كلمات مارغريت وحدها جعلت أديل تشعر وكأنها تلقت تعويضًا كافيًا عن سنوات ثلاث مضنية من الجفاف العاطفي والوحدة.
لقد أخبرتها، دون مواربة، أن احترامها لم ينبع من تدخل فالنتين، بل من أديل نفسها — من شخصيتها، من قراراتها، من صبرها، من ثباتها.
كانت تلك الجملة… بمثابة رشفة ماء باردة لسيدةٍ اعتادت العطش.
أديل، التي ذبلت ببطء على مدى سنوات بسبب افتقارها إلى التقدير، شعرت ولأول مرة أن جذورها بدأت تجد تربةً جديدةً تحت قدميها.
“…”
لكن قبل أن يستمر هذا الجو العاطفي، تنحنح دونوفان، قاطعًا الصمت بنبرة متعمدة:
“إذن، إلى أين نذهب الآن؟”
“آه…” استعادت أديل تركيزها سريعًا، وأخرجت الملاحظة الصغيرة التي كانت قد تسلّمتها من لويزا.
“وفقًا للمعلومات التي حصلت عليها… يُقال إن جريتا موجودة في مكان يُعرف بـ ‘دار الاستراحة’، تحت إشراف الكاتدرائية الكبرى.”
“دار استراحة؟” كرّر كل من دونوفان ومارغريت الكلمة بذات الوقت، وعبوسهما متطابق.
في الشمال، “دار الاستراحة” لا تعني الكثير. هو مكان يُفتح فقط خلال أقسى أيام الشتاء، ملاذ مؤقت للمشردين حين تشتد الرياح الشمالية، ثم يُغلق بعد أسبوع.
أما الآن… فالربيع في ذروته.
لكن أديل شرحت:
“في المناطق الأكثر دفئًا، كفراغما وبافاريا، تختلف الأمور. يُشبه الأمر دارًا للرعاية. يُفتح طوال العام، يستقبل الكهنة المتقاعدين، ويأوي كبار السن مقابل رسوم. وأحيانًا، حتى الحجاج يقيمون فيه.”
دونوفان، وقد عقد حاجبيه، قال ببطء:
“…وهل جريتا هناك فعلًا؟ أعني، إن كانت شركة المرتزقة قد أكّدت ذلك، فالمعلومة ليست تافهة، لكن…”
كان الشك واضحًا في صوته، وفي نظرة عينيه المرتابة.
“هل تملك جريتا المال لتقيم هناك؟ من المفترض أن قدرتها على إعالة نفسها بالكاد تكفي. وشارلوت نفسها وصفتها بـ ‘المتسوّلة’.”
تذكّرت أديل شيئًا، فأضافت:
“قبل بضعة أيام، ألم نرها في الشوارع؟ بلا مأوى… بلا وجهة…”
بدت مارغريت شاحبة، ثم فتحت فمها وسألت بقلق:
“إذن من يدعمها؟”
“هذا… ما سأكتشفه.”
أومأت برأسها وهي تجيب دونوفان، وقد شعرت بثقل تلك الحقيقة. إن كانت جريتا قد اختارت الهرب بنفسها، ووثقت بمن دعمها، فآخر ما يجب أن تفعله أديل هو التدخل برعونة.
“من هنا.”
شقّوا طريقهم وسط الحشود: عربات، فرسان، مرتزقة، مواطنون يستمتعون بالمهرجان. وفي قلب ذلك الزحام، توجهوا نحو الساحة.
كان القصر الإمبراطوري ينتصب في الأمام، عظيمًا، ذهبي الأطراف. لكن الكاتدرائية الكبرى… كانت ترتفع على تلة جنوب شرقية، كأنها تراقب العاصمة من عليائها.
وأسفلها، تمامًا، كان موقع “دار الاستراحة”.
تابعوا السير بخطى متسارعة، إلى أن اقترب دونوفان من أديل فجأة، وكأنما يعدّل غطاء رأسها، وانحنى بجانبها وهمس:
“لا تتفاجئي… هناك من يتبعنا.”
شعرت أديل برجفة خفيفة تسري في أطرافها، لكنها كتمتها، وسألت بصوت منخفض:
“يتبعنا؟ من؟”
قال دونوفان بصوت خافت، يختبئ بين الضوضاء:
“شعرت بنظرات غريبة منذ لحظة مغادرتنا مبنى النقابة. في البداية ظننت أنه مجرد نشال، لكن… لا. الأمر مختلف. هؤلاء محترفون. أشخاص يعرفون كيف يخفون وجودهم. إما فرسان… أو مرتزقة.”
