خبيثًا إلى درجة أنه يشبه أسلوب فالنتين، وأحيانًا كانت نبرة صوته وطريقة حديثه تبدوان متطابقتين تمامًا، حتى إن المرء لا يملك إلا أن يصغي إليه.
حتى الآن، مع أنها تعرف أن كل ما يخرج من فمه ليس سوى كذب وخداع، إلا أنها وجدت نفسها تُنصت. أخذت أديل نفسًا عميقًا ببطء.
تماسكي. ميّزي بين ما يمكن تصديقه وما لا يمكن. وإن تعذّر عليكِ التمييز، فلا تصدقي شيئًا.
لا تسمعي، لا تصدقي، ولا تفكري بعمق. هكذا أقسمت لنفسها، كمن يمشي فوق طبقة رقيقة من الجليد.
ولم تستطع مواجهة ميخائيل بعين ثابتة إلا بعد أن كررت القسم في قلبها مرارًا.
“يا سمو الأمير، ما تقولونه… يصعب عليّ فهمه في وضعي الحالي.”
“أليس لأنكِ عقدتِ العزم ألا تصدقي أي كلمة تسمعينها؟”
“كما قلت. في الحقيقة… أعتقد أنني سأكون هكذا مهما كان ما أسمعه الآن.”
“…….”
“لا أستطيع أن أُعطيكم أي جواب الآن. سيعود زوجي قريبًا… وسنناقش الأمر عندها.”
كان ذلك رفضًا ضمنيًا، لطيفًا لكنه واضح.
ولم تذكر فالنتين عبثًا؛ كانت تأمل أن يتراجع ميخائيل بمجرد ذكره.
فهو يعلم أنه في الماضي لم تكن تجرؤ حتى على النظر مباشرة في وجه فالنتين.
ويعلم أنه حتى حين كان جسده ممزقًا ومتهالكًا، لم يكن يجرؤ على انتهاك حرمته.
ولهذا قبض على عقل أميرةٍ ضعيفة، واستعملها خنجرًا ليطعن بها فالنتين بدلًا من مواجهته.
حتى يجعله، وهو يعرف الحقيقة، مضطرًا لتلقي الطعنة دون أن يرد.
ولا يمكن السماح بتكرار الخطأ ذاته مرة أخرى. رفعت أديل يدها مشيرة إلى الباب.
“إن لم يكن لديكم ما تضيفونه… فالرجاء أن تعودوا أدراجكم. وأرجو كذلك أن ترفعوا السحر عن فرسان أنسغار ومارغريت.”
ارتفع جانب شفتيه كمن يجد في صلابتها أمرًا مسليًا. ضحكة قصيرة، مفتعلة، انطلقت منه.
“كان يمكنني توقع كرهكِ… لكنه أسوأ مما ظننت. حتى حين يتعلق الأمر بحياة ذلك الوغد، لم أتوقع أنكِ ستبقين هكذا.”
“أيًّا كان ما ستقولونه الآن، فأنا—”
“أنتِ تتصرفين هكذا… مع علمكِ أن ذلك الوغد يحتضر؟”
يحتضر؟
حدقت أديل في ميخائيل مشدوهة، ونسيت حتى الجملة التي كانت تنطق بها. لبرهة… نسيت أن تتنفس.
“لم تكوني تعلمين، على ما يبدو. كم هذا مؤسف.”
ذلك الاضطراب العابر كان بالنسبة إليه إجابة كافية. أطلق تنهيدة قصيرة وتابع:
“في الحقيقة… أنا لا أكرهه إلى هذا الحد. لطالما رأيته وقحًا… ينعم بقوة ليست له، وصادف فقط أن حصل عليها. لكن رغم ذلك، فهو أخي.”
“…….”
“فساد قوته هو ما بدأ كل شيء. والناس يسمون ذلك الفساد قوة السحر. وهذا شيء يعرفه الجميع.”
كان ذلك تصريحًا وقحًا من شخص هو نفسه من صنع الفساد من القداسة التي تسري في العالم من أثر فالنتين.
بدلًا من الرد على تلك الحقيقة، أغلقت أديل جفنيها ببرود.
