لم تستطع أن تصدق أن الكلمات الحمقاء التي خرجت للتو قد نطقت بها هي نفسها، كما لم تستطع أن تصدق أن الرجل الواقف أمامها وجوده حقيقي، إذ كان يبدو غريبًا عنها بقدر لا يُصدق.
هذا المكان هو “المحراب المقدس”، تحرسه فرسان المملكة بحزم من أطراف الغابة، والبوابة لا تُفتح إلا في الأيام المخصصة لإيصال حاجيات المعيشة. فكيف يمكن لرجل غريب، لا كاهن ولا مقيم، أن يوجد هنا؟ الأمر من أساسه لا يستقيم.
سكون ثقيل لفّها. هل يكون إذن كائنًا خطرًا لا إنسانيًّا؟ رفعت يقظتها إلى أقصى حد وهي تراقب ذلك الدخيل بحذر.
لقد بدا الرجل أشبه بآلهة الأزمنة القديمة، ليس في هيئته فقط بل حتى في ملبسه. ثوبه الطويل الهيمايتون انسدل حتى غطّى قدميه، وشعره الأسود الطويل كان مربوطًا عند أسفل ظهره، بينما أشعة الشمس تنزلق على بشرته فتشع منها ومضات براقة.
رغماً عنها اضطرت أن تعترف بجماله، جمال ساحر لدرجة تبهر النظر، لولا أنه كان مريبًا إلى أقصى حد.
وبينما كانت تحدق فيه مذهولة، لم يُبدِ الرجل أي اهتمام بها أو بالحديقة التي كانت تعمل بها، كأن وجودها لا يُساوي شيئًا يُذكر.
‘لا بد أن أبتعد أولًا.’
ما إن همّت بالانسحاب إلى ظل الأشجار حتى التفت الرجل فجأة نحوها. تقاطع بصرهما، وارتجفت ملامحه الصافية المذهلة حين وقعت عيناه الذهبية البراقة عليها.
[هم؟]
في اللحظة ذاتها، انحنت بجسدها كما لو تلقت ضربة قوية. إرادة جبارة اخترقت رأسها مباشرة، فاهتز جسدها بعنف، وانقطع نفسها، وتهاوت ركبتاها تحت وطأة قوة مجهولة جعلت دموعها تنهمر وهي تسقط أرضًا.
بدت على ملامحه لمحة ضيق عابرة، كأن الأمر لم يكن مقصودًا.
[آه… لقد نسيت.]
وهي تبكي وتغمض عينيها، لمحَت قدميه عند مجال بصرها الضيق. لقد اقترب منها بالفعل. هناك، في لحظة رعب، أدركت الحقيقة: لم يكن له ظل. لم يكن إنسانًا.
[لقد مر وقت طويل… حتى نسيت.]
ارتعشت أهدابها وهي ترفرف بعينيها بسرعة محاولة طرد الدموع، لكن الغرابة زادت: مع هذا الخوف الساحق، لم يتولد في نفسها أي دافع للهروب. قبضت بيدها المرتجفة حتى تكسرت أظافرها في راحة يدها.
قلبها يخفق بعنف، يكاد يخرج من صدرها، دون أن تعرف السبب الحقيقي: هل من الخوف؟ أم لشيء آخر؟
[اهدئي. لن أؤذيك.]
جاء صوته دافئًا على غير المتوقع، لينًا كنسيم. تماسكت قليلًا وسندت يديها على الأرض، وأجبرت نفسها على الكلام:
“إرادة”. قليلون للغاية من يملكون القدرة على مخاطبة الآخرين بهذه القوة الروحية.
انتظر حتى استعادَت شيئًا من أنفاسها، ثم سألها بصوت هادئ:
[لكن، أظنك وجهًا جديدًا لم أره من قبل؟]
“أنا… الكاهنة المرسلة في هذا النذر…”
[آه.]
رفع بصره متأملًا ثوبها الأبيض. كما كانت هي مذهولة بهيئته، بدا هو أيضًا مأخوذًا بملابسها الكهنوتية. وكأن ردود فعله تشير إلى شخص استيقظ من سبات امتد لقرون.
