“هل قال جلالته إنكه سيطبق العقوبة على العائلة بأكملها؟ هل لهذا السبب لفّقت هذه الشهادات والأدلة السخيفة؟”
كانت أديلهايت ابنةً تنكمش بمجرد رفع اليد، وغير قادرة حتى على مواجهة النظرات بشكل صحيح. وقد اعتاد الكونت دائماً أن يسيطر عليها بسهولة ويثنيها لطاعته. لذلك حين نظرت إليه الآن مباشرة، وتحدثت بلهجة تحمل الاتهام، احمرّ وجهه في لحظة حتى صار كالجمر.
“كنت دائماً كذلك، لكن هذه المرة تعديت حدودك. لا يمكنني الطاعة.”
“أأنتِ الآن تجرئين…!”
“هذا لن يؤذي فقط أنا ووالدتي، بل سيلحق ضرراً بالغاً بشرف زوجي الدوق أيضاً. كيف يمكن أن أوقّع على هذا؟”
“أفلا تعرفين فضل تربيتي لك؟ ألا يجب حماية العائلة من الفضيحة القذرة؟ لو كنتِ تصرفتِ كما يجب لما وصل الأمر إلى هنا!”
كانت أديل تحاول الحفاظ على ملامح بلا تعبير، لكن وجهها بدأ ينهار شيئاً فشيئاً. شفتاها المرتعشتان لفظتا ما لم تستطع فهمه من مشاعر طاغية.
“……إن كنت تعتزم التخلص مني بهذه السهولة، لما رفعت اسمي منذ البداية. ولما أجبرتني على الزواج.”
“…….”
“أو ليتك فعلت كما قالت غريتا عن وصية والدتي… وتركتني في المعبد منذ البداية.”
ارتعشت أكتاف أديل حين هجم عليها صوته. أصابعها ارتجفت بتأثير عادةٍ قديمة من الخوف.
“تتكلمين وكأنك فعلتِ شيئاً يستحق الفخر! ألم يكن هناك ما يلتصق بك سوى تلك الفضيحة؟!”
“…….”
“لو علمتُ أنكِ عديمة الفائدة إلى هذا الحد، لكنتُ آنذاك…!”
توقّف فجأة، وكأنه أدرك متأخراً ما كاد يقوله. بدا واضحاً أنه هو نفسه صُدم بما همّ أن يلفظه.
لم تكن أديل تعرف تحديداً ما الذي كان على وشك قوله، لكن الواضح أنه أصابه الرعب من فكرة أنه كان سينطق به.
وبدافع من تحدٍّ غريب اجتاحها، نظرت إليه مباشرة وهي ترتجف.
“أكمل كلامك. آنذاك، ماذا كنت ستفعل بي بالضبط؟”
“…….”
“كنت أعرف منذ زمن أنك لا تراني ابنتك. كنت تقيم قيمتي دائماً بحسب نفعها لك. كما لو أنك حصلت على أداة أو حيوان جيّد.”
شدّت أديل ذراعيها حول جسدها كمن يحاول تثبيت نفسه. مجرد مقاومة والدها كانت كفيلة بجعل أنفاسها تتقطع.
“كنت أظن يوماً أن ذلك كان نوعاً من العطف.”
“…….”
“حتى حين حبستني عشرة أيام في زنزانة بلا ماء، أو حين كانت السياط تنهال عليّ بحجة تهذيب الكلام والسلوك، وحتى حين كنت تطعن فخذي دائماً لأتعلم العلاج….”
ضحك الكونت باحتقار.
“لا تتذرعي بهذا. كل ذلك كان لفتح موهبتك، وأنت تعلمين هذا!”
“كنت جاهلة فحسب. لم أعلم أن إعطاء الماء والطعام، وتأمين مكان للنوم، ووضع مرهم على الجروح… أمور تُفعل حتى للدواب.”
“لقد أصبحتِ وقحة بلا حد.”
تقدم الكونت خطوة نحوها، وظلّ ثقيل خيّم فوق رأسها. ارتجفت كما لو أنها ضُربت بالفعل.
“ما زلت أعفو عنك فقط لأنك ستقفين أمام جلالته قريباً. انتبهي لكلماتك. هذا آخر تحذير.”
عضّت أديل شفتها محاولة تثبيت نفسها. إن مجرد الوقوف أمام والدها الغاضب وهي بلا حماية كان كابوساً يعيد إليها كل روائح الرطوبة والدم، وكل ألم السياط القديمة.
لكنها لم تستطع التراجع. ليس وهي تعلم أن فالنتين يفعل المستحيل لحماية حياتها الآن.
“أنا أعرف الآن ما معنى أن يعتني بك أحد بحق. لذا… حتى لو متّ، لن أطيع أوامرك.”
في اللحظة التالية، اشتعل ضوء حارق أمام عينيها. شهقت ممسكة بخدها.
كان جلدها الرقيق قد تشقق فوراً، وحرقت اللمسة المكان كله، بينما طنين قوي ضرب أذنيها.
كانت ضربة مألوفة إلى حد القسوة… لكنها كانت مؤلمة كأنها أول مرة.
“رؤية حالك الآن تثبت أن كل ذلك التعليم ذهب سدى.”
صرخ الكونت في وجهها.
“لا يمكن السماح لك بالظهور أمام جلالته بهذا الحال. أخطأت في الحكم عليك. بعد لقائنا مع جلالته… فوراً….”
ولما مد يده ليمسكها من ياقة ثوبها، تحركت أديل بسرعة. خلعت سوارها واستدعت سحرها.
استجابت القوى لمشاعرها العاصفة، وانطلقت خيوط غير مرئية من كل اتجاه لتقيّد ذراعي الكونت وساقيه بقوة.
