-الأطلال المنسية-
“أرجوكِ.”
تمتمت أديل بقلق. لكنها، مهما بذلت من جهد، لم تشعر بأي أثر للحياة على وجه غريتا الشاحب.
وفي كل مرة تتسلل إليها شكوك بأنها قد تأخرت كثيرًا، كانت تركز فقط على ألا تفقد السيطرة على الطاقة في أطراف أصابعها.
كانت الغرفة غارقة بالدم. وركبتا أديل أصبحتا تبتلان بسرعة من الدم المتجمع على الأرض.
حاولت ألا تفكر في أن كل هذا الدم خرج من جسد شخص واحد.
بدلًا من ذلك، عضّت على أسنانها وضخت كل ما تملكه من طاقة سحرية.
‘أرجوكِ، ولو مرة واحدة فقط!’
وفي تلك اللحظة التي تمنّت فيها بكل جوارحها، اندفعت من جسدها طاقة سحرية هائلة لا تصدق.
النور الأزرق المتجمع عند أطراف أصابعها أصبح يدور بعنف أكبر. كان ضوءه قويًا ومبهرًا حتى إن أديل ضيّقت عينيها.
ومن خلال ذلك النور، بدأت ترى جرح غريتا يلتئم ببطء. لكنها لم تفرح طويلًا.
‘…يؤلمني.’
شعرت وكأن يديها تحترقان. ارتجفت من شدة الألم وأنّت.
في تلك اللحظة، أدركت بفطرتها أنها إن استمرت بهذا الشكل، فلن تتمكن من الرجوع أبدًا.
لكن لم يكن أمامها خيار آخر.
إن أوقفت تدفق الطاقة قبل أن يلتئم الجرح تمامًا، فإن النفس الأخير الذي بالكاد تمسكت به، سيتبدد.
عضّت شفتيها حتى سال منها الدم لتثبّت إرادتها.
‘قليل فقط، قليل بعد…’
وبسبب الطاقة الشديدة التي أطلقتها، بدأت المساحة من حولها تتشوه وكأنها تتموّج.
رغم الألم، قاومت أديل واستمرت بإصرار.
يداها، راحتاها، ذراعاها، خدّاها، وعنقها… شعرت وكأن ماءً مغليًا يُسكب على جسدها.
كانت الحرارة شديدة لدرجة أنها بالكاد استطاعت إبقاء كتفيها مرفوعين.
‘هناك شيء غريب…’
فجأة، تغيّر تدفق الطاقة.
كانت في البداية تحت سيطرتها الكاملة… لكنها أحست الآن وكأن السحر أصبح له إرادة مستقلة.
كأن القوة السحرية قررت من تلقاء نفسها ألا تسمح بقطعها، وبدأت تمتص طاقتها بجشع خارج عن إرادتها.
‘آه…’
شعرت أديل بالخوف، ولكن أيضًا بدهشة غريبة.
خافت من تعطّش السحر لكل طاقتها، واندهشت من كمّ الطاقة الذي ما زال يتدفق منها.
كم من القوة السحرية كان نائمًا في أعماقها؟ لا يمكنها حتى تقدير حجمه.
لكن، بعد فترة، بدأت تشعر أن مصدر طاقتها الداخلية يتعرض للضغط.
بدأت نواتها السحرية بالاهتزاز، غير قادرة على الصمود.
‘لا أستطيع إيقاف السحر…’
قطرات العرق التي تجمعت على ذقنها سقطت على الأرض.
حاولت مرارًا قطع السحر، لكنها فشلت في كل مرة.
السحر، وكأنه يعاقبها، بدأ يضاعف كمية الطاقة التي يمتصها.
شعرت وكأنها تُعصر حية. بدأت الدموع تنهمر على خديها الشاحبين.
‘إنه مؤلم!’
إذا استمر السحر بهذا الشكل، فهي من ستفقد حياتها هذه المرة.
لكنها لم تكن تملك أي فكرة عن كيفية السيطرة على هذا السحر الهائج. فماذا تفعل…؟
[أديل.]
ما إن سمعت ذلك الصوت في الفراغ، حتى شعرت براحة لا توصف. كان هو… فالنتين.
