-اختلاف في التفكير-
“نعم. نمتُ جيدًا……”
همست وهي تدفن نصف وجهها المحمّر في الوسادة.
عندها كان فالنتين يتظاهر بالجهل، فيجذبها إليه، ويطبع قبلةً رقيقة على جبينها الأبيض المكشوف.
وحينما كانت أديل بين ذراعيه الصلبة، كان بوسعها أن تسمع خفقان قلبها يتسارع.
كل لحظةٍ كان يتأملها فيها بعين المحبة، أو يُصغي إلى صوتها، بدت لها كأنها حلم ليس إلا.
“فالنتين، أيمكنني أن أسألك شيئًا؟”
[تفضلي.]
“أنت تنين… فكيف لك أن تتخذ هيئة بشرية؟”
[آه، هذا.]
داعب خصلات شعرها الأمامية وابتسم ابتسامة خجلى بعض الشيء.
[بصراحة… ليس سوى تقليد لهيئةٍ أخرى. فالعين البشرية لن تطيق رؤية الجسد الحقيقي للتنين.]
“وهيئة أخرى تعني…؟”
[وجه الحارس القديم لهذا المكان. استعرت هيئته مؤقتًا لأن لون عينيه يشبه عيني.]
“……”
[أتشعرين بخيبة أمل؟]
اتسعت عيناها ونفت برأسها. لقد صار فالنتين بالفعل أقرب إليها من أي كائن آخر.
هو الحاكم الذي منحها السحر، والرائد الذي فتح أمامها طريق حياة جديدة، وبغضّ النظر عن كل ذلك… كان أصل القداسة، التنين نفسه.
ما أهمية أن يكون جسده “فظيعًا” في عين البشر؟ ذلك لم يغير شيئًا.
“كلا. لقد كان محض فضول لا غير. سمعتُ أن في المعبد أحيانًا يستضيفون “ضيوفًا”، لكنني لم أتوقع أن يتخذ التنين هيئة بشرية. حسبته مجرّد تعبير رمزي فحسب……”
[قديماً… كنتُ أمضي بعض الوقت مع البشر الذين أقاموا هنا.]
وكأنه رأى أن شرحه ناقص، أضاف:
[ذاك الفتى يرسل إليّ رسلاً لئلا أظل وحيدًا، فلا يسعني أن أتجاهله تمامًا.]
“ذاك الفتى؟”
[إنه توأمي، ظلي ــ مورِغ.]
مورغ… لم يسبق لها أن سمعت بهذا الاسم.
فما تعرفه أن التنين لم يُدعَ يومًا إلا “أصل القداسة” أو “التنين”. أن يكون له توأم وظل؟ وأن يُنادى باسم؟!
ولعل فالنتين قرأ دهشتها فأوضح:
[إنه مسكين… يحب البشر ويعيش بينهم. بارع في التحوّل، فيُحسن تقليدهم.]
“يعيش بين البشر؟ هل فهمي صحيح؟”
[نعم. ليس له قوة سوى التقليد. فالبقاء هنا لا يناسبه، يفضل أن يعين البشر في حياتهم. لذلك يحمل في قلبه ضغينة تجاهي.]
“ضغينة؟”
[يظن أنني سلبته ما كان من حقه. ولستُ أقول إنه مخطئ.]
“……”
[ولهذا منحته الاسم الذي كان في الأصل مقدّرًا لي.]
إن كان ما فهمته صحيحًا، فـ “مورغ” كان ينبغي أن يكون اسم التنين نفسه، غير أن فالنتين قد منحه لظله.
“أتقصد أن الاسم الذي كان لك قد وهبته لظلك؟ ولهذا لا اسم لك أنت؟”
[بل صار لي اسم. أديلهايت، أنتِ من منحني إياه.]
تذكرت أديل لحظة لقائهما الأول. حين قال لها إنه بلا اسم، وأن لها أن تناديه بما تشاء… لم تدرك آنذاك ما كان يعنيه.
[لقد حان وقت النهوض.]
كان ضوء الشمس قد انسدل فوقهما. فأفلتها برفق من بين ذراعيه، ونهض عن السرير.
ثم مدّ ذراعيه عاليًا وتمطّى. وتحرّكت عضلات ظهره المرنة بقوة كلما تحرك.
“……”
شعرت أديل بشيء من الأسف وهي تتبعه لتنزل إلى الأرض.
