“سمعتُ أنك توسلتَ إلى والدي الملك أن يسمح لك بأن تؤدي نذرك ككاهنة في الملجأ.”
عرفته من أول نظرة. كان ولي العهد، ميخائيل.
لكن… هل يعقل أن هذا الرجل الذي يقف أمامها هو حقًا ولي العهد الذي عرفته من قبل؟ صحيح أن ملامحه لم تتغير، لكن الأجواء التي تحيط به كانت مختلفة كليًا. ابتسامته المصطنعة التي كان يرسمها في كل مرة يلتقيها فيها اختفت تمامًا، وحلّت مكانها نظرة حادة مشبعة بملل قاتل.
‘ثم إن ثيابه… كأنها تعود إلى زمن بعيد جداً…’
زمن بعيد؟ نظرت أديل بعينيها ببطء، كما لو أنها غفت لبرهة واستيقظت لتوها.
‘لماذا فكرتُ بهذا الشكل؟’
الأسئلة بدأت تتوالى دون توقف. لم تكن تعرف حتى أين هي الآن.
خفضت نظرها بتشتت نحو جسدها. كل شيء كان مبعثرًا ومشوَّشًا. لماذا هي مطروحة على الأرض؟ لماذا تبللت ثيابها بمياه كريهة الرائحة؟ ولماذا تتعرض لهذا التحقيق القاسي؟
وفالنتين… أين هو؟ لماذا تركها هكذا وحدها؟
‘فالنتين؟’
رمشت بعينيها بذهول. من يكون ذلك؟ من كان صاحب هذا الاسم؟ عضّت شفتها السفلى بلا وعي.
لم تعرف السبب، لكن القلق كان يتصاعد في صدرها. لا بد أنه شخص قريب جدًا منها… وإلا، فلماذا يكفي أن تنسى اسمه لتشعر بهذا الاضطراب؟
‘لكن من يكون حقًا؟’
تجهمت وهي تفتش في ذاكرتها بقلق. صوته… ملامحه… طريقته الحنونة في مناداتها باسمها…
كانت على وشك أن تمسك بخيط من الذكريات الغائمة، لكن في تلك اللحظة—
“هع.”
شدّ ميخائيل فكها بيده القاسية ورفع وجهها بعنف.
“هل خرب سمعك أيضًا؟”
“… سمو ولي العهد. ستتسخ يداك.”
كان من تدخّل هو الفارس الأشقر الذي يقف خلفه كظله.
الكونت الصغير باتيلديس، ابن عم “أديلهايت”. كانت ملامحه تشبه تمامًا وجه يواخيم…
‘لكن اسمه… نعم، هو يواخيم. إلا أن يواخيم في هذه الذكرى… من يكون إذًا؟’
“عليكِ بالاعتذار، يا صاحبة السمو الأميرة.”
الأفكار التي كانت تدور في ذهنها تلاشت كليًا مع تلك الكلمات القاسية.
“أديلهايت” انسحبت ببطء من تلك الذكرى الغامضة، لتُلقى في واقعها. اعتذار؟ على ماذا؟ على أنها دنست يد ولي العهد؟
كادت أن تضحك بسخرية، لكن جسدها تعود على الخضوع قبل أن يسبقها عقلها.
تجنبت يد أخيها غير الشقيق النبيل ونهضت من مكانها بحذر.
“أنا…”
بمجرد أن نطقت، انقشعت الضبابية، وعادت ذكرياتها تتدفق إليها كما يتدفق النفس إلى صدرها.
تلاشت كل الذكريات التي أربكتها، وأدركت من تكون وأين هي.
اسمها أديلهايت ديزيريه باتيلديس نيرنبركيان. وهذا المكان هو القصر الملكي لمملكة نيرنبرك، أقوى الممالك الثلاث عشرة في آريان.
مسحت ظهر يدها على ذقنها وشفتيها لتزيل قطرات الماء العفن، وقالت بصوت ثابت:
“لا أفهم سبب غضب سموكم.”
حتى صوتها بدا غريبًا عليها في تلك اللحظة، كأنه ليس صوتها.
لكن هذا الإحساس الغريب مرَّ سريعًا، ثم نسيته. وواصلت أديل كلامها بوضوح:
“أنا بلا قوى سحرية، ولا أستطيع أن أكون عونًا للمملكة. كان طبيعيًا أن يحدث ذلك عندما أبلغ سن الرشد. إنه واجبي.”