خرج من بين الظلال الداكنة، واحتضن خصرها من الخلف بشدة.
شعرت على ظهرها بحرارة جسده ورائحته المألوفة لدرجة جعلتها على وشك البكاء.
[لا تقطعي التركيز. فقط فكّري أنك ستُقللين منه قليلًا وأنتِ محافظة عليه.]
“لا، أ… أستطيع…”
[أنتِ تستطيعين.]
أرسل إليها إرادته بصوت داخلي. الضوء والضجيج حولهما كانا عظيمين لدرجة أن الأذن البشرية لا تستطيع تحمّلهما.
كان صدره الواسع والمتين يدعم ظهرها.
[إرادتك انغرست في السحر بقوة زائدة، فصار وحشيًا. لا تسمحي لطاقة السحر بالتحكم. تخيّلي أنكِ توقفين تدفق ماء.]
كانت الدموع تفيض من عينيها من شدة الألم. طاقتها المجنونة كانت تمزق نواتها الداخلية.
بدت كوحش هائج يحاول شقّ طريقه لابتلاعها بالكامل. وبدأت رؤيتها تغرق في ضوء أزرق داكن كثيف.
لم تعد قادرة على التحمل أكثر…
[أرجوكِ، استفيقي.]
وبصوت فالنتين، بدأت استعادتها لوعيها تدريجيًا.
كل بقعة تلامس جلده بدأت تبعث برودة لطيفة تهدئ من فوران جسدها.
كان الأمر كأنها تتلقى مواساة حنونة.
[قومي بتقليل طاقتك تدريجيًا… نعم، هكذا…]
ضم فالنتين جسد أديل المرتجف بقوة إلى صدره مجددًا، ليمنحها العزم والقوة من جديد.
انهمرت الدموع من عينيها الخضراوين الفاتحتين، وانحدرت على خديها دون توقف.
لم تعد ترغب في تحمل هذا الألم أكثر. أرادت فقط أن تترك كل شيء، وتستريح… مهما كان الثمن.
“أنا متعبة.”
لم تكن شكوى لفظية، بل مجرد أنين داخلي خطر في بالها وسط وعي شبه غائب. توقف فالنتين للحظة، ثم مال ليطبع قبلة على صدغها.
“أعلم. لكن عليكِ أن تصمدي.”
“…كان لدي الكثير لأقوله لك.”
“سأخبركِ بكل شيء… إذا تجاوزتِ هذا.”
“كل شيء؟”
“نعم. كل ما ترغبين بمعرفته.”
كان الأمر غريبًا. ألم يقل لها من قبل إنه لا يستطيع قراءة أفكارها؟ ومع ذلك، كان بينهما حوار صامت.
لكنها سرعان ما توقفت حتى عن التفكير بذلك.
فطاقة فالنتين التي اخترقت جسدها بدأت تهدّئ السحر الذي كان يثور بعنف في داخلها.
اتبعت أديل قيادته، وساعدت قدر استطاعتها، تحاول كبح السحر وإعادته إلى منبعه.
كانت تسدّ الشقوق التي تصدعت في منبعها مثلما يُصلح زجاج مكسور، ومع مرور الوقت بدأ السحر ينكمش ويتراجع بدلًا من الانفلات.
“أنتِ تقومين بعمل رائع.”
ببطء، ببطء شديد… وسط الضوء الذي بدأ يخفت، رأت أديل أن جراح غريتا قد التأمت بالكامل.
وكان صدرها يتحرك ببطء، يتنفس. وهذا ما منحها بعض الطمأنينة.
من تلك اللحظة، ركزت أديل كل ما لديها فقط على قمع السحر.
“لقد شارف الأمر على النهاية.”
وأخيرًا، اختفى الضوء الذهبي الذي كان يملأ الغرفة دون أن يترك أثرًا. وفي اللحظة نفسها، سقطت أديل كما لو كانت دمية انقطع خيطها.
قبل أن تهوي إلى الأرض، أمسك بها فالنتين ورفعها بثبات.
“علينا الذهاب.”
