تم تبسيط مراسم الجنازة وفترتها بشكل كبير، وبعد ثلاثة أيام فقط من إعلان الحداد، صعد ميخائيل إلى العرش.
كان للملك وريث بالغ، ومع ذلك بدا موته مفاجئًا وصادمًا للغاية. انتشرت الشائعات المقلقة في أرجاء البلاد وخارجها، وكان شعب نيورنبرغ بحاجة إلى كبش فداء يشد من أواصر وحدتهم.
وفي خضم ذلك، انعقدت محاكمة أديلهايت.
القضاة تباروا في إلصاق المزيد من التهم فوق رأسها، وكأنهم في سباق لا يشبع. تهمة تدنيس القداسة بمحاولة النذر بجسد غير عفيف، وتهمة ولادتها بروح فاسدة منذ البداية حُرمت بسببها من الموهبة السحرية، وتهمة لجوئها إلى طقوس مشبوهة لنيل القوة، وتهمة إغواء دمها ولحمها بلا حياء…
كل تلك التهم لم تكن لتُوجَّه لولا موافقة ميخائيل الضمنية.
وسرعان ما هوت سمعتها إلى الحضيض، حتى صارت شيئًا تافهًا وقذرًا، لا يستحق حتى الدوس عليه. وكأنها لم تكن إلا بقايا باهتة منذ البداية.
وفي كل مرة كانت تُهان بتلك الطريقة، كان ميخائيل يبتسم في المحكمة بابتسامة مشبعة بالنشوة. بدا وكأنه ينتظر اللحظة التي ستغدو فيها منهارة، ممزقة لا يجرؤ أحد حتى على الالتفات إليها.
وحينها فقط، عندما تصبح حياتك بائسة تمامًا، سألتقطك كما لو كنت خلاصك، ولكن على مضض.
كان أصل مشاعره جنون التملك، والأنانية، ورغبة فاحشة تقشعر لها الأبدان.
وكلما اقترب يوم النطق بالحكم، جفّت روحها أكثر، حتى إنها لم تعد تقوى على ابتلاع جرعة ماء واحدة. فهي تعلم أن ما سيفعله ميخائيل بها بعد نفيها، حين تبتعد عن أعين الناس، سيكون جليًّا كالنار على علم.
ووسط هذا الجحيم، كان الشيء الوحيد الذي عزّاها أن المعبد قبل الاعتناء ببيتينا. ومن حين لآخر، كان بعض الجنود يمرّرون إليها أخبارًا بدافع الشفقة؛ أخبارًا تقول إن الصغيرة تأقلمت بسرعة، وكأنها وُلدت لتكون جزءًا من المعبد.
تلك كانت بارقة الأمل الوحيدة المتبقية.
أنا منهكة…
سعلت أديل سعالًا جافًا وهي تسند خدها الهزيل إلى قضبان الزنزانة. وفي كل حركة، كانت الأصفاد المثبّتة على معصميها تُصدر صريرًا معدنيًا بغيضًا، وُضعت لتقمع قواها السحرية.
فجأة، التقطت حواسها خطوات تقترب. رفعت رأسها ببطء، لتكتشف بدهشة أن الوافدة إلى هذا السجن الرهيب لم تكن سوى امرأة… بل سيدة نبيلة.
“الأميرة أديلهايت.”
همست بشفاه متشققة: “…ناديا.”
نظرت ناديا بعينين متردّدتين إلى هيئتها البائسة، ثم أخرجت من صدرها كيسًا من النقود وسلمته للجندي المرافق. أخذ الجندي الكيس بعد أن نظر حوله، فمالت ناديا تقول بهدوء:
“أود أن تترك لنا بعض الخصوصية.”
“ولكن…”
“أنت تعلم أن لا سحر يمكن استخدامه هنا. لقد أخذت مالك، وعليك أن تؤدي واجبك.”
“…لا تتأخري إذن. سأكون قريبًا.”
أغلق الجندي الباب الحديدي، ثم صعد الأدراج. عندها فقط انحنت ناديا لتتساوى في النظر مع أديل. كانت أديل أول من تحدث.