“إذن…”
ارتسمت على شفتي ميخائيل ابتسامة شرسة.
“أتنوي حقًا أن تؤدي نذرًا أبديًا وتكرّسي حياتك ككاهنة؟”
جال بنظره البارد عليها من رأسها حتى قدميها ببطء، وكانت أديل بالكاد تحتمل تلك النظرة الحادة.
“لقد حصلت على موافقة والدي الملك بالفعل.”
“إذًا ستفعلينها مهما كان.”
انفجرت على شفتي ولي العهد ابتسامة ساخرة، لكن سرعان ما انطفأت، لتحل محلها برودة قاسية.
“هل تعرفين ما هو الملجأ الذي تودين دخوله؟ إنه مكان أقرب إلى السجن المؤبد. هناك يُلقى بالمجرمين السياسيين، أو بالفقراء الذين لا مأوى لهم فيبيعون حياتهم لقاء لقمة عيش. فهل تفتقرين حتى إلى ذرة من كبرياء الدم الملكي؟”
كبرياء؟ ابتلعت أديل ضحكة مرّة بين شفتيها. لو كان لديها شيء من ذلك، لما استطاعت البقاء في هذا القصر حتى الآن.
نيرنبرغ كانت مملكة يحميها سحر هائل، يحكمها الملك، أعظم ساحر في زمانه. وكان له من الأبناء، من نساء مختلفات، تسعة. أديلهايت كانت الخامسة بينهم.
في نيرنبرغ، حتى الأطفال والباعة المتجولون يستخدمون السحر كما يتنفسون. لكن أديلهايت، ابنة الملك نفسها، ولدت بلا ذرة من الموهبة السحرية.
منذ أن كُشف أمرها وهي في الثالثة من عمرها، سقطت في عزلة تامة. إخوتها الكبار عاملوها بازدراء، وصغارهم اتخذوا من سحرهم وسيلة للتلاعب بها وإهانتها.
حياتها لم تكن سوى سلسلة متصلة من الاحتقار والاضطهاد. حتى أمها هجرتها بعدما علمت أن ابنتها بلا قوة سحرية.
أما ولي العهد، فلم يفعل يومًا شيئًا سوى المراقبة الباردة من عليائه، يشهد كل إهانة تتعرض لها دون أن يتدخل.
لو كان الأمر كما في الماضي، لما التفت حتى لو رآها غارقة في القذارة أو مطروحة أرضًا.
لكن اليوم…
‘لماذا إذن يغضب هكذا؟’
غضبه الغريب بدا لها أكثر غرابة من كل شيء.
الآن وقد بلغت سن الرشد، كان لا بد أن تترك القصر. لم يكن هناك رجل يرغب في امرأة بلا سحر، لذا لم يكن أمامها خيارات كثيرة.
في ذلك الوقت، شغر منصب كاهن ظل يخدم المعبد لسنوات طويلة، بعد وفاته. كان المنصب يعني حبسًا أبديًا داخل الملجأ، لكنه بالنسبة إليها لم يكن خيارًا سيئًا. على العكس، بدا كفرصة للراحة.
“تراجعي عن ذلك القرار حالًا.”
هزّت أديل رأسها ببطء.
“لقد وافق والدي الملك، ومنحني كبير الكهنة إذنه. سيكون من العار أن أتراجع بدافع نزوة شخصية.”
“سأتحدث إلى الملك بنفسي. خروجك من القصر سيكون عبر زواج، لا غير.”
“لا أرغب في ذلك.”
“وهل تظنين أن رغبتك قادرة على تغيير قراري؟”
“… لن يكون هناك أي نبيل يريدني زوجةً له أساسًا.”
“سأبحث أنا عن ذلك ابتداءً من الآن. وحتى كبير الكهنة سيتفهم الأمر.”
اشتعلت عيناها بحدة مفاجئة، والدموع المتجمعة فيهما زادت بريقها. قبضت على ثوبها بكل قوتها.
“لم يسبق لكم أن منحتموني اهتمامًا يومًا في حياتي. فلماذا، الآن بالذات، تتدخلون في مصيري؟”
واجهت نظرات ميخائيل الباردة بجرأة. طوال تسعة عشر عامًا قضتها في هذا القصر، لم تلتقِ عيني ولي العهد أكثر من ثلاث أو أربع مرات في العام. بل مرّت سنوات لم يتبادلا فيها كلمة واحدة.
