كانت حدقتاه الذهبيّتان المشرقتان نصفَ مغمضتين، لكن السعادة والمحبّة الفائضتين منهما لم تستطيعا أن تُخفيا نفسيهما. لامس جسر أنفه أنفَها بخفّة.
“أنا مرتاح لسماع ذلك.”
احمرّ وجهها حتى منابت الشعر وانخفضت برأسها. حقًا، كان غريبًا في طباعه. أهناك ما يدعو لكل هذا الفرح لمجرّد أنها خاطبته بغير الاحترام المعتاد…؟
في عتمة الفجر الزرقاء، راحت أديل تتفحّص وجه فالنتين بنظراتها ببطء وحذر.
الليلة الماضية، كانت قد رأت حلمًا قصيرًا. لكنه تلاشى بسرعة لدرجة أنها لم تعد تتذكّر محتواه.
عندما كانت تعقد حاجبيها محاولةً استرجاعه، طبع فالنتين قبلة قصيرة فوق حاجبيها.
“بمَ تفكرين هكذا؟”
“الحلم الذي رأيته أمس… يشغلني قليلًا.”
“حلم؟”
سأل بنبرة تحمل شيئًا من الدلال.
“كان حلمًا أشعر أن عليّ أن أتذكّره… سأخبرك، عندما أتذكره… لا، عندما أقول لك.”
ظلّا متعانقَين بكسل حتى طلعت الشمس كاملة، لم يتبادلا خلالها أي كلمة عن الواقع.
وبعد قليل، سُمع وقع أقدام الخدم وهم يمرون في الردهة. ارتبكت أديل وغطّت جسدها العاري بالغطاء الخفيف.
“أظن أنه… يعني… حان وقت النهوض الآن…”
ربما يدخل أحد للبحث عنه في أي لحظة. همست أديل بخجل، فطبع فالنتين قبلة سريعة على جبينها.
ثم أفلتها من بين ذراعيه واعتدل جالسًا.
تابعته أديل وهو يلتقط ثيابه التي خلعها، عاضّةً على طرف الغطاء عند صدرها.
“…….”
كانت عضلات ظهره تنقبض وتمتدّ مع كل حركة، فشردت تتبع خطوط جسده، وشعرت بأنفاسها تضيق قليلاً.
يا لروعة ذلك الجسد الذي كان…
الذي دفعها الليلة الماضية إلى حافّة الاحتمال مرارًا.
كان ضوء الصباح ينساب على كتفيه وصدره الصلبين فيزيدهما جمالًا، ويعمّق الظلال التي تُظهر اختلاف جسده عن جسدها، مذكّرًا إياها بما كان بينهما قبل ساعات فقط.
لا إراديًا، شدّت أصابعها على طرف الغطاء.
“…….”
ما إن ارتدى فالنتين بزّته العسكرية وأزررها حتى أعلى الياقة، حتى استطاعت أخيرًا أن تحول نظرها عنه. دفنت خديها الساخنين بين ركبتيها وابتلعت ريقها.
سمع صوت البلع، فابتسم وهو يضيق عينيه الذهبية بخبث.
“بماذا كنتِ تفكرين لتصبحي بهذا الوجه؟”
“لا… لا شيء…”
“كان ذلك قليلًا عليكِ؟”
أمسك خدّها بأصابعه الطويلة ورفع وجهها نحوه. ثم مال بخفّة وطبع قبلة على شفتيها المفتوحتين بدهشة.
“لو كنت أعلم، لما توقفتُ حتى لو توسّلتِ باكية.”
كان بريق عينيه الذهبيتين الضيقتين بالغ المكر. نظرت إليه أديل بصدمة لا تصدّق.
“الش… شروق الشمس… أنت تقول أشياء كهذه والنهار قد طلع!”
“وشروق الشمس يجعل ذلك أمرًا لا يجوز؟ لماذا؟”
“إنه… إنه يخالف اللياقة…”
…ربما. أضافت ذلك بصوتٍ ضعيف، فضحك فالنتين بصوتٍ منخفض، ثم قبّل زاوية عينها التي صارت حمراء من البكاء.
“انتظريني قليلًا.”
اختفى نحو غرفة الجلوس، وعاد بعد لحظات بكأس ماء. ولم تدرك إلا حين رأته أنها كانت عطشى بشدّة.
“اشربي. صوتك كلّه مبحوح.”
بكت طوال الليل حتى نفد الماء من جسدها، وهذا طبيعي.
لكنّ ما فاجأها هو أنه، رغم عدم اعتياده الجسد البشري، لاحظ الأمر قبلها واهتمّ به.
أمسكت الكأس بكلتا يديها وكأنها تمسك شيئًا ثمينًا.
فالاهتمام القادم من شخص ليس معتادًا حتى على هيئة البشر… بدا لها أشبه بإثباتٍ جديد.
“شكرًا… أقصد… سأشربه جيدًا.”
تلعثمت وهي تحاول التخلّي عن أسلوب مخاطبته الرسمي المعتاد. لم تعتد بعد على تركه.