“إلى أين…؟”
لكنها لم تكمل سؤالها، إذ بدأ ضجيج يقترب من الردهة، وكان يزداد وضوحًا مع كل لحظة.
تذكّرت أنها سمعته يقول في خضم الفوضى إنه سيشرح لها لاحقًا.
لوّح فالنتين بيده، فانبعث ظل هائل من تحت أقدامهم صاعدًا إلى الأعلى. وسرعان ما غاص في أعماقه.
“أديل، هيا.”
ظهرت يده من داخل الظل، ممدودة نحوها.
وما إن أمسكت أديل بيده، حتى فُتح الباب بعنف، واقتحم الفرسان المقدّسون الغرفة.
تلاقى نظرهم في لحظة خاطفة مليئة بالذهول.
“……!”
في اللحظة التي تجمدت فيها أديل في مكانها، لفّ فالنتين ذراعه حول خصرها بإحكام.
وفي اللحظة التي رفع فيها يده الأخرى لتغطية عينيها، كان الفرسان قد بدأوا بالاندفاع نحوهم وهم يصرخون:
“انتظروا!”
“توقفوا فورًا!”
امتدت يد قوية نحو ثوبها محاولة الإمساك به، لكن المشهد أمامها بدا كما لو اختلطت الألوان فيه بعشوائية.
شعرت وكأن قوة هائلة تسحبها إلى مكان ما.
كان جسدها يُطوى بعنف، وكلما سمعت صفير الرياح في أذنيها، كانت المشاهد تتغير بسرعة جنونية.
الساحة الرئيسية، الشوارع، الحقول، الغابة، ضفاف البحيرة…
ثم، فجأة، توقف كل شيء.
وصلت قدماها إلى الأرض برفق، وكأنها كانت تطفو في الهواء وهبطت بسلاسة.
أصابها دوار شديد، وسقطت إلى الأمام وكأنها دارت عشرات المرات حول نفسها.
“احترسي.”
أمسك بها فالنتين بقوة وثبّتها في مكانها. كانت تشعر بدوار شديد، وضعت يدها على فمها تحاول كبح الغثيان الذي اجتاحها.
“أوه…”
“ماذا بكِ؟”
أمسك فالنتين بذقنها المترنحة ورفع وجهها.
راح يمسح دموعها عن وجنتيها برفق.
“أشعر وكأنني سأ… أتقيأ…”
“افعليها، لا بأس.”
“لكن… كيف…؟”
لم تكمل كلامها، وأخفضت رأسها نحو الأرض. تقيأت جافًا عدة مرات، لكنها لم تخرج شيئًا، ربما لأنها لم تأكل كثيرًا.
انهارت على الأرض جالسة.
كانت ساقاها ترتجفان بشدة، ولم تعد قادرة على الوقوف.
“لا… لا أستطيع…”
“لقد استخدمتِ الكثير من السحر، من الطبيعي أن تنهاري.”
أجابها فالنتين بهدوء، وجثا أمامها على ركبتيه.
وبينما كانا تحت ضوء واضح، بدت ملامحه متعبة تمامًا مثلها.
حين نظرت إليه بدهشة، رفع طرف شفتيه بابتسامة خفيفة وقال:
“لفّي ذراعيك حول رقبتي.”
فعلت أديل كما قال، فرفعها بين ذراعيه بسهولة. كانت يده تحت ركبتيها تمسك بها بلطف غير متوقع.
استطاعت أن تشعر بسحره وهو يتدفق برقة عبر جسدها، يمنحها الدفء والطاقة.
بقيا متعانقين بصمت لبعض الوقت، ثم رفعت أديل رأسها المتكئ عليه وسألت بصوت خافت:
“…أين نحن؟”
كان مكانًا غريبًا تمامًا ومهجورًا.
هل كانت آثار حريق هائل؟ امتدت أمامهم سهول محترقة وسوداء، كأنها كانت تحت نيران مدمّرة.
وأمامهم مباشرة، كان هناك معبد متهدم، أشبه بأطلال قديمة.
وحوله، ظهرت غابة جرداء لا تناسب هذا الفصل من السنة.
الانستغرام: zh_hima14
التعليقات لهذا الفصل " 77"