وبينما فتحت النافذة وجذبت الستائر، كان فالنتين قد رتّب الأوراق التي بعثرتها البارحة على الطاولة.
[تعالي. لنتناول الإفطار أولًا.]
وإذا بالكتب والأوراق تختفي، لتحلّ مكانها أطباق عامرة بفاكهة الموسم الطازجة وكوب ماء.
اتسعت عينا أديل من الدهشة.
“هل خرجتَ إلى الغابة؟”
[نعم.]
لم تشعر حتى بخروجه… جلست على الكرسي، فقرّب الطبق منها.
كانت الفاكهة كلّها مما تحب: توت العليق، وعناقيد العنب، والتين، والبرقوق.
وقد قضت نحو أسبوعٍ تقتات على الفاكهة بدل الطعام الحقيقي، فظن فالنتين أنها غذاؤها الأساسي. تناولت حبّة توت بابتسامة شاكرة.
“شكرًا لك. سأستمتع بها.”
[أتراكِ تشبعين حقًا من هذا؟ الكهنة الذين سبقوك كانوا يأكلون الحبوب والخمر واللحم، لا ثمار الغابة والماء.]
“لكل إنسانٍ ذوقه. وأنا أحب الفاكهة.”
[هُم.]
أسند ذقنه إلى كفه وظل يراقبها وهي تأكل.
كانت نظرته الثقيلة تربكها، لكنها أخفت الأمر. فقد أدركت الآن أنه يتعلم البشر من خلالها.
وضعت حبّة توت أخرى في فمها، وما إن انفجرت حلاوتها اللاذعة على لسانها حتى ارتسمت على وجهها ابتسامة عفوية.
[تبدين مسرورة.]
“طعمه رائع. جرب واحدًا، فالنتين.”
[لستُ بحاجة للطعام. لو كنتُ جسدًا ميتًا أُكره على السكنى فيه، لاحتجتُ إلى ذلك كي أستهلك طاقة، أما الآن فمجرد هيئة متغيرة.]
“لكن لا بد أن لك حاسة تذوّق. جرب إذن.”
تناولت حبّة توت وقدّمتها له.
ثبت نظره عليها لحظة، ثم انحنى وأطبق فمه لا على التوتة فقط، بل على أصابعها الحاملة لها أيضًا.
احمرّت وجنتاها بشدة وهي ترى أصابعها تختفي بين شفتيه.
(يا إلهي……)
أسنانه المتناسقة دغدغت بشرتها بنعومة. نصف جفنه المتهدل، وشفاهه الملتفة حول يدها… كان كل ذلك مفعمًا بالإغواء.
[طعمه لذيذ. حلو.]
أخيرًا أفلت فالنتين يد أديل وهو يبتسم ابتسامة سلسة.
ساورها شعور غريب، كأنما لم يكن يتحدث عن التوت الأحمر، بل عنها هي نفسها.
[وجهك احمرّ يا أديل.]
كان في صوته ضحكة خافتة تفيض من إرادته. مدّ يده يلامس خدها المتصلب من الصدمة.
[بماذا تفكرين لتصنعي مثل هذا الوجه؟]
منذ أن وعدها بألّا يقرأ إرادتها، اعتاد فالنتين أن يسألها مباشرة عن أفكارها. غير أن هذه المرة…
كانت نبرته تحمل بوضوح رغبة في ممازحتها.
تسمرت نظرات أديل في حيرة. ألم يقل إنه لم يرَ امرأةً من قبل؟ فكيف أدرك على الفور خجلها؟
“لم أتوقع… أن تعض أصابعي هكذا. بين البشر يُعد ذلك فظاظة.”
[إن كنتُ أزعجتك فأنا أعتذر.]
كان اعتذاره مباشرًا وصافيًا، فرفعت أديل بصرها إليه مدهوشة.
مرّر يده على وجنتها البيضاء بنظرة هادئة، ثم فجأة، كما لو عن سهو، ضغط شفتيه على شفتيها.
فتحت شفتاها المبللتان بعصارة الفاكهة تحت قوته.
[لكن، أديل.]
كانت عيناه وهما تتأملان شفتيها تشتعلان بعطشٍ متقد. جفاف فمه فضحه، وامتلأت النظرة برغبةٍ فاضحة.
[هل سيكون لعق شفتيك أيضًا فظاظة؟]
“…….”