“المشكلة أن من يتعرض للفساد طويلًا… يتحول في النهاية إلى شيء مشوّه. السحرة والساحرات الذين استخدموا السحر… كلهم تحوّلوا إلى وحوش.”
“…….”
“اندفاع لا يمكن كبته، عنف، وعيون تتحول إلى الأحمر… كلها تغييرات تحدث خلال عشرة أيام من التعرّض لقوة السحر. وقد يستغرق الأمر عقودًا عند البعض… لكنهم يفقدون مقاومتهم تدريجيًا، ويخسرون عقلهم في النهاية.”
“…….”
“لكن… لم كنتِ أنتِ وحدكِ استثناءً لهذه القاعدة؟”
“……ما الذي تريد سماعه مني بالضبط؟”
“ما تستخدمينه ليس مجرد سحر.”
مهما قال، كانت جميع كلماته تهدف فقط إلى زعزعتها.
وحين التزمت الصمت، ابتسم ميخائيل من طرف فمه وأردف:
“ذلك التنين الأحمق… يسكب ما تبقى لديه من القداسة عليكِ دون أن يشعر بقيمتها.”
القداسة. أصل القوة التي كان فالنتين يتحكم بها بحرية قديمًا. قوة تحولت الآن إلى شظايا بلا شكل.
“……فالنتين… يسكب تلك القوة عليّ؟ هذا غير معقول. لو كان الأمر كذلك… فأنا بالتأكيد…”
…بالتأكيد.
اغتامت عينا أديل وهي تسترجع الماضي.
كيف كان الوضع؟ هل نجحت يومًا في جمع السحر من الهواء بسهولة؟ نادرًا، وبقوة ضئيلة بالكاد تُذكر.
والآن أدركت… أنها لم تجمع السحر يومًا من تلقاء نفسها. كان فالنتين دائمًا يضخه بداخلها. وإن لم يفعل… فهي فقط كانت تستعمل السحر الذي وُلد معها.
“جسدٌ محطم إلى هذا الحد… وما يزال يحتفظ بتلك القوة. إنه أمر يدعو للدهشة. لقد كان سيحتاج إلى مئات السنين ليستهلكها كلها.”
“…….”
“نعم، لولا ذلك الحادث المؤسف.”
حادث مؤسف. نطق ميخائيل تلك الكلمة وكأنها لذيذة الطعم.
نبرته اللطيفة على نحو غريب انغرست في أذنيها بشكل مقيت.
وأدركت أديل أنها كانت تُصغي إلى حديثه أكثر مما ينبغي.
لا تفكري، لا تحكمي، وإن كان ذلك صعبًا… فأغلقي أذنيكِ فحسب…
رفعت يدها ببطء لتسد أذنيها، لكنها أنزلتها ببطء مرة أخرى.
كانت تعرف أنه يجب أن تكون حذرة، وتعرف أنه يجب ألا تستمع… لكن هذه المرة لم تستطع تجاهل الأمر.
“إذا كنت تقصد… حادثي المؤسف…”
ابتلعت ريقها، ثم أكملت:
“هل تتحدث… عن تحطم ‘وعائي’؟”
“وإلا فماذا؟ لترميم روح مكسورة، لا بد من قدرٍ مساوٍ من قوة الحياة. وعادةً… الدم هو الثمن. وحتى الروح التي تُرمَّم هكذا ليست سوى شظايا ملصقة بلصق رديء.”
“…….”
“لكن روحكِ… كانت قد تحطمت تمامًا. ورغم ذلك، استعادت كمالها كما ترين. ليحدث هذا الترميم النظيف… فلا بد أنه…”
ضيّق عينيه، وكأنه يرى روح أديل أمامه. نظرته كانت غريبة… بعيدة.
“أخمن أنّه لم تُستخدم قوة الحياة وحدها… بل جزء من أصل الحاكم نفسه.”
عادت إلى ذهنها صورة فالنتين وهو يمزق جسده، يقدّم لها دمه، ولحظة جهلها حين شربته دون أن تعرف.
ذلك لم يكن دمًا فقط… بل أصل فالنتين ذاته.
بعد أن شربت دمه… تسارعت وتيرة انهيار المعبد، وقلب فالنتين كان يخفق بعذاب، ثم… تلك الأحلام.