‘مهما يكن، فمثل هذا لا يمكن أن يكون بشرًا.’
وقفت بخطوات مرتجفة، وضمت يديها أمام صدرها باحترام.
“أأنت… تنين؟”
رفع الرجل رأسه ونظر إليها مباشرة.
[ولِمَ ظننتِ ذلك؟]
الارتجاف بدأ يخفت، لكنها أجابت بثبات:
“لأن هذا الحرم هو غابة حيث ترقد القداسة… إنه محراب.”
[ما زلتم إذن تدعون القداسة “تنينًا”.]
“التنين هو من وهبنا المانا، ومنحنا القوة السحرية. أنُشكك في وجوده بينما نحن في غابته المقدسة؟”
كانت قد بدأت تتأقلم قليلًا مع وطأة إرادته، حتى أن نبرة حادة تسللت في كلماتها دون قصد. لكنه لم يغضب، بل ارتسمت ابتسامة ماكرة على شفتيه، وانحدرت عيناه الذهبية كالقط.
[لكنني لا أرى فيك أي أثر لتلك القوة.]
طعنها في أعمق جرحها. أطبقت على شفتيها بقوة، غير قادرة على الرد.
[على أي حال، هل يمكنني العبور إليك؟]
تجمدت لحظة، ثم رفعت نظرها لتلتقي بعينيه. لم يكن من النوع الذي يتكلف التهذيب، هذا ما فهمته في دقائق معدودة. فهل سؤاله لمجرد حفظ المظاهر؟ أم لسبب آخر؟ ترددت قبل أن تسأله:
“هل لك مطلب محدد؟”
[أنا عطشان.]
“لكن… في الغابة ماء يكفيك.”
[لا تظني أنني سأُهين نفسي وأشرب كالوحوش على ضفاف البرك.]
لم تملك حيال هذا الرد إلا أن تستسلم. ثم تذكرت “الدليل” الذي وُجد في المطبخ، وكان فيه توصيات غريبة عن الاحتفاظ بأجود أنواع الشراب تحسبًا لزائرين.
‘هل كان يقصد… مثله؟’
لم تعرف. لكنها عزمت على التوقف عن التفكير. فلو لم يكن إنسانًا، فما كانت تملك حيلة لتمنعه. الأمر أشبه بمواجهة كارثة.
رفعت رأسها أخيرًا وقالت بصوت منخفض:
“…تفضل بالدخول.”
حينما ابتعدت عن مدخل السور، دخل الرجل إلى الداخل بخطوات طبيعية كأنه يعرف المكان مسبقًا.
أديل، وقد فوجئت برؤيته يتجه بمهارة نحو مقر الكهنة كأن الأمر مألوف لديه، أسرعت خلفه بخطوات مترددة.
“هل سبق لك أن زرت هذا المكان من قبل؟”
[من يدري.]
“يبدو وكأنك معتاد عليه… هل التقيت الكهنة السابقين ربما؟”
[قد يكون.]
عضّت أديل على باطن خدها بتوتر.
‘لا يخبرني بشيء ومع ذلك يجيب على كل سؤال، لِمَ يفعل ذلك؟’
وبينما كانت تتمتم في داخلها، توقف الرجل الذي كان يمشي أمامها، ثم استدار نصف جسده نحوها ونظر إليها.
ارتبكت أديل، واتسعت عيناها دهشة، فارتسمت على شفتيه ابتسامة ناعمة.
[صوتك يعجبني، وإجابتي ستجعل حذرك يزداد.]
“أ… أنت… لقد، لقد قرأت… أفكاري…!”
[كونك لا تنطقينها لا يعني أنها تختفي من وعيك، فلماذا تندهشين من أمر بديهي؟]
في لحظة واحدة، احمرّ وجه أديل حتى صار كالجمر. أسرعت متقدمة عليه وفتحت باب المطبخ.
مضت يومان فقط منذ مكثت في المعبد، ورغم أن الأمر بدا غريبًا أن تتصرف وكأنها في بيتها، فإنها قررت أن تُحضر له الماء بسرعة لتتخلص من وجوده.