[هاه؟ كما في المرة الماضية، حين شاركتك قوتي.]
آدمه المتوتر يصعد ويهبط بصعوبة، لسانه يبلل شفتيه اليابستين مرارًا، وعروق بارزة على ظهر يده.
إله يجهل تمامًا ما يشتهي، ويستأذن فانٍ في رغبةٍ نهمة… كان في براءته جمال لا يُحتمل.
تأملت أديل المشهد لاهثةً دون أن تشعر.
“…….”
في الحقيقة، لم يكن ذلك فظاظة. كانت هي الأخرى ترغب به. حتى لو أفسد جوهرها، حتى لو تجاوز حدودًا فادحة، لظلّ ذلك يرضيها.
وقد أجّج الشعور الذي لامسها قبل قليل نار اندفاعها.
وفي اللحظة التي قرأ فيها إذنها الصامت من عينيها، انحنى فالنتين وابتلع شفتيها بالكامل.
اتسعت عيناها الخضراوان فجأة، ثم ما لبثت أن غشيهما نشوة غائمة.
كان مختلفًا. لم يكن كما في المرة السابقة، حين اكتفت بشفاه متلاصقة لتتلقى القوة.
لقد كان بارعًا أكثر مما تحتمل. أما هي، فكانت وحدها غارقة في الارتباك والذهول.
شفاهه تتحرك بخفة ونعومة، والحرارة التي تندلع بينهما، والأنفاس المتشابكة… كل شيء كان لأول مرة، وكل شيء كان طاغيًا.
جحيم لذيذ يفضي إلى جنةٍ مسكرة.
وحين ضاق نفسها إلى حد العجز، تركها برفق. اهتز ظهرها النحيل كله من فراغ شفتيها المبتعدتين.
نظر إليها بعينين مثقلتين وهو يرى ارتباكها العاجز عن ضبط أنفاسها، ثم سأل فجأة:
[غدًا… هو اليوم الذي تغادرين فيه لتؤدي نذرك الأبدي، أليس كذلك؟]
“نعم. غدًا.”
فجأةً اختفى التعبير عن وجهه.
[لا أريد أن أرسلك.]
“إنها مرة واحدة فقط. عشرة أيام وتمرّ سريعًا. وبعد أن أتم النذر، لن أبتعد مرة أخرى.”
[… حسنًا.]
انحنى ببطء يضمها بقوة، كأنه لا يطيق أن يتركها. ضغط ذراعيه حول خصرها بصلابة.
وكان ذلك يسعدها. أن يطمع بها. وضعت وجنتيها المشتعلتين على صدره، مطمئنةً في أحضانه.
وانشغلت بالبحث عن الطمأنينة، حتى إنها لم تلحظ ملامحه المتبدلة.
****
افترقت شفاههما بترددٍ مؤلم. التقطت أنفاسها المتقطعة بصعوبة.
[غدًا… هو اليوم الذي ستغادرين فيه وتعودين.]
“نعم. غدًا.”
أجابت وهي تهز رأسها، غير أنها شعرت فجأة بغرابة. كأن شيئًا ما ينحرف عن مساره.
حدقت حولها متوجسة. كانت الغرفة مغمورة بالشمس. كل شيء مثالي، لا خطأ في هذا الحصن الآمن الذي يجمعها به.
[لا أريد أن أرسلك.]
مسحت شعور الغرابة وابتسمت بصفاء.
“سأعود سريعًا.”
****
[غدًا…؟]
“نعم. غدًا.”
أجابت بعادة مألوفة، ورغم ذلك، كان هناك خطب ما.
كأنها عاشت هذا الموقف من قبل. مرة… لا، مرات كثيرة. أفي حلمٍ كان؟ أم هو مجرّد وهمٍ متكرر؟
[أديل؟]
نطق اسمها، فانتفضت ورفعت رأسها.
وفي اللحظة التي التقت فيها عيناهما، وقد ضاقت شكًا، أيقنت فجأة.
اليوم نفسه يتكرر. وقد استمرّ الأمر إلى ما لا نهاية يمكن عدّها.
****
[غدًا…؟]
“لا تفعل.”
ضاقت عيناه قليلًا عند ردها.
[ماذا تعنين ألّا أفعل؟]
الانستغرام: zh_hima14
التعليقات لهذا الفصل " 85"