“هذا المكان محرّم المرور. كيف تجرأتِ على مخالفة أمر الملك والمجيء؟ غادري قبل أن…”
قاطعتها ناديا بحدة: “لماذا لم تفعلي شيئًا بعد؟ لا بد أنكِ علمتِ بأمره.”
نظرت أديل إليها مطولًا. ما زالت صورة ناديا الخاضعة لميخائيل يومها عالقة بذاكرتها، ومع ذلك، ها هي اليوم تنزل إلى هذا القبو الكئيب، تلمع عيناها بإصرار غامض، وكأنها تدفعها لفعل شيء ما.
هل ما زالت في صف ميخائيل؟ هل هذا فخ؟ أم… أنها حقًا تريد مساعدتي؟
“ولهذا حذّرتك. لكنكِ لم تسمعي. أو ربما لم تُتح لكِ الفرصة لتسمعي.”
ظنت أديل أنها ستنكر أو تتنصّل، لكن ناديا أومأت باستسلام وأكملت:
“ومع ذلك، يا أميرة، لا أفهم كيف تقفين عاجزة هكذا. ألستِ حبيبة التنين؟ لو كنت مكانك، لفعلت المستحيل حتى أُخبره.”
“تُخبريه؟”
“طبعًا. لو علم، سيأتي لإنقاذك. لو أعطيتني الآن ما يثبتك… شعرة من شعرك الطويل مثلًا، سأ…”
“ناديا.”
نطقت أديل اسمها بهدوء، فتسعت عينا ناديا بادعاء البراءة.
“لم أقل يومًا إنني حبيبة التنين. ولم أفكر لحظة في أن أطلب منه المجيء إلى هنا. لا أريده أن يأتي.”
“لماذا؟”
“لأن هذا بالضبط ما يريده ميخائيل.”
“…”
“لو ظهر لإنقاذي وهاجم البشر، أي مشهد سيكون أفظع من ذلك؟ ثم إذا أشاعوا في المعبد أخبارًا عن التنين؟ سيصدر أمر المطاردة، وسيوجّه البشر أسلحتهم نحوه.”
“…”
“أليس هذا ما خطط له ميخائيل منذ البداية حين احتجزني هنا؟”
ابتسمت ابتسامة باهتة وهي تشير من حولها. كانت محقة.
فإلى جانب الأصفاد في معصميها، امتلأت الغرفة بأدوات عزل السحر. أي محاولة لدخول المكان بالقوة ستثير جلبة عارمة.
حدّقت ناديا بها بدهشة للحظة، ثم أطلقت ضحكة قصيرة، متفاجئة حقًا.
“لم أتوقع أن تكوني بهذا الذكاء، يا أميرة. لم يخطر ببالي أنكِ ستفكرين إلى هذا الحد.”
“أهذا يدهشك؟”
“قليلًا. ليتني تحدثت معك من قبل.”
خيم صمت ثقيل.
تأملت ناديا نظرات أديل المتعبة، كتفيها النحيلين، وجسدها الضعيف. شيء غريب لمعت به عيناها فجأة.
“أخبريني يا أميرة… كيف حال جسدك هذه الأيام؟”
“جسدي؟”
“هل تشعرين بتعب شديد؟ أو صعوبة في الحركة؟ أو تجدين صعوبة في ابتلاع الطعام؟ أعني مثل هذه الأمور… هل لديك مثل هذه الأعراض؟”
“مؤخرًا دائمًا هكذا… لماذا تسألين؟”
“أردت فقط أن أطمئن إن كان هناك ما يعيق راحتك.”
“وهل يمكن أن تكون الحياة مريحة داخل سجن؟ تسألين عن أمر بديهي.”
أجابت أديل بهدوء، لكن في داخلها كانت تجد أن احتمال البقاء على أرضية الزنزانة الباردة أصبح أثقل يومًا بعد يوم.
كان أسفل بطنها يتصلب بشكل متكرر، وألم ظهرها يزداد سوءًا. وبين محاولات الالتفاف بحثًا عن وضعية مريحة فوق الأرض الخشنة، لاحظت متأخرة أن وجه ناديا قد انعقد بقلق بالغ.
“…ناديا؟”
ارتجفت ناديا حين ناداها صوتها، وسرعان ما أعادت ترتيب ملامحها.