أعاد فالنتين شعرها الملتصق بجبينها إلى الخلف بلطف. أحاطت بشرتها نسمة باردة منعشة—ربما استخدم سحره.
وعندها، شعرت بشيء مريب.
لماذا؟ هذا مختلف عن المعتاد. السحر الذي يستخدمه فالنتين… اليوم يبدو غريبًا…
شهقت بدهشة. عادةً ما يبعث سحره شعورًا بالامتلاء والراحة، لكنه اليوم بدا… غير ذلك.
…كيف أشرح هذا؟
“أديل.”
رفعت رأسها فور سماع صوته.
“حان وقت لقائي مع الإمبراطور. سأخرج الآن. سيحرس فرسان أنسغار بابكِ. إن احتجتِ شيئًا فلا تتحركي وحدكِ، نادي مارغريت.”
“فرسان؟ لحراستي؟”
“نعم. سأعود بأسرع ما أستطيع، لكن فقط تحسّبًا…”
هل ظهر القلق على ملامحها؟ إذ توقف فجأة عن الكلام وأمسك يدها بقوة.
“لا تقلقي بشأن أي شيء. كل شيء سيجري كما ينبغي.”
رفع يدها الموضوعة بهدوء على حجرها، وقبّل ظهرها قبلة خاشعة.
“حتى رغبتكِ الأخيرة… بأن تعيشي حياتكِ حتى النهاية كإنسانة—سيتحقق كل ذلك.”
كان وجهه وصوته حين قال ذلك…
فجأة اجتاح أديل خوفٌ عارم.
“ما الذي يحدث بالضبط…؟”
“سأشرح لكِ لاحقًا. لم يعد هناك وقت.”
اقترب وقع خطوات الفرسان في الممر، فاعتدل واقفًا. أسرعت أديل إلى الإمساك به.
“انتظر، فقط… لحظة…”
“نعم؟”
“ألا يمكنك أن تخبرني بما يجري؟ أريد أن أعرف. خصوصًا إن كان الأمر يتعلق بي… بمعاملتي هنا…”
اختفت ملامح التعبير عن وجه فالنتين شيئًا فشيئًا. عضّت أديل شفتها بقلق. ماذا لو رفض؟
ماذا لو عاد الوضع كما كان عند وصولها القصر؟
حيث لم يُسمح لها بالذهاب إلى أي مكان دون إذن.
أو… كما كان في الماضي البعيد.
“إن كان بوسعي فعل أي شيء… أريد على الأقل أن أعرف وأقرر بنفسي.”
“…….”
“لا أريد هذه المرة… أن أندم لاحقًا لأنني تركت الأمور تجرفني بلا إرادة.”
شدّت أديل يد فالنتين بقوّة أكبر. وحين امتلأت نظراتها بالرجاء والذعر، تنفّس فالنتين بعمق ثم احتوى خدّها براحة يده الخشنة.
“لا أريدك أن تشعري بقلقٍ لا داعي له.”
مرّ إبهامه بنعومة على خدّها قبل أن يتردد قليلًا، ثم قال بصدق:
“تُجرى الآن محاكمة بشأنك. فرسان الهيكل الذين رأوكِ تنقذين المرأة اتهموكِ بالسحر، ويوآخيم وأوسكار أدليا بشهادتهما.”
“محاكمة؟ ش… شهادة؟”
رمشت أديل بعينين مذهولتين، غير مصدقة ما تسمعه. ثم تذكرت شيئًا فجأة وسألت بارتباك:
“م… مهلاً. هل كنتَ حاضرًا في المحكمة؟ هل أنت بخير؟”
ضيّق فالنتين عينيه قبل أن يرفع ذقنها فجأة ويقبّلها مباشرة.
كانت قبلة أعمق من المعتاد، كأنه يعاقب لسانها على قولٍ خاطئ. ولهاثها المتسارع جعله يبتعد لحظة، وكأنه يمنحها فرصة لالتقاط الأنفاس.
“آه…”
ما لبث أن عاد ليبتلع شفتيها المرتعشتين في قبلة أخرى.
تعلّقت أديل بياقة بزته العسكرية، غير قادرة على التنفس جيّدًا. وقد تجعدت بزته التي رتّبها بعناية تحت أصابعها دون انتباه.
امتزجت أنفاسهما، وترددت تنهدات أديل مضطربة. كان تقديم شفتيها له دائمًا يجعل وجودها كلّه يتشابك ويضطرب.
وضع يده الكبيرة على مؤخرة عنقها الساخنة.
وفي نهاية تلك المداعبة اللذيذة، افترق فمه عن فمها ببطء. نظر إليها وهي تلهث، وسأل بهدوء:
“بخير؟ بأي معنى؟”
“حين… حين وضعتَ الزيت المقدّس… في المرة الماضية… ت… تعذبت.”
وقبل أن تكمل، سحبها إليه أكثر وانقلب بها على السرير. احمرّ وجهها أكثر وهي تضيف بارتباك:
“قبل المثول أمام المحكمة، يضعون الزيت المقدّس على الجبين والشفاه… أردت بسؤال… هل كنت بخير؟”
كانت “القوة الإلهية” المنسوبة لمورغ تطرد الشياطين، والزيت المقدس أحد أقوى تجلياتها.
