-الاعتراف-
ظلت أديل تستمع لكلام ميخائيل بوجهٍ خالٍ من التعبير، ثم أطلقت ضحكة خاوية.
ورغم أنها كانت تضحك، إلا أنّ شحوب وجهها ورقبتها كان شديداً لدرجة يصعب معها العثور على أي أثر لحياة بشرية فيها.
“أتسمّي هذا… كلاماً؟”
رفعت أديل عينيها الباردتين ونظرت إليه مباشرة.
“أرفض. ما تقترحه في النهاية مجرد أن تجعل جلسة المحاكمة أكثر ميلاً لصالحي… ولا أرى سبباً يجعلني أرهن روحي لأجل ذلك.”
“…….”
“ثم إنني أعلم أن فالنتين تحدّث مع جلالته بشأن أمر المحاكمة.”
“حقاً؟ مع ذاك الإمبراطور المتقلّب؟ تلك الأمور قد تسوء في أي لحظة.”
“أنا أثق بأن فالنتين سيتدبّر الأمر جيداً.”
“تثقين؟ بذاك الحقير؟”
“لأنه لا يوجد سبب يجعلني لا أثق به. على عكسك، يا سموّ الأمير.”
“……على الأقل أنا شرحت لك كل شيء… وأجيبك بصدق.”
تلألأت عيناه الخضراوان بنية خبيثة واضحة.
“على خلاف ذاك الذي أخفى عنك كل شيء عندما خطّط لتحويلك إلى حاكمة.”
“…….”
“وإن كنتِ ما زلتِ لا تعرفين من يجب أن تثقي به يا آديلايت…”
امتدت أصابعه الطويلة لتضغط بقوة على صدرها.
“انظري من هو الذي وعدك بأن يجعلك تعيشين كإنسانة… ثم حولك إلى ماذا؟ إلى مخلوق.”
“…….”
“لقد صرتِ كائناً خالداً… وحشاً يعيش للأبد. دون أن تدركي ذلك.”
وأخيراً، انغرس مخلب ميخائيل القاسي في أعمق نقطة داخل صدرها.
مزق جلدها الرقيق، وترك جرحاً غائراً، ونثر قطرات دم، وغرس بذرة شكٍّ وضيعة.
تذكّرت أديل فجأة كلمات فالنتين.
“لا تقلقي بشأن شيء. كل الأمور ستكون كما تريدين.”
تدفقت ذكريات الفجر:
تلك النظرات المغمورة بالشهوة، صوته الحنون، جسده القوي الذي احتضن جسدها الهش، والنشوة التي قاطعت أفكارها مراراً.
“حتى أمنيتك الأخيرة… أن تبقي إنسانة… كل شيء.”
ارتعشت أصابعها الممسكة بركبتيها، غير قادرة على إخفاء اضطرابها.
راقب ميخائيل ارتجافها بعين راضية، ثم مسح خدّها الشاحب ببطء. وابتسامته كانت قاسية.
“أتدرين الآن من الذي خدعك حقاً؟”
✦✦✦
بعد مغادرة ميخائيل، انحلت جميع التعاويذ التي كانت مفروضة على فرسان أنسغار ومارغريت.
حتى مارغريت لم تدرك أنها أغمي عليها. وكذلك الأمر مع الفرسان الآخرين.
مرت أربع أو خمس ساعات كاملة وكأنها مُحيَت من الوجود، دون أن ينتبه أحد منهم لشيء.
وبما أن فالنتين حتى تلك اللحظة لم يرسل أي أحد للاطمئنان على حالها، بدا واضحاً أن تأثير قوة ميخائيل كان أعظم مما ظنّت.
وكان ذلك مرعباً بصورة غير متوقعة.
حينها فقط، فهمت أديل سبب اختيار ميخائيل لهذه الطريقة… بدلاً من زيارة رسمية مقبولة شكلاً.
إنه كان… تحذيراً.
اعترفت أديل بضعف:
“يريد أن يخبرني بأنه قادر على أن يأتي متى شاء، وكيف شاء… ويفعل بي ما يريد دون أن يعرف أحد.”
وربما، كان يريد أن يفاخر بشيء أكثر حقارة:
أنه أصبح قوياً بما يكفي ليحجب نظر فالنتين عنها.
