاء. لكن توخَّ الحذر أنت أيضًا، فالنتين.”
اتسعت عيناه بدهشة عابرة، ثم انحنى بابتسامة رقراقة.
ثم وضع قبلة خفيفة على جبينها الناشف.
[حسنًا، أديل. سأعود.]
وفي لحظة، انقلب إلى تنين، وحلّق عاليًا في السماء.
انتظرت حتى غاب عن ناظريها، ثم أسرعت ترتدي ملابسها.
لم يكن لديها متسع من الوقت.
الانستغرام: zh_hima14
التعليقات لهذا الفصل " 93"