“أنتِ لديكِ ميل لتصديق كل همس يصل إلى أذنك كما هو، حتى بعد أن تدحرجتِ في قاعٍ لا يجرؤ الإنسان على الوصول إليه، ما زلتِ بريئة حد السذاجة.”
“…….”
“البابا الجديد سيفسر الوحي كما يجب. وبناءً على ذلك، سأصدر أمرًا بالتطهير. نيابةً عن الملك الذي فقد وعيه وسقط.”
أمر تطهير؟ عند سماع تلك الكلمات، هوت دقات قلبها إلى أسفل. الأمور كانت تنحدر إلى منعطف لا يمكن السيطرة عليه.
هل كان هذا ما حاولت الآنسة بارتيلديس أن تحذرها منه؟ أديل رمشت بعينيها المبللتين بالدموع، وحركت شفتيها المرتجفتين بصعوبة.
“لا أعلم لماذا تفعل بي هذا يا صاحب السمو.”
“وهل يحتاج الأمر إلى سبب؟”
“أيمكن أن يكون الأمر لأنك تحبني حقًا؟”
“حب؟”
ارتسمت على وجه ميخائيل ابتسامة ساخرة، كما لو أنه سمع للتو أضحوكة مضحكة.
“لو كنت أرغب بك، لأبقيتكِ منذ البداية مقيدة في حجرتي الخاصة كما أنتِ الآن.”
“…….”
“امرأة لا تستحق أن ألطخ نفسي بالعار من أجلها. وهذا ما كنتِ دائمًا.”
“…….”
“أنا راضٍ عن هذه القشرة التي أتنكر بها الآن، وبحسب أعراف البشر، فأنتِ آخر من يمكن أن يُسمح له بالارتباط بهذه القشرة.”
“…… إذن، لماذا بحق السماء؟”
“لأن ذاك الوغد أرادكِ.”
كان في صوته من الحقارة ما يثير الغثيان.
“ذاك الوغد الذي يعيش ويتمتع بما كان يجب أن يكون ملكي، ذاك الذي بلا اسم، تجرأ وتجاوز حدوده.”
“…….”
“آن له أن يذوق طعم أن يُسلب منه ما هو له.”
أديل نظرت إليه بعينين تمتلئان بالاحتقار. قد يكون شيئًا فظيعًا، لكنه لم يكن لتتخيله بهذا القدر من الانحطاط. لا يجوز لإنسان أن يسقط إلى هذا القاع.
لم يعد للكلام أي جدوى. وفي اللحظة التي حاولت فيها أديل استجماع قواها لكسر تعويذته السحرية بالقوة، وقع ما لم تتوقعه.
“……!”
جسد ميخائيل اهتز كما لو أنه تلقى ضربة. عبس، وخفض رأسه بحدة.
“ما هذا؟”
لقد كانت بيتيتا. يبدو أنها سمعت صرخة أديل قبل قليل واندفعت إلى المكان.
بجسدها الصغير ألقت نفسها بكل قوتها عليه. وجهها الطفولي كان محمرًا كالجمر، ولو استطاعت أن تصرخ لأطلقت صرخة مدوية.
قبضتاها الصغيرتان انهمرتا بالضرب على فخذ ميخائيل بلا توقف.
“آه.”
ابتسامة سخرية التوت على فمه.
“إذن هذا هو اللقيط الصغير الذي التقطته وربّيته؟”
مد يده وأمسك بتلابيب عنقها، رافعًا إياها في الهواء كما لو كانت دمية. أخذت الطفلة تختنق وتشهق بعنف، ومشهدها حطم قلب أديل حتى شحب وجهها كليًا.
“بيتيتا!”
عندها انفجرت طاقة عنيفة من جسد أديل، فمزقت تعويذة ميخائيل السحرية. ربما لأنها لم يعد لديها طريق آخر للتراجع.
تخاذل للحظة، وأديل لم تضيعها. خطفت بيتيتا من يده بسرعة.
ثم رمقته بنظرة ثابتة وقالت بصرامة:
“سأغادر الآن إلى المعبد المقدس.”
“لا. ستُسجنين في زنزانة القصر.”
“ولماذا عليَّ أن أطيعك؟ لقد أصبح بيدي الآن أن أختار مستقبلي.”
“أديلهايت، أيتها الفتاة الساذجة.”