“إنه ذاك الذي حاول إبادة البشر جميعاً… فقط ليحميك.”
ترددت كلمات ميخائيل في رأسها كصدى مزعج.
كلما حاولت التخلص منه، تفكك إلى رماد يتطاير ويعلق في ذهنها.
كان يلتصق بعناد، ينهش أطراف عقلها قطعة قطعة.
“هل ترين أنه قادر فعلاً على العيش مع البشر؟ بصدق؟”
“إنه ذئب يرتدي جلد خروف وسط القطيع. لا يمكنك أن تتوقعي منه أن يفهم البشر.”
“عليك أن تغضبي لأنه خدعك. أوهمك بأنه يحترم اختيارك… ثم سحقه تماماً.”
أغمضت أديل عينيها المتعبتين. فاعتبر الصوت ذلك موافقة ضمنية، وازداد علواً.
“هل أخبرك ولو بكلمة قبل أن يعطيك «الأصل»؟”
أصل الحاكم.
بمعنى آخر: عقل فالنتين، حياته، المصدر الذي جعله هو ذاته.
“يا لكِ من حمقاء، يا آديلايت…”
“هل ستتخلين عن إنسانيتك حقاً… بهذه السهولة؟”
لو كان بإمكانها أن ترفض كل ذلك بوصفه كذباً صريحاً… ما كانت لتشعر بكل هذا الثِّقل.
لكن… لو كان هناك احتمال ضئيل، واحد فقط…
أن فالنتين منحها «أصله»،
وأن ذلك هو الذي يسرّع سقوطه… ويدفعه نحو الهلاك…
“…….”
جفَّ حلق أديل من التوتر. كان هدف ميخائيل هو الوقيعة، ولكن المضحك أنّها، في لحظة ما، لم تعد تشعر حتى بالخيانة.
كان الشيء الوحيد الذي آلمها حقًا… أنّ فالنتين لم يلمّح لها ولو بكلمة واحدة.
حتى في اللحظة التي سلّمها فيها حياته كلّها… لم يخبرها، وكأن الأمر تافه لدرجة لا تستحق الإخطار.
يا لِتلك المحبة الهدّامة، العمياء، التي تلتهم صاحبها.
استعداده لأن يعطي كل شيء إن لزم الأمر… كان مؤلماً، ومربكاً بعض الشيء.
ومهما أنكر فالنتين ذلك… إلا أنّ تصرفاته كانت دليلاً واضحاً على أنه ما زال عالقاً في «ذلك اليوم» داخل الملاذ المقدس.
‘أديل لن تخافني… لأنها ستستطيع قتلي عندما يحدث ذلك مجدداً.’
‘…….’
‘لذا… ابدئي بتقوية قواكِ السحرية يا آدلايت. أما ما تبقّى… فسأفكر فيه لاحقاً.’
ارتجفت شفتا أديل وهي تتذكر تلك اللحظة القديمة التي خطرت في بالها فجأة.
كان من الطبيعي أن يكون فالنتين قد أسقط ظلّ «الأميرة» عليها طوال هذا الوقت.
فمهما كانت روحه حرة… كان جسده محبوسًا هناك لمئات السنين، كجسد محنّط عاجز عن الهرب.
ولا روح تستطيع أن تتحرر بالكامل من الجسد. حتى لو كانت روح حاكم… أو تنين.
“لقد قررتِ أن تثقي بفالنتين… وأن تبقي بجانبه.”
أجبرت أديل نفسها على التفكير بهدوء.
“عليّ أن أركّز على حل هذه المشكلة أولاً. يجب أن أعرف ما يكفي عن المحاكمة القادمة… يجب أن أذهب إلى الكنيسة الكبرى وألتقي بالكاهن بادري وقداسته…”
وبينما كانت تفكر تلقائياً في الخطوات التالية كما اعتادت دائماً، أطلقت تنهيدة خفيفة. كل شيء بدأ يشعرها بالثقل والوهن.
مررت أديل يدها على ذراع الكرسي حيث كانت قد وضعت ذراعها. بشرتها الباردة كالثلج لم تعد تشعر وكأنها بشرتها حقاً.
مهما قرصت أو خدشت جلدها… كان الشعور بالواقع يرفض العودة.