“تقولين لا تعرفين السبب؟”
لم يسبق له أن آذاها أو جرحها، لكنه لم يمنحها سوى اللامبالاة القاسية، وأحيانًا، نوبات من غضب مباغتة لا يُفهم لها معنى.
واليوم، عادت تلك المشاعر لتطل من عينيه. مدّ يده وأطبق على عنقها النحيل كما لو أنه سيكسرها، فاختنق نفسها.
“فكرتِ بالهرب إلى مكان لا تصل إليه حتى يد الملك. اعتقدتِ أن لك حريةً من دون إذني. جرؤتِ على إخفاء هذه الأفكار الطائشة حتى اليوم.”
“…”
“كل ذلك… جريمة تستحق العقاب.”
مرر إبهامه ببطء على حنجرتها، ببرودة زاحفة كزحف الأفعى.
ارتجفت عينا أديل، وبدت على وشك الانهيار. في تلك اللحظة، تلاشى الحزم من عينيه للحظة عابرة، وانحنى رأسه قليلًا.
كان دفء أنفاسه يقترب من شفتيها، حتى كادت تلامسها. فورًا اجتاحها الغثيان.
“هع…”
“حتى إن أكلتك الوحدة، فلتكن وحدتك هنا. وحتى إن قهرك البؤس، فليكن بؤسك هنا. وعندما تنحط حياتك تمامًا، حينها فقط… سأنتشلك كما لو أني أهبك الخلاص.”
كأنها سمعت صوته يهمس بذلك بين أنفاسها المقطوعة. دفعت ميخائيل بكل قوتها.
ورغم أنه كان يمسكها بقوة قبل لحظة، إلا أنه تركها تدفعه بسهولة، كما لو كان هو نفسه مذهولًا من وجهه العاري الذي أظهره.
“سموك… ما الذي…”
لم تستطع إكمال جملتها. لم تجرؤ حتى على رفع عينيها لترى ملامحه من جديد.
ارتجف قلبها من هول الصدمة. أكان هذا الشعور الذي يكنّه لها أخوها غير الشقيق شعورًا بغيضًا… مرعبًا؟ أكانت على وشك أن تكتشف ذلك؟
وعندما تجرأت أخيرًا على رفع رأسها، كان ولي العهد وفارسه قد اختفيا.
✦✦✦
“لقد وصلنا.”
توقفت العربة ببطء مع إعلان الفارس. رفعت أديل عينيها المتعبة، فرأت الطريق المؤدي إلى غابة كثيفة غريبة.
كانت أشجارها خضراء بشكل مبالغ فيه، والضباب يغطي مدخلها. وراء القضبان الحديدية، كان هناك ممر مرصوف بالأحجار البيضاء يقود نحو أعماق الغابة.
“انزلي.”
رفعت رأسها إلى الفارس الذي مد يده نحوها. كان الفارس التابع لميخائيل… ابن عمها، يوآخيم، ابن دوق باتيلديس.
كان الوحيد المسموح له بمرافقتها، لكونه أقرب أفراد أسرتها إليها بعد العائلة الملكية. ناولها سلة صغيرة.
“خذيها.”
كانت السلة تحتوي على خنجر، وكيس من البذور، وزجاجة نبيذ نفيس. وهي الأشياء الثلاثة التي يتعين على كل من يكرّس حياته ككاهن أن يحملها عند دخوله الملجأ.
وأضاف بصوت بارد:
“من هنا ستذهبين وحدك. الفرسان يحرسون محيط الغابة والمدخل ليلًا ونهارًا، فلا خوف عليك. تابعي السير على هذا الطريق حتى تصلين إلى المعبد.”
“…”
“ستقضين عشرة أيام هناك. إن لم يتغير قلبك بعدها، فستؤدين نذرًا أبديًا. كما تعلمين، لن يُسمح لك أبدًا بمغادرة المعبد بعد ذلك.”
أومأت أديل برأسها. كانت تعرف هذه القاعدة جيدًا. فمنذ أن تطأ قدما الداخل إلى الملجأ، يختفي عن أعين الناس إلى الأبد، ولا يظهر إلا عند يوم التزويد الشهري بالاحتياجات الأساسية.
رفعت نظرها إلى الظل الذي خيّم فوقها. كان يوآخيم يحدق بها ببرودة، وصوته يخرج كالهمس الجارح:
“على الأميرة أن تعرف معنى العار.”
الانستغرام: zh_hima14
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 81"