وقد رأت بعينيها كيف اختل جسد فالنتين بعد أن لعق الزيت الذي كان على شفتيها ذات مرة؛ لم يستطع حينها الحفاظ على قشرته البشرية للحظات.
“همم.”
لكن فالنتين بدا غير متأثر إطلاقًا.
مالت عينيه قليلاً وكأنه يقيس ردود فعلها، ثم لامست شفتاه كتفها العاري وهو يسأل:
“هل تريدين معرفة السبب… أم النتيجة؟”
“كِلاهما… أنا فقط… قلقت.”
أزاح الغطاء عنها، ومرّت أصابعه على خصرها الرفيع.
وانخفضت شفاهه إلى أسفل عظمة الترقوة. بدأ صوتها يبتلّ ويمتلئ رجفة.
يا إلهي…
من خلف الجدار مباشرة كان الخدم يسيرون ذهابًا وإيابًا.
وهي هنا… بهذه الحالة… تترك نفسها له تمامًا.
وضعت يديها على كتفيه، لا تدري هل تدفعه أم تجذبه، فيما تفقد نظراتها التركيز شيئًا فشيئًا.
“فالنتين…”
كانت عاجزة عن المقاومة وعن الاستسلام الكامل.
“هناك… هناك الكثير من الكهنة الكبار في المحكمة…”
“لا يهم.”
قبض على معصمها بيده القوية، ضاغطًا عليه برقة حازمة.
نظراته التي التقت بها كانت عميقة، وصوته الذي همس قرب أذنها أكثر عمقًا.
“الآن… لم يعد يهم.”
“ماذا؟ ماذا يعني لم يعد يهم؟ الزيت المقدّس… لم يعد يؤذيك؟”
ضيّق عينيه قليلًا، وكأنه يفكر من أين يبدأ الشرح، فيما كانت يده تتابع تحسس جلدها دون توقف.
“القوة الإلهية كانت في الأصل مصدرها أنا، لكنها تغيّرت مع الزمن. أصبح العالم يعترف بها كقوة مستقلة. إيمان البشر الراسخ بـ‘مورغ’ جعل ذلك ممكنًا.”
“……”
“ومن هنا وُلد الانقسام بين ‘القوة الإلهية’ و‘الطاقة السحرية’. أما البشر الآن… فهم يرونني سيد الظلال والوحوش، والتنين الشرير.”
“……”
“كما كنتِ أنتِ تؤمنين بذلك سابقًا.”
“آه…”
“لا ألومك. أنا من محوتُ ذاكرتك أصلاً.”
“……”
“لكن كي تستقر القوة الإلهية في جسد تعرّض أولًا للطاقة السحرية، يجب كسر الوعاء—الروح.”
حتى وهي نصف غائبة بالحرارة والارتباك، تذكرت تلك الجملة.
كان وجه فالنتين حين أخبرها بذلك مليئًا بالحزن.
روحها تعرّضت أولًا لطاقة الظلال، ولذلك كان إدخال القوة الإلهية يتطلب كسر ذلك “الوعاء”.
“ولإصلاح الروح المكسورة… يُحتاج إلى دم. ولهذا، لبعض الوقت… أشتاق إليه بشكل غريزي.”
ارتعشت أديل.
ذكريات قطيع الأغنام النافق، دخان الجثث المحترقة.
تذكرت الهمسات عن الجثث الخالية من الدم تمامًا.
يا لعجب الأمر…
أن يكون هذا المخلوق المرعب، الذي كان يرعب وجودها نفسه…
هو ذاته من يلامسها الآن مع أول ضوء الصباح.
“فال… لين…”
لهاثها الناعم جعل اسمه يذوب فوق لسانها. انتزع فالنتين الغطاء عنها، كاشفًا جسدها للضوء.
نظر إليها بجمال لا يُحتمل، يتقطر منه الشغف.
جمع شعرها بين أصابعه، ومرّ بفمه على عنقها ثم طول بشرتها البيضاء. راح كفه الحار تمسح بطنها ببطء.
“في الماضي، كنتُ أرقّع أرواح البشر الذين تمنّوا لي الأمنيات كي أستطيع خلق أوعية جديدة. ولهذا كانت قابلة للكسر من أقل تأثير.”
“…آه.”
“أما الآن… فلم يعد هناك أي احتمال لحدوث ذلك.”
كانت نبرة تأكيده رشيقة، واثقة.
ومع ذلك شعرت أديل بخللٍ صغير في طريقة كلامه.
لكن شفتاه… كانتا رقيقتين لدرجة تجعل التفكير مستحيلًا.
“أديل.”
ناداها بصوت منخفض، ففتحت عينيها بصعوبة.
تضيّق بريق الذهب في عينيه. وفي لحظة ابتلعها ذلك الابتسام الساحر… عرفت أديل بالفطرة:
التعليقات لهذا الفصل " 102"