ضحك ميخائيل كما لو أنه سمع نكتة. ثم ضاق بصره وهو يواصل:
“أنتِ تظنين أنني أسيء معاملة ذاك الذي بلا اسم، لكنني في الحقيقة كنت أصبر عليه.”
“…….”
“القوة الإلهية تولد من إيمان الناس. وذلك الإيمان لا يحتاج أن يكون حقيقيًا.”
“…….”
“فماذا سيحدث إن آمن الناس أن التنين لم يعد مقدسًا؟ ماذا لو صدقوا أنه مجرد كاذب يلطخ المعبد؟”
أديل بالكاد رمشت بعينيها.
“إن اختبأتِ داخل المعبد، فسأنشر الشائعات بأن التنين ساكن المعبد مخلوق دنيء. وأول من سيتصدر إنكاره سيكون المجلس الديني الأعلى. فهكذا هي السلطة.”
“…….”
“وماذا بعد ذلك؟ يمكنني أن أنثر الجثث حول أسوار المعبد، لتتسلل رائحة الموت إلى حيث تأكلين وتشربين وتنامين وتتنفسين. لتتحول حياتك إلى جحيم لا يُطاق.”
“…….”
“وذاك الذي بلا اسم لن يفهم حتى النهاية. لن يعرف لماذا تذبلين، ولماذا تختفي قداسته شيئًا فشيئًا.”
إلى أي حد خطط لكل هذا مسبقًا؟ كلما انسابت كلماته، تصاعد اشمئزاز أديل حتى بلغ أقصى مداه.
“هكذا إذن.”
ضغطت على ذراعها المرتجف كي تثبّت نفسها.
“لهذا حبستموه في المعبد. كي لا يراه الناس ولا يشعروا به. كي يتحول وجوده إلى مجرد سراب، إلى أسطورة بعيدة، إلى حكاية قديمة.”
كي يتخلى الناس عنه بسهولة، بلا ذرة ذنب.
“صحيح.”
ارتسم على وجه ميخائيل – ويا للدهشة – تعبير عميق من الرضا. بدا وكأن مجرد وجود أحد يفهم خططه الدنيئة ويستمع إليها كفيل بأن يمنحه لذة مشبعة. عندها تلألأ في عيني أديل بريق غضب بارد.
“أتظن حقًا أنه بعد كل ما فعلتَ سيظل متمسكًا بـ‘الوعد’؟ أليس الوعد قائمًا بالأساس على كرم فالنتين وحده؟”
“……فالنتين؟”
عيناه انكمشتا مثل عيني أفعى. وفي لحظة، تلاشت تلك البهجة الدنيئة التي كانت تشع منه.
“لقد منحتِ ذاك الذي بلا اسم اسمًا. لمجرد شفقة تافهة.”
“ليست شفقة. أنا… أنا حقًا…”
“إياكِ أن تتجرئي على القسم بمشاعرك تجاه كائن ليس بشرًا، يا أديلهايت.”
صوته فجأة أصبح ناعمًا على نحو كاذب. ارتدت أديل للوراء غريزيًا وهي تضم بيتيتا بقوة بين ذراعيها. أما هو، فأخذ يقترب منها بخطوات بطيئة.
“وتسألين إن كان سيحافظ على وعده؟ لا، ما كنت لأُخدع بمثل هذا الوهم الساذج. أنا لا أؤمن إلا بشيء واحد فقط، أديلهايت. بكِ أنتِ وحدك.”
“…….”
“أنتِ لستِ ممن يتخلون عن الآخرين طلبًا للراحة. كنتِ دائمًا عطشى لاعتراف الناس وحنانهم، متعطشة لتلك المحبة التي لم يمنحوكِ إياها يومًا.”
كلماته كانت ماكرة. مزّقت ما تبقى من قشرتها الصلبة، ولامست مواطن الألم الأشد هشاشة بداخلها، تضغط عليها كالمسامير على جرح قديم.
إنها غُرسة سُمّمت بها منذ طفولتها المبكرة، نوع من غسيل الدماغ المتكرر.
(إن لم تكوني موهوبة، فعلى الأقل كوني مهذبة وطيبة. تعلمي كيف ترعين الآخرين. لا تعاندي هكذا.)
(الأميرة الخامسة لا تملك ما يجعلها محبوبة على الإطلاق.)
قالوا إن قسوتها هي السبب في أنها لم تُولد بموهبة السحر والقوة. وإنها، لأنها ليست محبوبة، فهي لا تستحق الحب.