“… ها… يا… سموّ السيدة.”
عاد وعي أديل أخيراً عند نداء الخادمة.
يبدو أن الفتاة كانت تناديها منذ فترة؛ وجهها الشاحب وملامحها المربكة فضحت ذلك. كانت فتاة صغيرة، ربما أصغر منها بعام أو عامين فقط.
رفعت أديل ظهرها من الكرسي وأجابت:
“ما الأمر؟”
“أ- أعذريني، لكن… وصلت، أم، رسالة… من القصر الرئيسي.”
كانت الخادمة ترتجف من الخوف وهي تكرر الانحناء بصوت متقطع. عندها فقط انتبهت أديل إلى أن مارغريت تركت الغرفة لبعض الوقت.
“……”
ظلت أديل تنظر إليها بصمت، فزاد خوف الفتاة الصغيرة. كانت تبدو أصغر الخادمات سنّاً.
حاولت أديل طمأنتها بابتسامة… لكنها تخلّت عن الفكرة، وسألت مباشرة:
“من القصر الرئيسي؟”
“أ-لا… يعني… نعم… أو لا… أعني…”
“تكلمي ببطء. لا داعي للارتجاف.”
وبمجرد أن قالت ذلك، بدا أن الفتاة على وشك البكاء فعلاً، وقد ضمّت يديها كأنها تصلي.
جنوب المملكة كان يعتبر المخلوقات الشريرة تجسيداً للشر المطلق، لذا كان الخوف أمراً طبيعياً على فتاة شديدة الإيمان مثلها.
“و… وصل خطابان. الأول من دوق أنسغار…”
فتحت الفتاة الورقة بسرعة بعد أن لاحظت نظرة أديل. كانت الورقة مهترئة ومجعدة من شدة قبضتها عليها.
“يقول… رجاءً… ألا تغادري مكانك الحالي… قدر الإمكان…”
“والخطاب الآخر؟”
“من… جلالة الإمبراطور. يأمر… بأن تتوجهي فوراً إلى القصر الرئيسي… للقاء خاص.”
“……ومتى؟”
“ا… الآن… ح-حالاً…”
أغمضت أديل عينيها بتعب. كلا الرسالتين كان التعامل معهما صعباً.
كانت تعلم أن طاعة فالنتين ستكون الخيار الأفضل… ولكن تجاهل أمر الإمبراطور مستحيل تقريباً.
“يبدو أن فالنتين غير قادر على المجيء الآن… لا يكون قد حدث له شيء؟”
لم تعرف لماذا غيّر الإمبراطور موقفه فجأة بعد أن قال فالنتين إن الحديث انتهى جيداً.
عضّت أديل شفتها بقوة.
هل تتظاهر بالمرض؟ تقول إنها متعبة؟ لكنها أرسلت رسالة عاجلة… هل سيصدقونها؟
“ربما… ربما لو كسرت قدمي فعلاً…”
“يا… يا سموّ السيدة…”
رفعت أديل رأسها من تفكيرها القاتم عندما نادتها الخادمة مجدداً.
“أعتذر… لكن… قبل قليل… جاء رسول الإمبراطور… ومعه فرسان… وهم ينتظرون في الخارج.”
“يا سموّ السيدة.”
لم تكد الخادمة تنهي كلامها حتى سُمع طرق ناعم على الباب. صوت رجل لم تسمعه من قبل.
“جلالة الإمبراطور يستدعيكِ. سنرافقكِ الآن.”
كان الأمر يبدو وكأنه لا مجال للهروب. شعرت أديل بالعجز للحظة، ثم رفعت صوتها قليلاً:
“أحتاج بضع دقائق فقط. ما زلت أبدل ملابسي.”
“الوضع عاجل.”
“وإذا ذهبت دون ملابس مناسبة، فسيغضب جلالته. هل هذه مسؤوليتي؟”
“……أ… أرجوكِ أسرعي. لا يمكننا الانتظار طويلاً.”
تراجع الرجل بضع خطوات عن الباب. عندها انحنت أديل قليلاً نحو الخادمة وهمست:
“هل هذا كل ما كان مكتوباً في رسالة الدوق؟”
الانستغرام: zh_hima14
التعليقات لهذا الفصل " 108"