“انتظر قليلًا.”
أخرجت كأسًا نظيفًا من الخزانة، وهمّت بملئه من الحوض. لكن الحوض، الذي كان حتى الصباح يفيض بالماء العذب تلقائيًا، كان الآن جافًا تمامًا، لا أثر فيه لقطرة.
“الماء…”
حين التفتت لتخبره بعدم وجوده، فوجئت بأنه يمسك بدفتر “الدليل” الخاص بها ويطالعه.
كان من المفترض أن تغضب لأنه تجرأ على لمس أشيائها، لكن لسبب ما لم تستطع. ربما لأنه لم يُخفِ يومًا أنه ليس إنسانًا، أو ربما لأن وقفته الواثقة وهو يقلبه أعطت انطباعًا غريبًا.
أو لعل السبب كلاهما معًا.
“سيدي، الماء غير موجود…”
رفعت صوتها قليلًا، لكنه ظل منشغلًا بالدفتر القديم، لا يرفع رأسه. كان وكأنه يبحث عن شيء محدد فيه.
‘ترى، ماذا يريد أن يجد؟’
“سيدي.”
لم تدرك أديل أنها بلغت حد التوسل بالاهتمام إلا حين انتبهت فجأة إلى أنها حتى الآن لا تعرف اسمه.
وبينما كانت تنظر إليه بقلق وارتباك، أجاب أخيرًا من دون أن يرفع رأسه:
[قولي.]
“بأي اسم أناديك يا ترى؟”
عندها فقط رفع عينيه عن الدفتر. نظر إليها وفي عينيه بريق فضول وود لم يكن موجودًا من قبل.
ارتجف كتفاها أمام هذا التغير المفاجئ.
[ناديني كما تشائين.]
“إن قلت ذلك… فسأجد صعوبة في اختيار الاسم المناسب…”
[الأمر لكِ، فبأي اسم كان، لا بأس.]
هل كان هذا يعني أنه لا يريد إخبارها باسمه الحقيقي، أم أنه لا يرى قيمة لأي اسم؟ من هيئته بدا وكأنه يميل إلى الاحتمال الثاني.
ترددت أديل قليلًا ثم سألته من جديد:
“أما كان لك لقب أو اسم يُنادى به في السابق؟”
[لست متأكدًا. الناس بين أنفسهم بدّلوا الألقاب عبر الأجيال، لكن لم يكن لي قط اسمٌ خُصص فعلًا لمناداتي به.]
قال ذلك وهو يغلق الدفتر بعد أن قلبه حتى آخر صفحة، ثم أعاده إلى مكانه. التقت عيناه بعينيها، وارتسمت على شفتيه ابتسامة سلسة.
[إذن، ناديني كما يحلو لك.]
“…….”
[فأنتِ أول إنسانٍ يرغب حقًا في مناداتي.]
ابتسم حينها بملامح شاب يافع، مفعم بخفة غريبة، رغم أن وجوده نفسه كان يفيض رهبة وغموضًا.
‘إن لم يكن تنينًا… فهل هو أحد كائنات الغابة المرعبة، تلك التي يُقال إنها تستدرج الأطفال لتلتهمهم؟’
أديل، وهي تعرف تمامًا أنه يقرأ أفكارها، أصرّت رغم ذلك على التمسك بهذه الخيالات المرعبة. كان ذلك أهون عليها من أن تفكر بجاذبيته الغامرة، أو أن تعترف برغبتها الغريبة في أن ترتمي بين ذراعيه.
[همم؟]
كان، بمعايير البشر، شديد الفتنة. وكان واضحًا أنه يعرف تمامًا تأثير جاذبيته على الناس. لذلك أجابت بحدة متعمدة:
“حتى لو منحتك اسمًا، فلن يعني لك شيئًا.”
[من يدري… أظن أنه بدأ يكتسب معنى بالفعل.]
“…….”
[لقد أصبحتُ فضوليًا بشأنك.]
الانستغرام: zh_hima14
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 83"