كان ذلك سحراً أعنف بكثير مما نوت استخدامه.
“م… ما هذا؟!”
بدا الارتباك والصدمة على وجهه، كأنه يعجز عن تصديق ما يحدث.
“أ، أطلقي سراحي حالاً!”
“إذا… هدأت… ووعدت… سأ… سأفك السحر.”
ارتفعت أنفاس أديل المضطربة وهي تحدّق مباشرة في وجه والدها الكونت. في الماضي، لو حاولت استدعاء هذا القدر من القوة السحرية، لكانت سقطت فاقدة الوعي من شدة الدوار. لكن الغريب أنّ جسدها كان الآن يزداد خفّة، وكأنّ ما فعلته ليس سوى أمر يسير.
“أنتِ… يا مجنونة… لا تقولي إنكِ حقًا—”
“ما الذي يحدث هناك؟”
يبدو أن الفارس الواقف خارج الباب شعر باضطراب الطاقة، فدقّ الباب بقوة. سارعت أديل لتكميم فم الكونت قبل أن ينبس بكلمة، وحاولت الردّ بصوت ثابت.
“أمغغ! الهي!”
“لـ… لا شيء! الحديث أوشك على الانتهاء!”
ساد صمتٌ قصير خارج الباب، وكأن الفارس يصغي لما يجري داخل الغرفة. لكنه لم يجد ما يثير ريبة، فتراجع.
“مهما يكن، أنهيا ما تفعلانه بسرعة. إن تأخر الوقت سأفتح الباب فورًا.”
“حـ… حسنًا، فهمت.”
تنفّست أديل الصعداء وهي ترى الفارس يبتعد بهذه السهولة. لكنها سرعان ما أدركت احتمالًا مروّعًا… ماذا لو أنهم ينتظرون فقط أن ترتكب خطأً، أن تهاجم الكونت، ليجدوا دليلًا دامغًا عليها؟
فجثة لورد يحمل أثر سحرها ستكون أفضل ما يمكن استغلاله ضدّها.
إنهم وضعوا شخصًا عاديًا مع “مشتبه بها” في غرفة واحدة… هذا وحده كان غريبًا منذ البداية.
كلما طال صمتها، ازداد وجه الكونت شحوبًا وارتباكًا. كان يعي تمامًا أنه فقد السيطرة على جسده بالكامل، وأن ابنته… باتت قادرة على استخدام “القوة”.
أديل حدّقت فيه وهي مأخوذة بمشاعر متضاربة. الرجل الذي كان يومًا أسوأ كوابيسها، بات الآن عاجزًا وحقيرًا إلى هذا الحد… كأنها تراه لأول مرة.
قالت بصوت هادئ، لكنه ثابت:
“أكررها بوضوح… لا أستطيع التخلّي عن اسم لايهنّاو الآن.”
رمقها الكونت بعينين يختلط فيهما الحقد والخوف، ثم خفَض رأسه عاجزًا. لم يبق شيءٌ من سلطته القديمة. بدا كأنه شاخ عشرة أعوام في لحظة واحدة.
ترددت أديل قليلًا قبل أن تزيل يدها عن فمه.
“إن كنتَ فهمتَ ما أقول، فلننهي الأمر عند هذا الحد.”
لكن الكونت تمتم بصوت ممزق، أقرب إلى الأنين:
“أتظنين… أن ما تفعلينه سيغيّر شيئًا…؟”
انقبض صدر أديل.
“ماذا تعني بذلك؟”
“الحكم… انتهى منذ البداية. لن يمدّ الإمبراطور يده لحمايتكِ.”
“……ماذا؟”
“الإمبراطور… خطط أولًا لإلغاء زواجكِ. كان يريد انتزاعك من حماية دوق أنسغار، ثم إلصاق تهمٍ فاضحة بكِ… أي تهمة مناسبة لإلغاء الزواج.”
تجمدت أديل مكانها. لم يكن التهمة الأولى “شيطانية” كما حدث لاحقًا، لكن الهدف كان واحدًا: إيجاد سبب شرعي لإبطال الزواج.
“لأنّ الدوق لا يملك نفوذًا في العاصمة… وفي المقابل، تزوج فتاة من أسرة عريقة… أفضل من فتاة مثلك.”
كانت أديل تعرف ما يعنيه هذا جيدًا.
كانت شارلوت المرشحة الأبرز لتأخذ مكانها.
ابنة التي تنتمي إلى العائلة نفسها، لكن بخلاف أديل—التي كانت تُشاع عنها أصول أمّها كخادمة—كانت شارلوت تملك مكانة راسخة بين نبلاء العاصمة. وحتى بعد إفلاس لايهنّاو، حافظت على قيمتها بمهارتها البارزة في العلاج الروحي، حتى كادوا يتعاملون معها كخطيبة لولي العهد.
واصل الكونت حديثه بصوت خافت، وكأنه ينهار:
“قلتِ آنفًا… إنني ما كان يجب أن آخذكِ من المعبد… نعم. الآن… أندم.”
“……”
“ما كان يجب أن أصدق تلك النبوءة… التي قالت إنكِ ستكونين من ينهض باسم لايهنّاو…”
نبوءة.
عادت الذاكرة فجأة لأديل—غريتا، خاتم الرنّة، كلمات الوداع… النبوءة.
مدّت يدها تبحث عن الخاتم المخبأ تحت ملابسها، الشيء الوحيد الذي لم تفارقه منذ أن أعطتها إياه غريتا.
“النبوءة…”
تأملتها بعينين غائمتين. إن كانت “النبوءة” صوتًا ينسب إلى الحاكم، فقد يكون الأمر من البداية لعبـة من مورغ… مجرد فخّ نُصب لها لتُساق إلى مصير بائس.
التعليقات لهذا الفصل " 110"