وقالوا إن “مثلها” ليس سوى ماشية يمكن بيعها متى اقتضت مصلحة الأسرة المالكة.
منذ ولادتها، كان ذاك القيد اللعين من الخطيئة يطوّق عنقها.
في لحظة شرود، كانت الفرصة سانحة. اقترب فرسان ميخائيل فجأة وانتزعوا بيتيتا من بين ذراعيها.
“توقفوا…! بيتيتا!”
قاومت أديل بكل قوتها، لكن قوتها الضعيفة، وهي بالكاد بدأت لتوها باستيقاظ سحرها، لم تكن تكفي.
سُحبت ذراعاها للخلف وقُيّدت، وأُجبرت على الركوع أرضًا كالمُهانة.
رفعت بصرها إلى الفرسان الذين يكبلونها، تتمعن في وجوههم واحدًا واحدًا، وكان من بينهم يواخيم.
وهناك، في عينيها، اشتعل لهيب كراهية حاد كالثلج الأزرق.
“أتظنون أنكم ستفلتون من العقاب بعد كل هذا؟ والدي الملك لن يغفر لكم.”
“آه، لا تقلقي بشأنه. سيموت قريبًا.”
عينيها اتسعتا في ذهول، عاجزة عن التصديق لما سمعت. الأسوأ من ذلك، أن الفرسان من حولها لم يظهروا أي اضطراب أو استنكار لهذا الخيانة العظمى.
“ماذا… ما الذي تهذي به…؟”
تسارعت أنفاسها، واهتز جسدها النحيل تحت وطأة الصدمة.
اقترب منها ميخائيل ببطء، انحنى وأمسك بذقنها ليجبرها على مواجهته.
النظرة الهادئة في عينيه أرسلت قشعريرة قاتلة على طول عمودها الفقري.
“أختي العزيزة، ليس لي أن أمنحك سوى رحمة واحدة. اعترفي بكل ذنبك في المحاكمة، وأقبلي بالنفي.”
“…….”
“عندها سأتوقف عن كل شيء. أمر التطهير، الشائعات حول ذاك الذي بلا اسم… كل شيء.”
أديل قبضت يديها المرتجفتين، تحاول أن تحافظ على رباطة جأشها. إن كان هذا “عرضًا”، فربما هناك مجال لتفاوض يمنحها متنفسًا.
“وإن أنا قبلتُ برغبتك… كم ستكون مدة النفي؟”
“إلى أن تموتي.”
وقع صوته القاطع كحكم نهائي. وفي تلك اللحظة، أبصرت أديل في أعماق خيالها صورة فالنتين في المعبد البعيد، واقفًا وحده في المكان الذي اعتاد أن ينتظرها فيه، مترقبًا عودتها التي لن تأتي.
“إلى أن يقتنع ذاك الوغد أنكِ تخلّيتِ عنه بالفعل.”
سيبقى محبوسًا في المعبد الذي صممه بنفسه، أسيرًا للأبد، يتآكله الوهم المرير بأنها تركته إلى الأبد.
“…….”
فخ خانق. لا هروب منه ولا إنكار له. ومع إدراكها لهذه الحقيقة، خمدت جذوة إرادتها التي كانت تتقد قبل قليل، كجمرة أطفأها المطر.
فجأة، انزلقت دمعة وحيدة على خدها.
“وكيف لي أن أثق بأنك ستفي بكلامك؟”
“نحن، أمثالي وأمثالك، لا نطلق وعودًا جزافًا. وجودنا ذاته يتغذى من إيمان البشر، وإن خنا ذلك الإيمان ضعفنا وانحدرنا إلى الهلاك.”
“…….”
“أعدك. ما دمتِ تطيعين إرادتي، فلن ألمسه. أقسم باسم مورغ.”
“ولكن….”
ارتعش صوتها بشكل مخزٍ. شدّت على أطراف ثوبها لتكتم خوفها، متمسكة بآخر ذرة من كبريائها.
“ماذا ستجني من كل هذا؟ ما الذي ستكسبه إن فعلتَ بي هذا؟”
“أديل، ليس مكسبًا. إنه عقاب. عقاب لذاك الذي بلا اسم.”
وفي الخرائب التي تصاعد منها دخان خانق، جلس “الظل” مستريحًا كأنما في مجلس نصر، وهمس:
“عقاب على خيانة الوعد، وعلى جُرأة أن يشتهي ما هو ملك للبشر.”
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 90"