“آه… لقد تأخر الوقت. يجب أن أذهب الآن. سأعود مجددًا، فاعتني بنفسك يا أميرة.”
كان خروجها المفاجئ والمتوتر غريبًا بشكل أزعجها. وأثناء أن أديل تحدّق بالباب الحديدي الذي غادرته منه ناديا، أدركت فجأة… أنه اليوم العاشر، اليوم الذي وعدت فيه فالنتين بالعودة إليه.
✦✦✦
ربما لأن المكان بلا نوافذ؟ لم تعد قادرة على تمييز مرور الوقت. أو لعلها تخلّت منذ البداية عن محاولة العدّ.
ناديا عادت مرات عدة بعد ذلك، لتسألها عن أمور شتى.
“أهو غدًا؟ يوم صدور الحكم.”
“نعم.”
“لقد مرت شهران كاملان، أليس كذلك؟ أخيرًا سينتهي هذا الكابوس الممل. لا أصدق كم أطال الملك السابق المماطلة في هذه القضية، أمر يثير السخرية حقًا.”
“لكن من حسن الحظ أنها ستنتهي الآن.”
“لكن أديل، مظهركِ ليس على ما يرام… خذي هذا. إنها بطانية، غطّي نفسك بها.”
الآن صارت ناديا تناديها باسمها أحيانًا.
أديل قبلت البطانية شاكرة. البقاء في السجن صار يزداد صعوبة مع كل يوم.
جسدها أضحى أضعف، وحتى دورتها الشهرية التي لم تكن منتظمة أصلاً، انقطعت تمامًا منذ أسابيع.
“وجهك شاحب جدًا. هل أطلب من الملك أن يرسل لك طبيبًا؟”
“لا داعي. أخشى أن تتورطي أنت أيضًا، فلن يساعدني الملك أبدًا.”
“…إذن، ماذا لو أخبرتِ التنين الآن…”
“أنا بخير. على أي حال، سأُنقل قريبًا، ربما غدًا. الأهم من ذلك… كيف حال بيتينا؟”
“…”
“ناديا؟”
“آه… إنها بخير. طبعًا بخير.”
“هذا يطمئنني.”
ابتسمت أديل ابتسامة باهتة، لكن ناديا ضيقت عينيها بقلق لم تستطع إخفاءه.
“اهتمي بجسدك أولًا، بدلًا من القلق على الآخرين. انظري إلى حالك. سأعود لزيارتك ليلًا مرة أخرى، لا يمكنني تركك بهذه الحالة…”
تلك الليلة مع بزوغ الفجر، وكما توقعت ناديا، اجتاحتها قشعريرة حادة. صار بطنها وأسفل ظهرها يتمزقان مع كل حركة صغيرة.
التوت أديل على نفسها، عاجزة حتى عن إطلاق أنين. شعرت كأنها قطعة لحم تُسحق بمطرقة.
“يا إلهي…”
أفاقت من غيبوبة قصيرة لتجد نفسها بين ذراعَي أحدهم. تنورتها مبتلة، ورائحة الدم الحادّة تملأ أنفها.
“تماسكي، يا أميرة!”
“نا… ديا؟”
فتحت عينيها بصعوبة مع صفعة خفيفة على خدها. كانت عيناها المثقلتان بالحمى تغلقان رغمًا عنها.
“أنا متعبة… فقط دعيني أنام قليلًا…”
“إن استسلمتِ الآن، قد تخسرين حياتك! وقد تفقدين الطفل أيضًا!”
طفل؟
رغم الألم، ضحكت أديل ضحكة مشوشة. لم تفهم حرفًا مما قالته ناديا. وفي اللحظة التي شعرت أنها لم تعد قادرة على التحمل، غابت عن وعيها مجددًا.
[أديل. أنا.]
تسلل صوت حادّ، مقيّد بالغضب المكبوت، إلى وعيها المرهق.
رغم البرد والوهن، عرفت على الفور أنه صوت عزيز عليها. رفعت ذراعيها الواهنتين لتطوّق عنقه.
[قيل لي إنك بخير.]
“آه… فالنت… ين…”
[لماذا أراكِ هكذا؟]
الانستغرام: zh_hima14
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 91"