“وماذا نفعل الآن؟”
رد دونوفان وهو ينظر للأمام دون أن يلتفت:
“نواصل. نصل إلى دار الاستراحة بسرعة. أظن أن من يتبعنا واحد فقط، لكن من المحتمل أن تكون مجموعته قريبة… أو تراقب من أماكن متفرقة.”
نقر بلسانه بامتعاض وأضاف:
“عادة، حتى مع الزحام، أستطيع تمييز عددهم… لكن اليوم؟ في مهرجان كهذا؟ من المستحيل.”
“إذن… فلنُسرِع.”
رفعوا وتيرة خطواتهم، وقريبًا لاح لهم مبنى أبيض منخفض السقف.
كانت بوابته الأمامية مشرّعة، والكهنة من الرتب الدنيا في الكاتدرائية يتحركون داخله بهدوء.
لكن فرسان الحراسة عند البوابة، اعترضوهم بالرماح.
“ما شأنكم؟ لا نستقبل الزوار حاليًا.”
أجابت أديل بثقة هادئة:
“أنا هنا لرؤية الأب الكاهن الأعظم.”
نظر الحارس إليها باستغراب.
“الكاهن الأعظم؟ إذًا عليك الذهاب إلى المعبد. هذا المكان ليس له علاقة، هو أعلى التل هناك.”
قالت أديل بهدوء:
“قيل لي أن أتي إلى هنا مباشرة.”
توقف الحارس لوهلة، ثم سأل، وقد ضاق حاجباه:
“…قيل لك؟ من أنتِ؟ ما اسمك؟”
“أديلهيد. أديلهيد أنسجار.”
ما إن تلفّظت أديل باسمها حتى أخرج دونوفان شارة أنسجار الرسمية من معطفه وقدّمها للفارس الواقِف أمام البوابة.
أخذها الرجل بكلتا يديه، فحصها سريعًا بعينين فطنتين، ثم انحنى على عجل تحيةً لها، وقد تغير صوته من حذرٍ إلى اعتذار مرتبك.
“آه… نعتذر، مولاتي.”
كان من الواضح أن اسم “أنسجار” قد استُقبل كصاعقة، وقد أدرك الفرسان هويتها فورًا. نظراتهم أصبحت ثقيلة، وكأنهم يدرسون تفاصيلها بشغفٍ غير مريح، وكأنهم أمام أسطورة حيّة — أو لعنة تمشي على قدمين.
أعاد الفارس الشارة إلى دونوفان، ثم قال بلغة رسمية:
“اعبروا الحديقة المركزية، ستجدون غرفة الاستقبال في الأسفل، إلى يمين الدرج الحجري. المخطط الداخلي للملجأ معقد نوعًا ما، هل ترغبون بمرافقة أحدنا؟”
وبمجرد أن ابتعدوا عن مسمع الفرسان، همس دونوفان، صوته محمّل بالريبة:
“هل قمتِ فعلًا بترتيب لقاء مع الأب الكاهن الأعظم؟”
أدارت أديل وجهها إليه وقالت بنبرة خالية من التردد:
“بالمعنى الدقيق للكلمة… لا.”
توقف كلٌّ من مارغريت ودونوفان عن السير في ذات اللحظة.
اتسعت عينا مارغريت وهي تهمس من بين شفتيها:
“صاحبة السمو…”
أما دونوفان فقد ضغط على أسنانه وقال:
“ولماذا تكذبين بهذه السهولة؟”
لكنه لم ينتظر جوابها، إذ لمح أحد الفرسان يرمقهم بنظرة جانبية، فابتسم له ابتسامة مشرقة ولوّح بيده بلطف، ثم عاد إلى توبيخ أديل هامسًا:
“قبل أن تتخذي خطوة كهذه، استشيريني على الأقل. لا أملك القدرة على مجابهة كل فارس في هذا المكان.”
لكن بينما ينطق بهذه الكلمات، كانت عيناه تضيقان، يقيّم بهدوءٍ المسافة بين كل ركن وحارس، كما لو كان يضع خطة للهروب — لا، للهجوم حتى.
نظرت إليه أديل بشيء من الغضب، كأنها توبّخه بنظراتها. لكنه، بكل ثقة، تمتم:
“صعب، نعم… لكن غير مستحيل. طبعًا، لا مجال للمقارنة بدوقنا.”