أحلام متدفقة مليئة بـ“ذكريات” لم تعشها قط، ولم يكن ينبغي لها أن تراها أبدًا.
حين قبلتُ بالأصل… تداخلت روح فالنتين مع روحي للحظة. ولهذا رأيتُ ماضيه… الذي لم أعشه قط.
اللحظات التي شعرت فيها بالنفور، بالغربة… بدأت تمر أمام عينيها واحدة تلو الأخرى.
ضمّت أديل ذراعيها حول جسدها المرتجف. لم تعد قادرة على الادعاء بأنها بخير.
“أنت تعني…”
“حين تُنتزع قطعة ضخمة من سدّ قد تشقق أصلًا… ماذا تظنين سيحدث؟”
“…….”
“لن يطول الأمر قبل أن يفقد ما تبقى له من مكانته الإلهية. وستتسرب بقية القداسة التي يتعلق بها… كالرمل من بين الأصابع. وعندما يحدث ذلك… سيعود للعالم تنين بيتشلِبين من جديد.”
أرادت أن تغلق أذنيها.
كل كلمةٍ منه كانت مليئة بنوايا خبيثة، مجرد طعنات تستهدفها.
وكلما ازداد اضطرابها… ازداد ميخائيل قوة وثقة. كان ذلك مخيفًا.
“أديل.”
اقترب منها ميخائيل، ووضع يده على كتفها برفق مصطنع.
حاولت أديل أن تتملص، لكنها كانت تحمل مارغريت… فلم تستطع الحركة كما يجب.
“رجاءً… دعني…”
وكلما أبدت نفورًا، ازداد قبضته قسوة.
حتى شعرت وكأن ذراعها تكاد تُنتزع. تنفست كالطريدة وقد وُضعت أنياب على عنقها.
“من يحمل جزءًا من أصل الحاكم… يُقال إنه يكتسب أهلية أن يصبح حاكم. أخي ورث أصل أبي… وصعد إلى تلك المكانة.”
“…….”
“لكن أنتِ؟ لستِ تنينًا ولا شيئًا آخر. أنتِ مجرد بشر. فلتبيعي ما تملكين مقابل ثمن مناسب… فهذا هو حدّكِ، وأقصى ما تقدرين عليه.”
ثمن مناسب. كلمة وضيعة أثارت غضبها.
“تطلب مني بيع روحي… ببساطة كهذه؟”
“نحن بحاجة إلى سدّ جديد. وأنتِ تعلمين ذلك أيضًا.”
“أنتَ لست بكامل وعيك.”
بكل قوتها تخلصت من قبضته، وحدقت فيه. نظر إلى يده التي أُبعدت بحدّة… ثم قبضها بشدة.
“أفكّر بذلك عشرات المرات كل يوم.”
خرج صوته منخفضًا، مشدودًا، وكأنه يبتلع اعترافًا مريرًا.
“أفكر… أني ما كان يجب أن أدفعكِ إلى ذلك الحقير. كنت أتمنى لو لم تكوني أنتِ. لو كنتِ امرأة يمكنني أن أطرحها أرضًا متى شئت.”
“…….”
“أندم على أنني تجاهلتُ انجذابي إليكِ… أندم على أنني أنكرتُ ما شعرت به. كان ذلك غطرسة مني.”
“…….”
“ولهذا… يجب أن أصلحه الآن.”
عينيه كانتا تلمعان بجنونٍ واضح.
“لا داعي للخوف بسبب الروح. دائمًا يوجد حل. وإن استطعنا استخراج الأصل الملتصق بروحك… فستُولدين من جديد. وفي ذلك العالم… سأكون حاكمك.”
كم كان ذلك مقززًا. مجرد الاستماع إليه كان يُشعرها بالغثيان.
“يمكنني من الآن التأثير في الحكم لصالحك. سأجعل الشهود يتراجعون عن شهاداتهم… وسأجبر المعبد الكبير على التقهقر.”
“…….”
“وإن قلتِ إنك تريدين البقاء مع ذلك الحقير المتهالك… سأقبل. طالما أن نهايته باتت واضحة.”
التعليقات لهذا الفصل " 107"