رفعت حاجبها.
“…هل تتحدث عن فالنتين؟ هل يجيد استخدام السيف حقًا؟”
ابتسم دونوفان كما لو استُفزت ذاكرته.
“كان مذهلًا. في الحقيقة، مجرد مشاهدته وهو يتدرب تثير القشعريرة في عروقي. لكن بعد الحادثة… أصبح الأمر مرعبًا حقًا.”
سكت للحظة، ثم أكمل:
“لو كنتُ وحدي، لاخترت اختراق الجبهة… ولكن—”
“لا داعي للتوتر.”
قالتها أديل ببساطة، وعلى الفور استدار كلّ من دونوفان ومارغريت نحوها بدهشة.
تابعت أديل بابتسامة هادئة:
“الأب الكاهن الأعظم… لطالما اعتنى بي في صغري. والحقيقة هي أنه طلب مني زيارته حال وصولي إلى القصر الإمبراطوري.”
تمتم دونوفان وهو يتنفس الصعداء:
“لو كان الأمر كذلك، لماذا لم تخبرينا منذ البداية؟”
أسقط يده التي كانت مستعدة على مقبض سيفه، وقال:
“على الأقل… هذا يريحني قليلًا.”
هزّت مارغريت رأسها ببطء، ثم علّقت بهدوء:
“لكن المشكلة الحقيقية هي إن كانت جريتا موجودة فعلًا هنا.”
خطت أديل أول خطوة داخل المأوى وقالت:
“سنعرف الآن.”
عبروا من تحت قوس ضخمٍ على الطراز القديم، ودخلوا رواقًا طويلًا تتفرع عنه أروقة وحدائق. البناء أنيق، حجري، ذو نوافذ واسعة، لكن المفاجأة كانت في ملابسٍ معلقة هنا وهناك، وأغطية تُجفف في الممرات — علامات حياة، طبيعية، بشرية.
قالت مارغريت:
“أليس من الأفضل أن نسأل أحد الكهنة؟ صحيح أن اسم ‘جريتا’ شائع، لكنني أشك أن اثنتين بهذا الاسم تقيمان هنا.”
أومأت أديل ببطء.
“نعم، يبدو أنه الخيار الأذكى… لكن…”
لكنها لم تكن متأكدة بعد إن كانت تريد الإفصاح عن اسم جريتا.
ففي الأصل، كانت تعتقد أن الأب الكاهن الأعظم سمح لجريتا بالبقاء هنا، لكن لو كان كذلك، ألم يكن سيتواصل معها فورًا بعد أن عثر عليها؟
ثم جاء ذلك الاحتمال… الاحتمال الذي جعل أطرافها تبرد فجأة.
“السيناريو الأسوأ هو أن أوسكار هو من يقف خلف جريتا…”
لم تكن متأكدة من صلات أوسكار بكاتدرائية فراجما الكبرى، لكن إن كانت شكوكها صحيحة، فإن الأمر يتجاوز البحث عن خادمة مفقودة.
أوسكار، الذي يحاول أن يُسقط أنسجار، هو نفسه من اقترح الهروب عبر جريتا.
وإن كانت جريتا قد همست له يومًا بأن فالنتين وحش من فيتزليبن، فمن المؤكد أنه سيسعى خلفها حتى الرمق الأخير.
أوسكار ليس كولي العهد، لا يرى الناس أدوات زائدة. بل يرى أوراقًا رابحة. وشهادة جريتا قد تكون ورقته الذهبية.
ربما لهذا السبب، اختار إخفاءها في مكان مثل هذا — مأوى يخضع لحماية الكاتدرائية.
فجأة، تساءلت أديل:
هل من الممكن… أن أوسكار نفسه يقيم هنا؟
تشنّجت أطرافها، وكأن صاعقة عبرت عمودها الفقري.
لاحظ دونوفان ذلك وسأل بلطف:
“هل تشعرين بالبرد؟”
“لا، فقط… تذكرت شيئًا مريعًا فجأة.”
تنهد دونوفان وهو يهمس:
“وأنتِ أيضًا، يا مولاتي؟”
نظرت إليه بحدّة، لكنها رأت في عينيه قلقًا حقيقيًّا.
هل من الممكن… أن دونوفان أيضًا يشك في أن أوسكار خلف كل هذا؟
الانستغرام: zh_hima14
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 71"